أسمع حديثا متكررا فحواه ان الرئيس الامريكي الجديد دونالد ترمب يدشن النموذج
التطبيقي الأول لصراع الحضارات ، وفق التصور الذي عرضه المفكر الامريكي صامويل هنتينجتون في 1993. طبقا لهذه الرؤية فان الايديولوجيا (رأسمالية/اشتراكية) لن تكون
موضوعا للصراعات الدولية بعدما تفكك المعسكر الشيوعي. الحروب الكبرى القادمة لن تدور
بين الدول القومية. أو على أقل التقادير ، فان أية حرب على هذه المستوى ، لن تقسم
العالم الى فسطاطين ، وفق ما كان متوقعا في حقبة الحرب الباردة (1945-1991). يعتقد
هنتينجتون ان الثقافات الرئيسية هي التي ستحدد جبهات الصراع الدولي القادم. نتصور
مثلا جبهة الثقافات الجديدة ، التي تمثلها المجتمعات الصناعية الغربية ، تقابلها
جبهة الثقافات القديمة التي تضم العالم الاسلامي ودول آسيا الأخرى.
صمويل هنتينجتون |
هذه الرؤية ليست نظرية مثبتة تاريخيا. وليس لدينا دليل مادي يؤكد ان
العالم سيشهد صراع حضارات في المستقبل القريب. إنها مجرد تحليل مبني على استقراء
تاريخي ، يتوافق مع معطيات رآها هنتينجتون متوفرة في مطلع التسعينات. وهو لم يحاول
اخفاء ما تنطوي عليه من توجيه ايديولوجي ، فحواه ان الحضارات بحاجة للصراع ، كي
تبقى نشطة ومبدعة.
رغم ذلك فرؤية كهذه تنطوي على خطورة على العالم الاسلامي ، وليس على
الغرب. لسبب بسيط وهو ان الايمان بالعلاقة الايجابية مع العالم ، يعزز جانب الميل
للمصالحة والانفتاح ، ومن ثم التعاون الثقافي والاقتصادي. وهو أمر نحن في أمس
الحاجة اليه ، كي نلحق بحركة العلم والتقنية التي تتصاعد في عالم اليوم ، ولا تكاد
تستثني أحدا غير البلدان الاسلامية.
خلال الخمسين عاما الماضية ، تعرضت مجتمعات المسلمين لضخ مركز للفكرة
القائلة بان "الغرب" يمثل كتلة معادية ، تسعى للهيمنة على العالم
الاسلامي ، وتستهدف بشكل خاص القضاء على الاسلام. ولا شك ان هذه الرؤية قد ساهمت
في عرقلة تطور المجتمعات المسلمة ، بل وأعادت بعضها الى الخلف ، وعمقت الهوة التي
تفصلها عن الحضارة الانسانية الحديثة.
ثمة حقائق بسيطة في حاضر العالم وفي ماضيه ، من بينها ان تاريخ
البشرية لم يسجل نهوض المدنية في بلد منعزل عن العالم. جميع الحضارات وتجارب
التقدم السابقة – بما فيها الحضارة الاسلامية القديمة - كانت ثمرة للتفاعل بين
الأمم والثقافات. وكان دوامها وتجددها مرهونا بعلاقتها التفاعلية والمنفتحة مع
الآخرين.
ليس من الضروري ، وربما من غير المتوقع ، انتهاء الصراعات الدولية.
لكن الصراع المدفوع بخوف على الهوية ، انتهى في كثير من التجارب الى دمار المنتصر
والمنهزم معا. لأنه ببساطة يحول مضمون العلاقة من صراع على الحدود والمكانة ، الى
صراع على الوجود. وفي هذا النوع من الصراعات لا يكون الانجاز والتقدم هدفا. الهدف
الوحيد فيها هو تدمير الآخر كشرط للبقاء.
في العالم الاسلامي اليوم ما يكفي من مشاعر الكراهية التي نعرف انها
أثمرت عن تفجر العنف في معظم بلدانه. ولا أظننا بحاجة الى المزيد من هذا.
من هنا فاني أشعر بالقلق من عودة الترويج لفكرة الصراع الديني ،
والمبالغة في اعتبار تصريحات وقرارات الرئيس الامريكي الجديد او نهوض اليمين في
أوربا ، إشارة انطلاق للحرب على الاسلام. مثل هذا الكلام ، بغض النظر عن النوايا
الطيبة التي تبرره ، لن يضر الغرب قدر ما يضر المسلمين ، كما حصل فعلا خلال
الخمسين عاما الماضية. في هذا التاريخ ما يكفي من العبر لمن أراد ان يعتبر.
الشرق الاوسط 15 فبراير 2017
http://aawsat.com/node/854821
مقالات ذات علاقة