أصبح تقليديا القول بان الاسلام قد خص العلم وأهل العلم ، بالمكانة الارفع في سلسلة المراتب الاجتماعية ، وتعارف المسلمون على هذا المفهوم ، حتى استحال ثابتا من ثوابت العلاقات الاجتماعية .
مع هذا ، فان المسلمين من اقل شعوب العالم ، اعتمادا على العلم واستثمارا لنتائجه ، في شئون حياتهم المختلفة. وتدل احصائية نشرتها اليونسكو قبل اعوام قليلة ، على ان نصيب الدول العربية من انتاج الكتب ، يقل في مجموعه السنوي عن مثيله في معظم الدول المتقدمة ، كما توصل باحث لبناني في دراسة عن تجارة الكتاب في العالم العربي ، الى نفس الاستنتاج ، ولاحظ ايضا ان نسبة تفوق الثلث ، من الكتب التي تحتويها الاحصاءات الوطنية ، هي اعادة طباعة لكتب قديمة ، ويؤيد هذا المنحى استطلاعات نشرتها الصحف عن معارض للكتب ، اقيمت في اربع عواصم عربية ، خلال عامي 1988 و 1989 ، تضمنت تصريحات للناشرين ، تشير جميعها الى ان الكتب التي تحظى باكبر قدر من المبيعات ، هي الكتب التراثية على اختلاف موضوعاتها وانواعها .
نازك الملائكة (1923-2007) |
ويرجع هذا التباين بيننا وبين الغرب ، الى الفارق في مستوى
التعليم ومستوى المعيشة ، فضلا عن الصعوبات السياسية ، التي تحول دون انتشار
المصنفات الفنية ، وهذه وغيرها ناتجة بدروها عن عدم تحول العلم الى جزء من الحياة
اليومية لمعظم الناس في بلادنا.
واذا كنت ممن اتيحت له زيارة اي قطر اوربي ، فلابد انك شاهدت
مدى اهتمام الناس بالمعرفة ، فهم يستثمرون اي وقت يحصلون عليه في القراءة ، في
القطار او الباص او على مقعد في الطريق فضلا عن المنزل ، وهذا هو السبب الذي يجعل
صحيفة يومية توزع مليون نسخة في اليوم ، رغم انها ليست وحدها في الميدان ، فثمة
عشرات اخرى غيرها ، يوزع بعضها مليونا ويوزع بعض آخر نصف هذا الرقم او ثلثه .
ان الثقافة والعلم لايزال على رغم انتشار التعليم في العالم
العربي ، حرفة اقلية من العرب ، بينما يشك اكثر الناس في جدواها ، أو على الاقل في
قدرتهم على استنباط فائدة منها . واتذكر بهذا الصدد حادثة قديمة عميقة المعنى ،
شهدتها قبل عقدين من الزمن: كنت اتشاغل بتصفح ديوان "شجرة القمر" للشاعرة العراقية نازك
الملائكة ، ريثما يحين دوري عند احد المصورين ، وعندما وصلني الدور نظر المصور
من فوق نظارته متسائلا : ما هذا؟ واشار الى الكتـاب ، فاجبته بانه ديوان شعر ،
فقال مستهجنـا (يوكل خبز ؟) اي هل يطعم خبزا ؟ اجبته ضاحكا : يوكل علم ...
قال ببساطة: يعني مايفيد.
ليس غريبا بعد هذا ان تعقد المؤتمرات ، وتلقى الخطب والمحاضرات
، في الشكوى والتحذير مما يطلق عليه الغزو الثقافي والغزو الاعلامي ، والغزو
الاخير مصطلح ابتكر خصيصا ، لمناسبة انتشار الاطباق اللاقطة للقنوات التلفزيونية
الاجنبية .
- لماذا نشعر بالقلق من الثقافة الاجنبية ؟
- اليس لما عندنا من ارضية خصبة تستقبل الغث والسمين ؟
- اليس هذا بسبب الفراغ الثقافي الكبير الذي نحن فيه ، والا فما
الذي يجعلنا في قلق من امرنا ، ولانجد مثل هذا القلق عند المجتمعات المصدرة
للثقافة ؟ .
لقد مضى على قيام التعليم الحديث في العالم العربي نحو قرن من
الزمن ، وثمة عشرات الالاف من الناس يتخرجون من الجامعات كل عام ، ولازلنا ـ مع
ذلك ـ نحتاج الى الخبرة الاجنبية في كل مشروع جديد ، وفي اي مخطط للتطوير ، ثم ـ
من بعد ذلك ـ نرفع اصواتنا بالشكوى من مظاهر الغزو الخارجي لمجتمعاتنا .
هل نتخلى عن سعينا لتطوير حياتنا مع مايتطلبه هذا من استيراد
للخبرات والمعارف ؟ ام نتحمل ـ بالرضى او القهر ـ النتائج المترتبة على خيار
التطوير ، لابد لنا ان نختار ، ولابد لنا ان نختار مواجهة التحدي ، لان الحياة
لاتقبل التوقف او النظر الى الوراء .
مواجهة التحدي تعني ان نتعلم ما استطعنا من الاخرين ، وان نسعى
في الوقت نفسه لمعالجة الاسباب ، التي تجعلنا عاجزين عن الوفاء بحاجاتنا ، مضطرين
الى التطلع لما عند الغير .
ان قصورنا العلمي هو مايجعلنا مهددين بالغزو الثقافي والغزو
الاقتصادي ، وكل انواع الغزو الاخرى ، وهو ايضا مايجعلنا عاجزين عن التحرك الحثيث
، نحو مهماتنا الوطنية الكبرى ، من تصحيح مسارات الحياة الاجتماعية ، الى الاكتفاء
في ميدان الانتاج الصناعي ، الى تطوير الامكانات القائمة في مجال الغذاء ، فضلا عن
ضمان استمرار القدر المعقول من اسباب الحياة الكريمة ، اذا لم نطمع في بلوغ قدر من
الرفاهية لعامة الناس ، مشابه لما هو موجود في دول العالم الاخرى الغنية .
ويقتضي هذا اعادة نظر في الاسباب ، التي ادت الى التباعد الفعلي
بين عامة المواطنين العرب وبين الممارسة العلمية ، اني اتحدث بالتحديد عن اهتمام
عامة الناس بالعلم ، لان خاصتهم مهتمون فعلا ، لكن هذا الاهتمام ـ كما راى المرحوم
مالك بن نبي قبـل ثلاثـين عاما ـ لايجدي فتيلا ، فما الذي يستطيعه رئيس عالم اذا
كان اعوانه اميين .
نستطيع البداية بالمدرسة ، فالاهتمام المبكر بالشبيبة ضمان
لانتظام الجيل الاتي ، وهذا مشروط بتمكين طلاب المدارس ، من قراءة اي شيء خارج
المنهج الدراسي ، بتخفيف العبء الدراسي المرهق ، وبوضع منهج توجيهي خاص لتشجيع
الطلاب على القراءة الخارجية.
وحسب تجربتي الشخصية ، فلا ارى اي مجال للطلاب كي يقرأوا شيئا
خارج المقررات ، بل يعز علي ان أرى اطفالي الذين اعتادوا تخصيص وقت للقراءة ووقت
للهو ، وقد اصبحوا سجناء للمذاكرة والواجبات التي لاتنتهي ، وهذا وضع لا
اظنه صالحا او مفيدا في تطوير قدرات الطالب الذهنية او تعويده الاستراحة الى
الكتاب ، خاصة مع الطريقة العجيبة التي يتبعها معظم المدرسين ، في اجبار الطالب
على حفظ النصوص بدل فهمها واعادة انتاجها بلغته الخاصة .
اما الخطوة الثانية فهي جعل العلم ـ على اختلاف فروعه وموضوعاته
ـ مرغوبا من عامة الناس ، قريبا من مجالات حياتهم الاعتيادية ، وهذا يقتضي اعادة
النظر في بعض التقييمات التي اكل عليها الدهر وشرب ، والتي يحتاج البحث فيها الى
مجال اوسع ، فلنتركها لمقال قادم بعون الله .