24/10/1994

يوكل علم ؟ ... يعني مايفيد !



أصبح تقليديا القول بان الاسلام قد خص العلم وأهل العلم ، بالمكانة الارفع في سلسلة المراتب الاجتماعية ، وتعارف المسلمون على هذا المفهوم ، حتى استحال ثابتا من ثوابت العلاقات الاجتماعية .

مع هذا ، فان المسلمين من اقل شعوب العالم ، اعتمادا على العلم واستثمارا لنتائجه ، في شئون حياتهم المختلفة. وتدل احصائية نشرتها اليونسكو قبل اعوام قليلة ، على ان نصيب الدول  العربية من انتاج الكتب ، يقل في مجموعه السنوي عن مثيله في معظم الدول المتقدمة ، كما توصل باحث لبناني في دراسة عن تجارة الكتاب في العالم العربي ، الى نفس الاستنتاج ، ولاحظ ايضا ان نسبة تفوق الثلث ، من الكتب التي تحتويها الاحصاءات الوطنية ، هي اعادة طباعة لكتب قديمة ، ويؤيد هذا المنحى استطلاعات نشرتها الصحف عن معارض للكتب ، اقيمت في اربع عواصم عربية ، خلال عامي 1988 و 1989 ، تضمنت تصريحات للناشرين ، تشير جميعها الى ان الكتب التي تحظى باكبر قدر من المبيعات ، هي الكتب التراثية على اختلاف موضوعاتها وانواعها .

نازك الملائكة (1923-2007)
وباستثناء الكتب المدرسية وكتب الدعاية الرسمية ، فان ايا من الكتب التي صدرت باللغة العربية في الاعوام الاخيرة ، لم يتجاوز توزيعه بضعة الاف ، ولم نسمع عن كتاب وصل توزيعه الى المائة الف نسخة ، اما في الغرب فان بعض الكتب تطبع لاول مرة ، بما يجاوز هذا الرقم ، ولدي معلومات عن كتب طبعت عدة ملايين من النسخ.

ويرجع هذا التباين بيننا وبين الغرب ، الى الفارق في مستوى التعليم ومستوى المعيشة ، فضلا عن الصعوبات السياسية ، التي تحول دون انتشار المصنفات الفنية ، وهذه وغيرها ناتجة بدروها عن عدم تحول العلم الى جزء من الحياة اليومية لمعظم الناس في بلادنا.

واذا كنت ممن اتيحت له زيارة اي قطر اوربي ، فلابد انك شاهدت مدى اهتمام الناس بالمعرفة ، فهم يستثمرون اي وقت يحصلون عليه في القراءة ، في القطار او الباص او على مقعد في الطريق فضلا عن المنزل ، وهذا هو السبب الذي يجعل صحيفة يومية توزع مليون نسخة في اليوم ، رغم انها ليست وحدها في الميدان ، فثمة عشرات اخرى غيرها ، يوزع بعضها مليونا ويوزع بعض آخر نصف هذا الرقم او ثلثه .

ان الثقافة والعلم لايزال على رغم انتشار التعليم في العالم العربي ، حرفة اقلية من العرب ، بينما يشك اكثر الناس في جدواها ، أو على الاقل في قدرتهم على استنباط فائدة منها . واتذكر بهذا الصدد حادثة قديمة عميقة المعنى ، شهدتها قبل عقدين من الزمن: كنت اتشاغل بتصفح ديوان "شجرة القمر" للشاعرة العراقية نازك الملائكة ، ريثما يحين دوري عند احد المصورين ، وعندما وصلني الدور نظر المصور من فوق نظارته متسائلا : ما هذا؟ واشار الى الكتـاب ، فاجبته بانه ديوان شعر ، فقال مستهجنـا (يوكل خبز ؟) اي  هل يطعم خبزا ؟ اجبته ضاحكا : يوكل علم ... قال ببساطة: يعني مايفيد.

ليس غريبا بعد هذا ان تعقد المؤتمرات ، وتلقى الخطب والمحاضرات ، في الشكوى والتحذير مما يطلق عليه الغزو الثقافي والغزو الاعلامي ، والغزو الاخير مصطلح ابتكر خصيصا ، لمناسبة انتشار الاطباق اللاقطة للقنوات التلفزيونية الاجنبية .

- لماذا نشعر بالقلق من الثقافة الاجنبية ؟

- اليس لما عندنا من ارضية خصبة تستقبل الغث والسمين ؟

- اليس هذا بسبب الفراغ الثقافي الكبير الذي نحن فيه ، والا فما الذي يجعلنا في قلق من امرنا ، ولانجد مثل هذا القلق عند المجتمعات المصدرة للثقافة ؟ .

لقد مضى على قيام التعليم الحديث في العالم العربي نحو قرن من الزمن ، وثمة عشرات الالاف من الناس يتخرجون من الجامعات كل عام ، ولازلنا ـ مع ذلك ـ نحتاج الى الخبرة الاجنبية في كل مشروع جديد ، وفي اي مخطط للتطوير ، ثم ـ من بعد ذلك ـ نرفع اصواتنا بالشكوى من مظاهر الغزو الخارجي لمجتمعاتنا .

هل نتخلى عن سعينا لتطوير حياتنا مع مايتطلبه هذا من استيراد للخبرات والمعارف ؟ ام نتحمل ـ بالرضى او القهر ـ النتائج المترتبة على خيار التطوير ، لابد لنا ان نختار ، ولابد لنا ان نختار مواجهة التحدي ، لان الحياة لاتقبل التوقف او النظر الى الوراء .

مواجهة التحدي تعني ان نتعلم ما استطعنا من الاخرين ، وان نسعى في الوقت نفسه لمعالجة الاسباب ، التي تجعلنا عاجزين عن الوفاء بحاجاتنا ، مضطرين الى التطلع لما عند الغير .

ان قصورنا العلمي هو مايجعلنا مهددين بالغزو الثقافي والغزو الاقتصادي ، وكل انواع الغزو الاخرى ، وهو ايضا مايجعلنا عاجزين عن التحرك الحثيث ، نحو مهماتنا الوطنية الكبرى ، من تصحيح مسارات الحياة الاجتماعية ، الى الاكتفاء في ميدان الانتاج الصناعي ، الى تطوير الامكانات القائمة في مجال الغذاء ، فضلا عن ضمان استمرار القدر المعقول من اسباب الحياة الكريمة ، اذا لم نطمع في بلوغ قدر من الرفاهية لعامة الناس ، مشابه لما هو موجود في دول العالم الاخرى الغنية .

ويقتضي هذا اعادة نظر في الاسباب ، التي ادت الى التباعد الفعلي بين عامة المواطنين العرب وبين الممارسة العلمية ، اني اتحدث بالتحديد عن اهتمام عامة الناس بالعلم ، لان خاصتهم مهتمون فعلا ، لكن هذا الاهتمام ـ كما راى المرحوم مالك بن نبي قبـل ثلاثـين عاما ـ لايجدي فتيلا ، فما الذي يستطيعه رئيس عالم اذا كان اعوانه اميين .

نستطيع البداية بالمدرسة ، فالاهتمام المبكر بالشبيبة ضمان لانتظام الجيل الاتي ، وهذا مشروط بتمكين طلاب المدارس ، من قراءة اي شيء خارج المنهج الدراسي ، بتخفيف العبء الدراسي المرهق ، وبوضع منهج توجيهي خاص لتشجيع الطلاب على القراءة الخارجية.

وحسب تجربتي الشخصية ، فلا ارى اي مجال للطلاب كي يقرأوا شيئا خارج المقررات ، بل يعز علي ان أرى اطفالي الذين اعتادوا تخصيص وقت للقراءة ووقت للهو ، وقد اصبحوا سجناء للمذاكرة والواجبات التي لاتنتهي  ، وهذا وضع لا اظنه صالحا او مفيدا في تطوير قدرات الطالب الذهنية او تعويده الاستراحة الى الكتاب ، خاصة مع الطريقة العجيبة التي يتبعها معظم المدرسين ، في اجبار الطالب على حفظ النصوص بدل فهمها واعادة انتاجها بلغته الخاصة .

اما الخطوة الثانية فهي جعل العلم ـ على اختلاف فروعه وموضوعاته ـ مرغوبا من عامة الناس ، قريبا من مجالات حياتهم الاعتيادية ، وهذا يقتضي اعادة النظر في بعض التقييمات التي اكل عليها الدهر وشرب ، والتي يحتاج البحث فيها الى مجال اوسع ، فلنتركها  لمقال قادم بعون الله .

نشر في (اليوم ) 24-10-1994

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...