30/11/1998

اشكالية التعدد في اطار الوحدة



عندما تنظر إلى مجتمع عربي من الخارج ، فسوف تراه شريحة واحدة ، يشبه كل فرد فيه الآخر ، في ملامحه وفي كلامه وتفكيره ، وفي نمط حياته ، وهذا من طبيعة العقل الابتدائي ، الذي يميل إلى التعميم ويتفادى التفاصيل ، إذ التفصيل يحتاج إلى تأمل وبذل شيء من الجهد الذهني .

وبالنسبة لكل عربي فان هذا التقدير الأولي ، مرغوب ومطلوب ، كصورة نهائية للمجتمع الذي يود أن يراه ، فهو يعكس ـ ولو على مستوى الاستعارة والمجاز ـ فكرة الوحدة التي تعتبر ثابتا من ثوابت التفكير العربي والاسلامي ، وأملا عزيزا على قلب كل عربي ومسلم .
ربما كان الاستعمار ابغض شيء عند المسلمين المعاصرين ، فهم يرونه تجسيدا مقاربا لمفهوم الشيطان ، الذي يؤكد النص الديني على عداوته المطلقة للانسان وخالق الانسان ، ويحتفظ كل مسلم في ذاكرته بفكرة تعد من الثوابت والبديهيات ، خلاصتها أن الاستعمار سعى بكل دأب إلى تفريق الأمة الاسلامية وتقسيمها ، فكأن الاستعمار هو الشيطان الذي يقول عنه القرآن (إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء) ولهذا فان كل مبادرة أو مسعى ، يشم منه رائحة الاختلاف عن التيار السائد ، فانه ينسب إلى خطة استعمارية .

 لقد تحول العداء للاستعمار ، إلى موضوع إجماع بين المسلمين ، فكل من تصدى لهذا الأمر أو دعا إليه ـ ولو على مستوى الخطابة ـ حصل على تقدير العامة وتأييدهم ، ذلك لان مقاومة الاستعمار هي الوجه الثاني للكفاح من اجل الوحدة .
والوحدة ، فوق أنها مطلب إنساني فطري ، فهي إحدى الأولويات الدينية الكبرى ، التي دعا إليها القرآن بصورة مباشرة وغير مباشرة .

ومع كل التأكيد على ضرورة الوحدة ووجوب الحفاظ عليها ، فان المجتمع المسلم لم يكن في يوم من الأيام ، موحدا بالمفهوم الذي يتخيله معظم الناس ، فقد كان هناك على الدوام آراء متباينة وتفسيرات مختلفة واجتهادات متعددة ، على المستوى الفكري والعقيدي ، وعلى المستوى الاجتماعي حافظت القبائل والطوائف والأعراق ، على قدر من الخصوصية والتميز عن غيرها ، وعلى المستوى السياسي كان الوصول إلى السلطة وممارستها ، موضوعا ثابتا للخلاف بين مراكز القوى ومجموعات الضغط المختلفة ، وعلى المستوى المعيشي كان هناك فقراء وأغنياء ومتوسطون .

في ظل هذه التباينات التي هي من سنن الحياة ، بقي المسلمون أمة واحدة ، ذلك أن الوحدة في حقيقتها هي اجتماع المختلفين على قواسم مشتركة ، وكانت شهادة أن لا اله إلا الله ، والشعور بالمصير المشترك ، والمصلحة الظاهرة في الوحدة ، هي هذه القواسم .

العجز عن تصور معنى التعدد في إطار الوحدة  ، هو واحد من ثمار انقطاعنا الثقافي عن تجربة اسلافنا في العصور الاسلامية السابقة . وبسبب هذا العجز فاننا نتطلع اليوم إلى وحدة قوامها انصهار المجموع في بوتقة واحدة ، اجتماعية وثقافية واقتصادية ، انصهارا يذيب الفروقات الفردية ، ويلغي ذاتية كل فرد واستقلاله .

 نجد هذا الشعور الخفي ـ لكن المسيطر على سلوكنا ـ في الضيق بالآراء المختلفة حتى لو لم تكن متناقضة أو متعارضة ، ونجدها في التوجس من تعبير الطوائف الاجتماعية أو الجماعات السياسية ، عن ذاتها وأفكارها بصورة صريحة أو من خلال رموزها الخاصة ، حتى ضمن السياق الايجابي الذي يتحاشى نقد الغير ، ونجدها في القلق الشديد من كل تشكل اجتماعي ـ سياسي أو فكري ـ متميز عن التيار العام .

وبصورة عامة فان مفهوم الوحدة الذي نحمله ويتبادر إلى أذهاننا ، يختلف عن مفهوم الوحدة الحقيقية ، كما لا يطابق حقيقة الوحدة التي كانت سائدة في عصور الاسلام السابقة . يصعب علينا اليوم فهم إمكانية ان يكون هناك تعبيرات عن الدين مختلفة ، وهي في نفس الوقت صحيحة ، أو ـ على اقل التقادير ـ مبرئة للذمة ، ويصعب علينا تصور ان الطريق إلى الله ليس محددا في مذهب معين ، أو اجتهاد مخصوص ، كما يصعب علينا أن نتعايش ، إذا كنا على خلاف في بعض المعتقدات أو الفروع الفقهية .

 ويضيف القلق الدفين من مؤامرات الاستعمار على الوحدة الاسلامية ، زيتا على نار الرغبة المحمومة في التماثل ، فكلما رأينا مختلفا يعبر عن رأيه ، أو يعلن عن نفسه ، استذكرنا سياسة (فرق تسد) التي سار عليها الاستعمار ، فنسبنا ظهور هذا الاختلاف إلى مؤامرة استعمارية جديدة ، أو رميناه بالتعاون مع الاستعمار أو ـ مع إحسان الظن ـ خدمة أغراض الاستعمار دون وعي .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...