‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحداثة. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الحداثة. إظهار كافة الرسائل

08/08/2024

كم تدفع لفاتورة الهاتف؟

مفهوم "الحكومة الالكترونية" بات الهدف المشترك لكل مخططات الاصلاح الاداري في عالم اليوم. ولذا فهو عنصر ثابت ، في كافة البيانات والتقارير السنوية التي ترصد تطور السوق والادارة الحكومية ، في مختلف بلدان العالم. تركز هذه التقارير على توفر الخدمات الحكومية رقميا ، بمعنى امكانية انجازها كليا او جزئيا ، من خلال شبكات الهاتف والانترنت. كما ترصد قابلية السوق المحلي لاستيعاب التطور في مجال الاتصال والمعلوماتية ، أي  إمكانية انجاز الاعمال وخدمات القطاع الخاص من خلال الشبكات أيضا.

المؤكد ان جميع الناس او ربما غالبيتهم ، يريدون جعل الحياة والسوق على هذا النحو. فهو يقلص من كلف المعيشة ، ويسهل الاعمال ، ويقلل من تأثير الفوارق الطبقية على مستوى الخدمات المقدمة لعامة الناس.

لكن ثمة سؤال لابد ان يواجه الذين اختاروا هذا الطريق: هل يأتي التحول الى نمط الحياة هذا من دون ثمن؟..

كنت قد وجهت هذا السؤال الى بعض الزملاء في مجلس ، فأجابني أحدهم بما يشبه النكتة: قال اننا جميعا نعرف الثمن ، وهو فاتورة الهاتف والانترنت الشهرية!.

-         هل حقا يقتصر الثمن على فاتورة الهاتف؟.

-         بالطبع لا.

ثمة ثمن ثقافي وآخر اجتماعي ، ربما لا يشعر به الانسان حين تعرض عليه الفكرة للمرة الأولى. لكنه – بالتأكيد – سيرى انعكاساته الواسعة بعد زمن يسير ، في نفسه وفي محيطه العائلي والاجتماعي.

"الحكومة الالكترونية" تجسيد بارز للادارة الحديثة الشديدة العقلانية ، أي التي تقوم على انظمة مكتوبة ومحددة ، على نحو يختصر الدور الشخصي للمدير ، ويحيل كثيرا من الاعمال الى الآلات ، التي لا تفرق بين زيد وعبيد ، حتى لو اختلفت مكانتهم الاجتماعية. لا نريد – بطبيعة الحال – المبالغة باظهار الامر مثاليا ، فثمة على الدوام خطوط مستقيمة وأخرى متعرجة ، لأننا ببساطة بشر يتعاملون مع بشر آخرين ، ولكل منهم خصائص نفسية وذهنية ، تختلف عن غيره ، ولا يمكن التعامل مع الجميع كما لو كانوا "روبوتات".  كذلك فان مستوى النمو التقني والاقتصادي ، يتفاوت بين بلد وآخر. وهو ينعكس على العلاقة بين الدولة والمجتمع ، وطبيعة التفاعل بينهما في كل مجال ، بما فيها المجالات التقنية البحتة. نحن اذن لا ندعي ان الاوصاف المذكورة تأتي كاملة او قريبة من الكمال. الذي يهمني في الحقيقة ، هو توضيح الاتجاه العام والرسالة الداخلية ، التي ينطوي عليها التحول نحو الحكومة الالكترونية.

لو اردنا تلخيص هذا التحول ، فسوف اجمله في نقطتين: سيادة القانون ، والمساواة بين الجميع. سيادة القانون هي ابرز تجسيدات الحياة الحديثة وهي احد الفوارق الرئيسية بينها وبين النظام القديم. وهي تقود – بالضرورة - الى النقطة الثانية اي المساواة ، حيث يتقلص ، نسبيا على الأقل ، تأثير الانتماء الاجتماعي على نوعية ومستوى الخدمات المقدمة لعامة الناس.

لا أحد – على الأرجح - سيجد القراء مشكلة في هذا. لكني أدعوهم الى التعمق أكثر في معنى المساواة ، التي تشمل أيضا تقليص الفوارق بين الرجال والنساء في مجالات عديدة ، اجتماعية وقانونية. أعلم ان شريحة من المجتمع ترحب بهذا التطور ، وهي الشريحة التي تميل – عادة – الى نمط الحياة الحديثة. لكن ثمة شرائح اخرى ، أظنها أوسع حجما ، تشعر بالقلق حين ترى الشباب والفتيات ، قادرين على اختيار أنماط عيش جديدة ، مختلفة جدا عما ألفه الجيل الأكبر منهم سنا. حين تتحول الانترنت الى جزء محوري من حياتنا اليومية ، فان مصادر ثقافتنا وطريقة تفكيرنا في الحياة ، تتغير بالتدريج. وبالنسبة للجيل الجديد فان تأثير الآباء سيكون في حده الأدنى ، وسوف تتشكل هويتهم على ضوء الصلات الجديدة التي تربطهم مع العالم ، وتوفر لهم المعلومات التي يحتاجونها.

هذا اذن مثال واحد على ما قلته في مقال سابق ، وخلاصته ان الانتقال الى الحداثة ليس اختيارا ، ولن يكون محدود الأثر.

الخميس - 03 صفَر 1446 هـ - 8 أغسطس 2024 م    https://aawsat.com/node/5048456/

 

مشكلة الثقافة الدولتية

لو سألت رأيي في رعاية الحكومة للشأن الثقافي ، بل أي تدخل لأي حكومة في الشأن الثقافي ، لترددت طويلا قبل الاجابة. واظن السبب واضحا. فدخولها في الحياة الثقافية يعني تعيين احد التيارات الثقافية ، كخطاب رسمي تعتمده اجهزة الدولة ورجالها. ونعلم ان اتخاذ خطاب رسمي ، سيؤدي – شئنا أم ابينا – لإقصاء الآراء المختلفة عنه ، وتهميش الآراء المعارضة له. نعلم أيضا ان ازدهار العلم رهن بتنوع الآراء المتاحة في المجال العام ، والاقرار بحق صاحب الرأي في مخالفة الآراء الأخرى ، بما فيها المتبناة رسميا. ان الجدل الحر هو الوسيلة الاكثر بساطة والأيسر كلفة لانتشار العلم ، وتحوله من حرفة نخبوية الى مضمون للتبادل بين عامة الناس.

لكن هذي قصة ناقصة. واستكمالها يقتضي القول ان بعض مجالات الاصلاح الثقافي ، لا يمكن إنجازها دون مساهمة واسعة للدولة ، على المستوى السياسي والقانوني خصوصا. دعني أذكر مثلا مفهوم "سيادة القانون" الذي يعد من أعمدة الدولة الحديثة والمجتمع الحديث ، وبالتالي فهو من المسارات الهامة للانتقال نحو الحداثة. سيادة القانون لا تعني وضع العديد من القوانين واللوائح ، بل التخلص من الطابع الشخصي في الادارة ، وجعلها تجسيدا كاملا للقانون. يظهر الفارق بين الحكم الشخصي وحكم القانون في مضمون ومعايير العلاقة بين المجتمع والجهاز الاداري للدولة.

بيان ذلك: لعل القراء يذكرون نقاشات الصحافة في سنوات سابقة ، حول اختلاف القضاة في الحكم على المسائل المتشابهة. ونعرف ان السبب وراء هذا ، هو اعتبار القاضي مجتهدا يحكم برأيه. وهذا من التقاليد المأثورة في الفقه الاسلامي القديم. نعرف أيضا ان هذا الاختلاف يؤدي الى ما يسمى "عدم استقرار القانون" بل عدم استقرار المعاملات ، نظرا لان الناس لا يعلمون بما يواجههم حين يضطرون للتقاضي. هذا مثال على نوع الحكم الشخصي. لكن لو كان السائد هو حكم القانون ، فان كل شخص يعرف سلفا ما الذي سيواجه لو قام بهذا الفعل او ذاك. وان لم يكن خبيرا ، فان محاميه يستطيع اخباره بما سيجري له لو وصل الأمر الى المحكمة. حين يكون القانون حاكما ، فان الافعال الممنوعة تعرف وتحدد عقوباتها ، في نص قانوني واضح. وبناء على هذا سوف يصدر كل القضاة حكما واحدا في القضايا المتماثلة ، وان المتقاضين سيحصلون على نفس النتائج ، لو وصل امرهم الى المحاكم او حتى الادارات التنفيذية المخولة باصدار احكام. يطلق على هذه الميزة اسم "القابلية للتنبؤ" وهي من العناصر المؤثرة في تكوين البيئة المواتية للاستثمار. ولن تكون ممكنة الا اذا كان القانون هو المرجع الوحيد للجميع ، وليس الرأي الشخصي للمدير أو الوزير ، مهما علا شأنه او علمه.

أظن ان جميع الناس يريدون شيئا كهذا. لكننا نواجه مشكلة حقيقية ، تتمثل في ميل بعض الناس للالتفاف على القانون ، واعتماد العلاقة الشخصية او التأثير الخطابي على المدير ، وقبول المدير لهذا النوع من التعاملات ، التي تؤدي – بالضرورة – الى تقديم الأقوى شخصية او الأقرب علاقة ، على غيره ، ولو كان الحق لهذا الغير. واذكر مديرا بارزا اشتهر بعبارة يقولها تكرارا: "اشفع تشفع" وهي دعوة مفتوحة للوسطاء والمحتاجين لوساطة. وقد برر المدير الهمام دعوته بان القانون لا يلحظ كل القضايا. وهذا تبرير معقول أحيانا. لكنه سيؤدي – في نهاية المطاف – الى الغاء القانون واستبداله بالعلاقات الشخصية.

المجتمع التقليدي يثق في الأشخاص ويعول على "كلمة الرجال" اكثر من القانون. وأصحاب السلطة والنفوذ لا يتمنعون من التعامل مع هذا النوع من المحاولات الاجتماعية ، حتى لو أدت لتجاوز القانون في بعض الأحيان. مثل هذه الحالة لا تعالج باصدار المزيد من القرارات والقوانين والممنوعات ، بل بالتثقيف الواسع النطاق وعلى كل المستويات ، حول القانون وضرورته ، وكونه أساسا للمساواة بين الناس وحاميا لحقوقهم. فهل يمكن لجهة أخرى – غير الدولة – ان تقوم بهذه المهمة؟.

مقالات ذات صلة

 

 اصلاح العقل الجمعي

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

تفاح الرميحي وتفاح سعد الدين

التقدم اختيار.. ولكن

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

الثقافة المعوقة للنهضة

الثقافة كصنعة حكومية

الحداثة التي لا نراها

الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب الحداثة كحاجة دينية

الحداثة تجديد الحياة

حداثة تلبس عباءة التقاليد

الحداثة كحاجة دينية -النص الكامل للكتاب

حول العلاقة بين الثقافة والاقتصاد

د. السيف: فقد الدِين وظيفته الاجتماعية لأنه أصبح حكرا على طبقة خاصة

رأس المال الاجتماعي

طريق التقاليد

عقل الاولين وعقل الاخرين

لمحة عن تحولات المجتمع والثقافة

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

01/08/2024

حداثة تلبس عباءة التقاليد

تعقيبا على حديث الاسبوع الماضي حول تطبيقات الحداثة التي باتت جزء من حياتنا اليومية ، قال احد الزملاء ان  السلوك العقلاني في المجالات التي ذكرنا امثلة عنها ، أداتي محدود الأثر. ومقصوده ان المجتمع يعيش في ظل الحداثة ويمارسها ، لكن من دون ان تغير بنيته الذهنية التقليدية.

هذا مثال عن إشكالات رائجة تطرح في سياقات متفاوتة. وهي تشير الى مشكلتين ، اظنهما مصدر التباين في آراء الناس ومواقفهم حيال الحداثة. المشكلة الأولى هي المسافة بين ثقافتنا الموروثة وبين المضمون الثقافي للحداثة ، المخالف لما ورثناه وألفناه. أما المشكلة الثانية فتتعلق بما يبدو مسارا أحاديا لا خيار فيه: إما الحداثة او العيش على هامش العصر.

سوف اتعرض لهاتين المشكلتين في السطور التالية. لكن يهمني أولا التأكيد على ما سبق ان طرحته ، وهو ان الحداثة ليست قصرا على النتاج الأدبي ، بل يسعني القول ان ابرز تجلياتها تقع في الحياة المادية اليومية ، وذكرت من بين جوانبها السوق والتعليم والصحة ، وأحسب ان هذه القطاعات تشكل الجانب الرئيسي من الحركة اليومية للفكر والبشر والمال ، في أي مجتمع في شرق العالم او غربه. صحيح ان الحداثة لازالت غير مكتملة ، الا ان ما نراه من تطبيقاتها التي تتزايد يوما بعد يوم ، يؤكد على نحو قاطع انها باتت سمة رئيسية لحياتنا اليومية وتفكيرنا في المستقبل.

بالعودة الى المشكل الأول الذي زعمت انه مصدر للتباين في مواقف الناس تجاه الحداثة ، فالواضح ان كل مجتمع يتخذ موقف المتشكك تجاه أي وافد جديد ، خاصة لو رآه معارضا لمألوفه الحياتي او الثقافي ، او العناصر المؤلفة لهويته. وقد ذكرت في حديث الأسبوع الماضي ان العقل هو محور الحداثة ، ونتاجه ، اي العلم البشري ، هو مصدر شرعية الأفعال ، ومعيار التمايز بين ما يصنف صحيحا وما يصنف خطأ أو فاسدا. ثم ان الحداثة لا تقيم وزنا للماضي ، بل تعتبر فعل الانسان في حاضره موضوعا وحيدا للنقاش والتقييم ، وان قيمته مرتبطة بما ينتج عنه الآن ، او ما يترتب عليه في المستقبل.

الماضي – في الثقافة الحداثية - مخزن للمعرفة ، يرجع الانسان اليه ان شاء ، يعمل فيه من اجل معرفة أدق وأعلى ، مرتبطة بزمنها الراهن. بعبارة أخرى فانه ليس للزمن سلطة فوق العقل ، كما ان الماضي على وجه الخصوص لا يتمتع بأولوية او فوقية على الحاضر. بل العكس تماما هو الصحيح ، فقد يكون العلم نتاجا صرفا للحاضر ، او قد يكون امتدادا متطورا عن علم بدأ في الماضي ولم يكتمل. في كلا الحالين ، فان علم الحاضر اعلى قيمة من نظيره القديم.

هذه الفكرة ، أي غلبة الجديد على القديم ، في القيمة والاعتبار ، اقوى من أن تقاوم ، لأن الناس يرون ثمراتها الواقعية. وهذا بالضبط هو سر المشكل الثاني ، اي كون الحداثة طريقا جبريا لا خيار فيه. هذه مشكلة عسيرة فعلا ، لكننا لا نملك خيارات ازاءها. ان اعتزال العالم ليس خيارا. وقد ابتلينا خلال نصف القرن المنصرم بطائفة من الناس اتخذوا التخويف من الحداثة عملا يوميا ، حتى ترسخت قناعة لدى شريحة واسعة من الناس ، فحواها ان تقبل الحداثة يعني تسهيل هيمنة الغرب وزوال الدين والهوية. هذا الخطاب الذي جرى تسويقه على نطاق واسع جدا ، زرع ما يمكن وصفه بعقدة ذنب في انفس الناس الذين يرون بعقولهم فضائل الحداثة ، لكنهم يخشون ارتكاب الخطيئة. 

ربما لهذا السبب نرى من الشائع في مجتمعنا ان يعيش الناس حقيقة الحداثة ويمارسونها كل ساعة ، لكنهم يلبسونها عباءة التقاليد. هذا لا يعني ان ذهنيتهم غارقة في التقليد ، كل ما في الامر ان الحداثة لا زالت غير مكتملة ، وليست – بعد – خطابا مهيمنا.

الخميس - 26 مُحرَّم 1446 هـ - 1 أغسطس 2024 م           https://aawsat.com/node/5045985/

مقالات ذات صلة

 اصلاح العقل الجمعي

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

تفاح الرميحي وتفاح سعد الدين

التقدم اختيار.. ولكن

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

الثقافة المعوقة للنهضة

الثقافة كصنعة حكومية

الحداثة التي لا نراها

الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب الحداثة كحاجة دينية

الحداثة تجديد الحياة

الحداثة كحاجة دينية -النص الكامل للكتاب

حول العلاقة بين الثقافة والاقتصاد

د. السيف: فقد الدِين وظيفته الاجتماعية لأنه أصبح حكرا على طبقة خاصة

رأس المال الاجتماعي

طريق التقاليد

عقل الاولين وعقل الاخرين

لمحة عن تحولات المجتمع والثقافة

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

25/07/2024

الحداثة التي لا نراها

صديقي محمد الحرز ، الشاعر والكاتب المعروف ، متشكك في محتوى الجدالات التي تدور حول تصنيف الحداثي والتقليدي. فهو يقول صراحة انه لا ينبغي اتخاذ التصنيف السائد في اوربا معيارا للتمييز بين اهل الحداثة ومعارضيها. ويقول ايضا انه ليس من السهل ان يتبنى شخص ما الحداثة صراحة وعلنا ، لان مجتمعنا لا زال مرتابا في هذا التوجه ومن يتبناه. في نهاية المطاف فان الحرز لا يقدم فكرة ، بل يحكي هما ، أظن ان كثيرا من الكتاب وأهل الرأي ، قد عاناه او عبر عنه في وقت من الأوقات.

محمد الحرز

وقريبا من هذا المعنى تحدث الاكاديمي المعروف د. حسن النعمي ، عن النسق الثقافي العام في العالم العربي ، الذي يميل لانكار هيمنة العقل ، خلافا للحال في أوربا ، التي تقدس العقل وتجعله محور المعرفة ومصدرها الوحيد. الحداثة تدور حول العقل وكونه مهيمنا على العالم. وهذا معيار رئيس للتمايز بين الثقافة الاوروبية المعاصرة ونظيرتها العربية ، التي تستمد معظم طاقتها من التجربة التاريخية ، وترجح النقل على العقل أو نتاجه الصرف.

الامر العجيب في جدل الحداثة والتقاليد ، في منطقة الخليج بأسرها ، ان اكثر المتحدثين عنه هم الأدباء ، واكثر المعارضين لهم هم المشايخ. أقول انه عجيب ، لأن منظومة القيم والمعايير التي تعتبر جوهر الحداثة ، منتشرة في كل جوانب حياة المجتمع ، بينما يركز الأدباء على "الأشكال" الادبية الحديثة ، أكثر من تركيزهم على القيم المعيارية للحداثة.

افترض ان العديد من الكتاب الحداثيين خصوصا ، منتبهون الى هذه الاشكالية. فمجتمعنا يتحرك بثبات واصرار نحو الحداثة ، بقيمها ومعاييرها وتمظهراتها الحياتية. لتوضيح هذه المسألة ، سأشير الى التحول الجاري في ثلاثة قطاعات ، هي التعليم ، الصحة ، والتجارة. تغطي هذه القطاعات ما يقرب من ثلثي الحراك الاجتماعي اليومي ، في بلدنا واي بلد آخر ، فهي تستقطب قوة العمل وحركة راس المال وتوجه الانشغالات الذهنية للافراد. هذه القطاعات باتت اليوم بعيدة عن القيم التقليدية ، اكثر تمثلا لقيم الحداثة ، وأشد رغبة فيها. ربما لا يرى كثير من الناس في هذه القطاعات تجسيدا للحداثة الناضجة ، لكني واثق تماما انه لا يمكن تصنيفها في الدائرة التقليدية ، ان أردنا التزام معطيات الواقع المشهود.

انظر مثلا الى المحاور الرئيسية التي تدور حولها معيشة الناس ، هل تنتمي الى عصر الحداثة ام عصر التقاليد ، اليست البنوك هي قطب الرحى في حركة راس المال؟. ثم انظر الى مواقف الناس حين يشعرون بالمرض ، هل يتوسلون بالجن والسحر والاساطير ام يراجعون الطبيب. صحيح ان هناك من يلجأ للخيار الأول ، لكن خذ احصائية وزارة الصحة عن عدد مراجعي المستشفيات والعيادات في عام واحد ، ستجد ان جميع الناس تقريبا اختاروا السبل الحديثة في علاج انفسهم. والحال نفسه بالنسبة للتعليم وكافة النشاطات المعيشية.

الذي أردت قوله ان الحداثة ليست قصرا على التعبيرات الأدبية ، كي نقول انها موجودة او مفقودة في المجتمع السعودي ومجتمعات الخليج عموما. الحداثة منهج حياة يعتمد العقل والعلم كمصدر وحيد للمعرفة ، ومعيار لتمييز ما يصح وما لا يصح. وهذه قد تتجسد في مفاهيم يعبر عنها لفظيا ، او تتجلى في سبل عيش يتبعها الناس ويلتزمون بها وبما يترتب عليها ، حتى لو لم يطلقوا عليها اسم الحداثة أو اوصافها.

الحداثة بقطبيها ، العلم والعقل ، ليست نظاما محدد الأطراف. بل هي مشروع بنهايات مفتوحة للتطور والتحول. وكلما بلغ مرحلة انكشفت أمامها مسارات جديدة. لذا لا ينبغي اعتبار المستوى الفعلي لمجتمع معين (الغرب مثلا) معيارا نهائيا تقارن به المجتمعات الأخرى. ما هو مهم في الحقيقة هو ما ذكره د. حسن النعمي في حديث مسجل: محورية العقل وكون نتاجه معيارا وحيدا لما يقبل او يرفض. ولا أرانا بعيدين عن هذا ، حتى لو قبلنا بعض التحفظات من هنا او هناك.

الشرق الاوسط الخميس - 19 مُحرَّم 1446 هـ - 25 يوليو 2024 م

https://aawsat.com/node/5043509/

مقالات ذات صلة

الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب الحداثة كحاجة دينية

الحداثة كحاجة دينية -النص الكامل للكتاب

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

11/07/2024

اصلاح العقل الجمعي

 

دعنا نفترض ان حكومتنا قررت اصلاح او تطوير الثقافة الوطنية ، في السياق الذي اسميناه في الشهر الماضي "الهندسة الثقافية" ، فما هي الاهداف التي ينبغي ان تحتل المرتبة العليا في سلم اولوياتها؟.

للاجابة على هذا السؤال ، دعنا نوضح مسألتين: أولاهما وظيفة الثقافة والدور الذي تلعبه ضمن المخطط العام للتطوير في بلد بعينه. اما الثانية فعن طريقة توظيف الثقافة في خدمة الاغراض الوطنية العامة.

بالنسبة للمسألة الاولى ، فان الثقافة التي نعنيها هنا ، هي مكونات الخلفية الذهنية التي توجه السلوك الجمعي ، والتي نسميها أحيانا العقل الجمعي او العرف العام ، اي الطريقة التي يتبعها عموم الناس في تحديد ما هو مناسب او غير مناسب من السلوكيات الفردية. ونتعرف على هذه عادة في ردود فعل الناس على المواقف التي يواجهونها في حياتهم اليومية ، ولا سيما المواقف التي تتعلق بمسائل جديدة او غير معتادة.

نعلم ان 90 بالمائة من سلوك الافراد عفوي ، يصدر من دون توقف او تفكير. لكنه مع ذلك يبدو للناس معقولا. لأنه يعتمد على قناعات مسبقة ، جرى التوصل اليها وتثبيتها في الذاكرة ، كمعيار لما ينبغي للانسان ان يفعله او يعرض عنه. خذ مثالا من حياتك اليومية: فحين تركب سيارتك صباحا ، فان ذهنك يقوم بمئات من العمليات العقلية ، التي تشمل اختيار الطريق واستعمال السيارة ، ومقابلة التحدي الذي يمثله السائقون الآخرون. كل هذه العمليات تجري بشكل متوال وسريع ، اي انك تقوم بها طيلة الوقت ، من دون ان تشعر بكل جزء منها ، أو تقرر سلفا ما الذي ستفعل الآن وما الذي ستفعل لاحقا. توالي هذه العمليات بات ممكنا بعدما جرى تثبيت مرجع معياري لكل عملية منها ، في الذهن او الذاكرة. والحقيقة ان جانبا كبيرا من النشاط الذهني للانسان ، ينصرف الى صياغة واصلاح هذه المراجع او قواعد العمل. ومن هنا أيضا فان المهمة الكبرى للاصلاح الثقافي ، تتمثل في هذه النقطة على وجه التحديد: مسح القواعد العتيقة او غير المتناسبة مع حاجات الانسان وحاجات عصره ، وانتاج قواعد جديدة.

فيما يخص المسألة الثانية فان أبرز التحديات التي تواجه مجتمعنا ، هي تحدي الحداثة ، ولا سيما استيعابها من خلال معالجة نقدية ، تسمح بتنسيج قيمها الرئيسية في نسيجنا الثقافي ، وصولا الى انتاج ظرف ثقافي / اجتماعي حديث ، لكنه غير منقطع عن التجربة التاريخية. لا اقصد – بطبيعة الحال – ان يكون المجتمع الجديد استمرارا للتجربة التاريخية ، بل ان يكون واعيا بها ، قادرا على نقدها واختيار ما فيها من محاسن ، مدركا لحدود تأثيرها على تفكيره في قضايا اليوم.

استيعاب الحداثة يعني التمييز بين ما هو علمي وما هو اسطوري او خرافي في حياتنا ، والتأسيس على العقلانية والعلم. ليس من الضروري استبعاد الاساطير او انكارها ، طالما بقيت في إطار الفولكلور والتخيل ، ولم تتحول الى اساس تبنى عليه قرارات او مواقف. يجب أن نصارح انفسنا بأننا ورثنا طائفة واسعة من العناصر الثقافية التي تعطل عقولنا او تثبط همتنا ، وفي نهاية المطاف ، تعيق ما نطمح اليه من نهوض علمي واقتصادي واجتماعي.

بناء على ما سبق ، فان استراتيجية وطنية لاصلاح الثقافة ، ينبغي ان تحدد أهم أهدافها في: معالجة التقاليد والموروثات التي تدفع العقول نحو البناء على الاسطورة او القيم اللاعقلانية او المتعارضة مع مستخلصات العلم.

لحسن الحظ فان هذه المهمة الكبرى ليست عسيرة كما قد نظن. ذلك ان علاجها متوفر فعلا وقليل الكلفة. هذا العلاج هو الغاء القيود على تدفق المعلومات والضمان القانوني لحرية التعبير والنشر. ان رسوخ الخرافة في الاذهان سببه الرئيس هو ضيق الافق الثقافي ، وعدم الاضطرار الى مجادلة الموروث. فاذا وجد الانسان نفسه في مواجهة خيارات عديدة معارضة لمحتوى ذاكرته ، فسوف يضطر للتفكير والمقارنة. وهذا يكفي – في اعتقادي – كي يكتشف العقل الفارق الجوهري بين ما يحويه فعلا وبين الجديد الذي يعرض عليه.

الخميس - 05 محرم 1446 هـ - 11 يوليو 2024 م    https://aawsat.com/node/5039036/

مقالات ذات صلة

 

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

التقدم اختيار.. ولكن

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

الثقافة المعوقة للنهضة

الثقافة كصنعة حكومية

الحداثة تجديد الحياة

الحكم اعتمادا على العقول الناقصة

حول العلاقة بين الثقافة والاقتصاد

رأس المال الاجتماعي

عقل الاولين وعقل الاخرين

عقل العرب ، عقل العجم

العقل المؤقت

فكرة التقدم باختصار

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

القيم الثابتة وتصنيع القيم

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

هكذا خرج العقل من حياتنا 

الهندسة الثقافية: تمهيد موجز

22/02/2024

تفاح الرميحي وتفاح سعد الدين


ابدأ من حيث انتهى استاذنا الدكتور محمد الرميحي ، حين قال بانه "لا يمكن الاحتفاظ بالتفاحة وأكلها في الوقت نفسه". وقد سألت نفسي وأنا اقرأ مقاله البديع  (البيان 19 فبراير) : هل هناك حقا من يريد الاحتفاظ بأي شيء واكله في نفس الوقت. والحق ان المسألة لم تخطر على بالي ولا تخيلتها ، قبل هذا اليوم.

د. محمد الرميحي
 لكن الرميحي يعتقد ان الذين يريدون الانضمام الى قطار الحداثة ، ويريدون – في الوقت نفسه - الاحتفاظ بهوياتهم القديمة ، هم من هذا النوع. والسبب واضح: التقاليد والحداثة ليسا مجرد أوصاف نطلقها على نمط المعيشة ، ولا هي وظائف نضيفها على هذا النمط او ذاك ، كي يعمل بطريقة محددة. بل هي انساق متعارضة ، او "باراديم" بحسب التعريف الذي اقترحه المفكر الامريكي المعاصر توماس كون. البارادايم نمط من العيش متفرد ، اذا وجد في مكان فهو يزاحم اي نمط آخر ، حتى يلغيه او يتلاشى أمامه ، فكأنه يحتذي سيرة الشاعر الشهير ابي فراس الحمداني:

ونحن أناس لا توسط عندنا ..... لنا الصدر دون العالمين أو القبر.

بحسب التصوير السابق ، فان الحداثة ليست مجرد تنويع على نمط معيشة قائم ، ولا هي منظومة وظائف اكثر تطورا ، تضيفها على النمط القديم ، مثلما تغير بطارية السيارة مثلا او عجلاتها او حتى محركها ، بأخرى احدث وافضل أداء. ان وجود الحداثة  يعني – بالضرورة – زوال التقاليد. لا يمكنك رؤية العناصر التي تشكل نمط العيش الحديث ، إلا اذا زالت نظائرها التقليدية. انه كرسي واحد ، يحتله واحد من النمطين ، اما التقليد او الحداثة.

لكن ما علاقة هذا التعارض بأكل التفاح أو الاحتفاظ به؟

يقول الرميحي ان شريحة واسعة من قومنا تريد الحداثة ، لكنها في الوقت نفسه خائفة من هجر التقاليد. فهم مقتنعون تماما بضرورة الانتقال الى الحداثة ، بل ان كثيرا منهم يعيشون في ظلها ، بل ربما شاركوا في بناء أركانها ، لكنهم – في موازاة ذلك – يشعرون بالقلق من احتمال خسارتهم لما اعتادوه في عصر التقاليد. ولهذا فان مشاركتهم في الحياة الحديثة أقرب الى ان تكون وظيفية براغماتية ، بينما تبقى نفوسهم مغروسة في بستان التقاليد ، لا تستطيع مغادرته.

يمكن للانسان ان يعيش على هذا النحو عمره كله: يمارس قناعاته التقليدية الخالصة في وقته الشخصي ، بينما يلتزم بمتطلبات العيش الحديث في وقت الدراسة او العمل. وكان المرحوم د. سعد الدين ابراهيم قد لاحظ منذ وقت مبكر ان الرغبة في الحفاظ على ما يعتقد الناس انه مظهر ديني قد تحول الى نوع من الحياة المزدوجة: نسق حداثي في الصباح (وقت العمل) ونسق تقليدي في المساء (الوقت الاجتماعي). لا نتحدث هنا عن اللباس او السلوكيات التي لها طابع شكلي تظاهري ، بل تلك التي تنم عن قناعات عميقة في نفس الانسان ، قناعة بقيم الحداثة او التقاليد. وقد لاحظ د. سعد الدين محاولات حثيثة من جانب الطبقات الوسطى الحديثة ، لانشاء نوع من تبادل ادوار  بين النسقين ، بحيث يحافظ الناس على الاطمئنان الذي توفره الاعراف والتقاليد الموروثة ، لكنهم في الوقت نفسه يتخلون عن مصادر الانتاج واساليب العيش المرتبطة بتلك الاعراف.

وأشار الدكتور الرميحي في مقاله آنف الذكر ، الى ان كثيرا من العرب يستشهدون بقول من قال ان الصين واليابان حافظتا على تقاليدهما الثقافية والاجتماعية ، في الوقت الذي ذهبا بعيدا في تحديث المجتمع والاقتصاد ، أي انهما – خلافا لرأي الرميحي – اكلا التفاحة واحتفظا بها في الوقت نفسه. لكنه يؤكد ان هذا القول ليس سوى محاولة لتبرير الوقوف عند اطلال الماضي. فيابان اليوم مثل صين اليوم ، تختلف عن ماضيها اختلاف الليل عن النهار.

المزاوجة بين التقاليد والحداثة مستحيلة في رأي الرميحي ، وهي محاولة عبثية في رأي د. سعد الدين ، وهذا رأيي ايضا.

الشرق الاوسط الخميس - 12 شَعبان 1445 هـ - 22 فبراير 2024 م https://aawsat.com/node/4869831  

مقالات ذات علاقة

"اخبرني من اثق به..."

إعادة إنتاج التخلف

انهيار الاجماع القديم

بقية من ظلال الماضين

بماذا ننصح أينشتاين؟

تأملات في حدود الديني والعرفي/العلماني

حجاب الغفلة ، ليس حجاب الجهل

الحداثة تجديد الحياة

حول الخمول والثبات على الاصول

الشيخ القرني في باريس

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

القيم الثابتة وتصنيع القيم

المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد ؟

مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي

من الحجاب الى "العباية" 

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

21/12/2023

هل ترسمون الخرائط؟

روى هذه القصة زميل لديه ابنة في مدرسة ابتدائية بمدينة "أكتون" ، غرب العاصمة البريطانية لندن.  وخلاصتها ان المعلمة سألت الطالبات عما فعلن في نهاية الاسبوع ، فأخبرتها الطفلة بانها ذهبت مع امها الى مكتب البريد ومحل الخضار والمكتبة المحلية. فطلبت منها ان تعمل خلال الاسبوع الجاري على رسم خريطة الطريق الذي تسلكه من منزلها الى تلك المواقع. وهذا سيكون واجبها المنزلي الوحيد. في الاسبوع التالي اتصلت المعلمة بالمنزل وسألت الاب: هل ساعدت ابنتك في رسم الخريطة؟. فقال انه شعر بالحاجة لمساعدتها ، لأنها ما كانت قادرة على رسم الخريطة وحدها. فعاتبته المعلمة قائلة "انك للتو دربت الطفلة على الاستهانة بعقلها ، وهذا امر سيء". المراد – على اي حال – ليس الخريطة المتقنة او  المعيبة ، بل تدريب الاطفال على استعادة التفاصيل التي يمرون بها ، التوقف عندها والتفكير في علاقتها ببعضها ، ثم تخيل الخطوط التي تربط بينها. جوهر المراد هو شحذ التفكير والتذكر ، وليس رسم الخريطة. وهذا لا يتحقق اذا ساعدها احد على ذلك. واردفت ان واجبهم في المدرسة هو تعليم الاطفال فن التفكير.

يقول زميلي ان هذه القصة شغلت ذهنه لفترة طويلة. ولطالما حدث نفسه متسائلا: هل يمثل موضوعها جوهر الفارق بين ثقافة المجتمعات الصناعية ونظيرتها النامية؟. هل نستطيع القول انها نقطة البداية في بناء جيل يستوعب تحديات المستقبل؟.

بيان ذلك: جرت العادة على القول ان الدور التعليمي للمدرسة يتركز على زيادة حجم المعارف التي يستعملها التلميذ.

اذا قبلنا بهذا التوصيف ، فسيأتينا سؤال ضروري:

ماهي المعارف التي نريد تعليمها لأبنائنا؟.

هذا سؤال عريض. لهذا سيذهب الجواب – بالضرورة – الى التعريف النسبي ، الذي يعالج جانبا واحدا فحسب. ومن هنا اقترح التركيز على نسبة التعليم الى زمنه. ربط الفكرة بالزمن يعني ان جواب اليوم قد يخالف جواب الامس ، مع ان كليهما صحيح في وقته. ما يميز بين زمن وآخر هو نوعية الثقافة التي تبنى على اساسها منظومات القيم والمعايير والعلاقات الداخلية ، ولاسيما العلاقة بين الأجيال القديمة والجديدة/الآباء والأبناء. وتتفرع منها مناهج التعليم وطرق التربية وتقاليد العمل.

تمتاز العائلات العربية بالشفقة على الابناء. ولهذا يلتزم الابوان بمساعدة اطفالهم في حل الواجبات المدرسية ومذاكرة الدروس. ولان هذه الثقافة سائدة أيضا في نظام التعليم ، فقد اعتاد المعلمون تكليف الاطفال بكم كبير من الواجبات المنزلية ، مع علمهم بأن المجتهد الحقيقي هو أم الطفل وليس الطفل. ولأن المطلوب هو انتاج الأشياء البديعة وليس البشر الأذكياء ، فقد ابتكرنا حلولا سهلة للعائلات المشغولة ، فأقيمت دكاكين تبيع حلول الواجبات ورسوم الوسائل التعليمية ، وغير ذلك مما يطلب من التلاميذ.

الذي يحدث في هذه الحالة هو تعليم التلميذ كيف يتهرب من تحمل المسؤولية ، بتحويلها الى امه ، او تعليمه فنون الاستهلاك بشراء المطلوب من السوق ، وليس الاجتهاد في انجازها بنفسه.

اما الذي يحدث في المكان الاخر ، الذي يعيش في زمن ثقافي مختلف ، فهو التركيز على قيام التلميذ بانجاز الواجب حتى لو اخطأ فيه. لأنه - في الاساس - وسيلة لغاية اخرى ، هي تعويده على التفكير والتذكر والتأمل في العاديات والأمور البسيطة التي يمر عليها كل يوم. والذين يفكرون يخطئون كثيرا قبل ان يصيبوا أول غاياتهم.

أما وقد وصلنا الى هذه النقطة ، فلعلنا نستذكر ان واحدا من التعريفات الهامة للحداثة هو انها: تقديس اللحظة الراهنة ثم الانطلاق منها للتفكير في بقية الأزمنة. في الرؤية الحداثية للعالم ، يتحدثون اذن عن الزمن الحاضر وعن المكان الحاضر ، لأننا ننتمي اليه وننطلق منه. اذا فكرنا بعمق في الذي حولنا ، فسوف نصل الى ما وراءه ، اي الى الغيب الذي تخفيه جدران المكان او الزمان او قلة المعرفة.

حسنا ، ما الذي ستفعلون الان ، هل سترسمون الخريطة ، ام تدعون ابناءكم يتأملون في عالمهم؟.

الشرق الاوسط الخميس - 07 جمادي الآخر 1445 هـ - 21 ديسمبر 2023

https://aawsat.com/node/4741381

مقالات ذات علاقة

 اول العلم قصة خرافية

بين النهوض العلمي والتخصص العلمي

التخلي عن التلقين ليس سهلا

تدريس العلوم بالعربية.. هل هذا واقعي؟

تطوير التعليم من الشعار إلى المشروع

تعريب العلم ، ضرورة اقتصادية ايضا

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

التعليم والسوق.. من يصنع الآخر؟

التمكين من خلال التعليم

حول البيئة المحفزة للابتكار

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

مجتمع المعرفة لازال هدفا ضروريا

المدرسة وصناعة العقل

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !

هل نسعى لتعليم يملأ المكاتب بالموظفين؟



اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...