ليس معتادا أن يتنازل الناس عن هوياتهم الفرعية ، مهما
كانت قليلة الاهمية عند الآخرين. بعد الحرب العالمية الثانية ، تبنى الاتحاد
السوفييتي ودول المعسكر الشرقي ، استراتيجية موسعة لتفكيك الهويات الدينية
والقومية والاقليمية ، واستبدالها بما أسموه "هوية سوفييتية واحدة". بعد
اربعة عقود فحسب ، رأينا كيف تحولت تلك الهويات المقهورة ، الى عوامل هدم للهوية
الكبرى. هذه التجربة المريرة تكررت في دول اخرى ، وثبت عيانا ان القهر الايديولوجي
او القومي والديني ، لايفلح أبدا في تفكيك الهويات الصغرى او قتل ثقافتها.الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يحتضن نسخة من القرآن الكريم، في مسجد النبي عيسى - غروزني، الشيشان
معرفتنا بهذه النتيجة ، لا تكفي لحل المشكل الواقعي ، اي
الارتياب القائم بين المجموعات الاثنية المختلفة ، وهو ارتياب يتحول الى قلق مزمن
، وخوف عند كل طرف من نوايا الآخر.
لهذا السبب ، نحتاج لفهم ظاهرة
التنوع والتعدد في الهوية ، سواء كان تنوعا عموديا كالاختلاف الديني والعرقي
والجندري ، أو كان أفقيا كالاختلاف الطبقي والثقافي والسياسي ، الخ. كما نحتاج لوضع
الظاهرة في إطارها الصحيح ، كي نشخص المشكلات بدقة ، بدل ان نغرق في انفعالات
اللحظة.
تلافيا للتعقيد الذي يلازم هذه المسائل
، سأخصص هذه الكتابة لايضاح ان التنوع قد
يتحول الى تضاد وتنافر بين الهويات ، لكنه في غالب الحالات مجرد تزاحم ، سببه مادي
او ثقافي ، وقد يكون مؤقتا. هذه نقطة مهمة لأن كثيرا من الناس يغفلون الفارق
الكبير بين الاثنين. سوف اعرض في مقالات قادمة جوانب اخرى ، إذا وفق الله.
هنا ثلاثة امثلة واقعية على
التضاد والتنافر بين الهويات. المثال الاول سياسي من ايرلندا الشمالية ، كان يتحدث
للتلفزيون قائلا: انا ايرلندي ولست بريطانيا. فقال له المذيع: انت عضو في البرلمان
البريطاني وتحمل جواز السفر البريطاني ، فيرد ذاك مرة اخرى "انا
ايرلندي". وقد سمعت تكرارا لهذه القصة بنفس التفاصيل تقريبا من أديب كردي –
تركي ، أكد خلال حديثه مرة بعد أخرى انه كردي وليس تركيا. وسمعت شبيها لهذا من شخص
مصري ، يقول انا اتحدث اللغة العربية لكني لست عربيا ، ولا اريد الانتساب الى العروبة.
فالواضح ان هؤلاء الاشخاص ينظرون للهوية الأوسع كضد لهويتهم الخاصة ، وان الزامهم
بالاولى يؤدي بالضرورة الى الغاء الهوية الاخرى. الايرلندي لا يرى بريطانيا وطنا
له ، ولو حمل جوازها ، وكذلك الكردي في تركيا.
وفقا لابحاث أجريتها في سنوات
ماضية ، فان الشعور بالتنافر والتضاد محدود جدا ، ومحصور بين فئات صغيرة متطرفة.
وهذا يشمل حتى المجتمعات التي تتعرض لقهر شديد ، ولعل اقرب مثال على هذا هو
العلاقة الحالية بين الروس والمسلمين ، من سكان الجمهوريات التابعة للاتحاد الروسي
او الجمهوريات التي كانت متحدة معه ثم استقلت. فرغم التاريخ الطويل للصراع ، الا
ان الميل السائد حاليا ينحو للتسالم والتعايش وتناسي ذلك التاريخ. بل نجد هذا حتى
في الدول التي شهدت صراعات أهلية كحال الشيشان ورواند ونيجريا وايرلندا وسيريلانكا
، على سبيل المثال.
تبدأ المشكلات حين يسعى أحد
الاطراف للاستئثار بما هو مشترك بين المواطنين. واوضحها الفرص المتاحة في المجال
العام ، كفرص الاثراء والوظائف والتعبير الحر عن الذات. ونعلم ان هذا حصل للاكراد في
تركيا ، حين حظرت طيلة 40 عاما استعمال اللغة الكردية في المدارس والمؤسسات
الرسمية والصحافة والاجتماعات العامة. وحصل شيء قريب من هذا في العراق وسوريا
وايران ، الأمر الذي أدى لتفاقم التنافر بين الهويتين الوطنية والقومية ، وتبرير
الحديث عن كردستان كوطن قومي.
بعبارة اخرى ، فان الوضع
الطبيعي لعلاقة الناس مع بعضهم هو التعايش والتسالم. وهو وضع سيبقى قائما لأمد
طويل ، طالما لم يتعرض اي طرف لعدوان يتصل خصوصا بمكونات الهوية. ولهذا فان أبرز
عوامل ترسيخ الوحدة الوطنية ، هو تبني الحكومات لسياسة عليا تحول دون امتهان الهويات
الصغرى او محاولة تفكيكها ، أيا كان المبرر.
الخميس - 07 ربيع الثاني 1446 هـ - 10
أكتوبر 2024 م
https://aawsat.com/node/5069567