كشف الدوري العالمي لكرة القدم (المونديال) المقام في العاصمة القطرية ، تجارب في العلاقات الإنسانية ، نادرا ما تظهر في مناسبات أخرى. وأبرزها في رايي تقبل الغريب ، و "الاضطرار" لتجربة التسامح ، سيما بالنسبة لمن لم يجربه او اعتاد انكاره قبل ذلك. يعد المونديال مناسبة استثنائية ، لأكثر من سبب ، أولها أن الجميع ، المتسامحين والمتعصبين ، يريده ان ينجح او على الاقل ان يمضي بلا خسائر. ولهذا يدرك الجميع ان من يحاول التشويش ، سوف يكون في مرمى سهام الجميع ، ولن يشفع له أحد. السبب الثاني انه حدث مضغوط جدا من حيث الوقت والمكان ، فهو أشبه بفيلم سينمائي يحكي في ساعة واحدة احداثا تستغرق ، في الظروف الطبيعية ، شهورا او سنوات.
امير قطر يهدي ميسي - بطل فريق الارجنتين - العباءة العربية |
ومن هنا فان الجميع يستذكر كل ما يجري من احداث وما
يتولد عنها من انطباعات او مواقف. صور الناس والحوادث ومعانيها: من الفتاة التي
تجرب الحجاب ، والاخرى التي كشفت عن مفاتنها ولفتت انظار الحاضرين وكاميراتهم ، الى
شعار ".... كسرنا
عينه" الى رفض
احد الفرق ترديد النشيد الوطني لبلاده ، وحتى توزيع الاهالي الحلويات على
اللاعبين والمتفرجين ، وصولا الى مطاعم "البيك" السعودية المعروفة ،
التي جهزت مطاعم متنقلة لبيع منتجاتها ، من أجل التعريف بماركتها في انحاء العالم..
الخ.
ما جرى في هذا الحدث الضخم يكشف حقيقة ان الناس
جميعا ، كانوا مستعدين للتغاضي عن الفوارق الثقافية التي تبعدهم عن بعضهم. بل
رأينا بعضهم يبادر فعلا بتحويل هذه الفوارق الى عوامل للتفاهم والتلاقي. من ذلك
مثلا ، محاولة بعض الضيوف الحديث بلغة الآخرين او ارتداء ازيائهم او الغناء معهم ،
او حتى مجرد الاستماع اليهم ، واستقبال الطرف الثاني لهذه المبادرات ، باعتبارها
"مشاركة في المرح". فهذه وتلك ، تدل جميعا على ان جمهور الناس يمكنهم ان
يغفلوا – ولو مؤقتا – دواعي الفرقة والخصام ويعاملوا بعضهم ك "بني آدم"
وان اختلفت مصادرهم او مشاربهم.
لعلنا نتذكر
احيانا الكلام الثقيل الذي يقوله أرباب الايديولوجيا ، عن مخاصمة الكافر واظهار
النفرة منه. وهذا مثال عن توجيهات كثيرة ، يزعم بعضها انه يرتدي عباءة الدين ، ويلبس
غيره عباءات قومية او وطنية ، او غيرها.
لكن أهل
التقاليد وأهل الحداثة ، الفقراء والأغنياء ، اظهروا جميعا قدرة فائقة على التلاقي
والتفاهم. نعلم طبعا ان الناس يختلفون في المصالح. ولو بقي هؤلاء مدة أطول فلربما
اختلفوا وتنازعوا. لكننا نتحدث هنا عن القابلية والدوافع العفوية ، التي تشكل الدافع
الأقوى والأكثر تأثيرا في تعاملاتنا مع الناس. ان الجهل بالغير هو ابرز أسباب التناكر
، وهذا امر يشترك فيه كل البشر. وقد ورد في الأثر "الناس أعداء ما جهلوا".
لكن ثمة عوامل تعزز هذا النزوع الطبيعي وتبرره ، فتحوله الى سلوك حاكم ومرغوب. بمعنى
آخر ، فانه بدلا من أن يقول الانسان لنفسه: عليك بالتعرف على الناس كي لا تعاديهم
بلا مبرر ، فسوف يقول هو لنفسه او سيقول له آخرون: ستكون اقرب الى الفضيلة لو
انكرت هذا وعاديت ذاك ، لأن العلاقة بين الناس مشروطة باتفاقهم في العرق او الدين.
زبدة القول ان
مناسبة "المونديال" أظهرت ان المسافات قصيرة بين بني آدم ، وأن كل ما
يحتاجونه هو الغفلة ، ولو مؤقتا ، عن دواعي التناكر والتنازع ، والعودة لفطرتهم
الأولى ، أي نزوعهم للعيش مع بقية بني آدم. كل ما نحتاجه هو تذكير انفسنا بهذه
الحقيقة ، وتهميش دواعي الخصام والتنازع والتناكر ، حتى تلك التي ترتدي عباءة
مقدسة.
الأربعاء - 13 جمادى الأولى 1444 هـ - 07 ديسمبر
2022 مـ رقم العدد
[16080]
https://aawsat.co/node/4029056
مقالات ذات علاقة
ان تكون مساويا لغير:
معنى التسامح
بل التقارب قائم
ومتواصل بين السنة والشيعة
التسامح وفتح المجال
العام كعلاج للتطرف
التعايش أو التقارب..
طريق واحد
تعزيز التسامح من
خلال التربية المدرسية
سؤال التسامح الساذ:
معنى التسامح
في التسامح الحر
والتسامح المشروط
في ان الخلاف هو
الاصل وان الوحدة استثناء
كن طائفيا او كن ما
شئت .. لكن لا تضحي بوطنك