‏إظهار الرسائل ذات التسميات الافق التاريخي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الافق التاريخي. إظهار كافة الرسائل

26/10/2023

التجربة ليست برهانا

لا زلت أذكر اليوم الذي وصلنا فيه الى درس نواصب الفعل في "شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك" ، وهو من الكتب التي ينبغي دراستها للمتقدم في علوم اللغة. وسبب استذكاري لهذا الدرس خصوصا هو بيت الشعر المشهور

"يا ابن الكرام ألا تدنو فتبصر ما

قد حدثوك فما راء كمن سمعا"

 فقد انفق استاذنا رحمه الله وقت الدرس كله ، في بيان الفارق بين تحصيل العلم بالملاحظة المباشرة والتجربة الشخصية ، وتحصيله بالسماع والرواية. وكان المشهور يومها ان رؤية الشيء في الواقع ، طريق لتحصيل العلم القطعي ، بينما يصنف السماع عنه كمعرفة ظنية ، وليس من رأى كمن سمع. وكنا نأخذ هذا الرأي أخذ المسلمات. ولو جادلنا فيه أحد ، لأجبناه بأن التجربة الحسية اصدق الأدلة ، والعين اصدق وسائل الاحساس.

في سنوات لاحقة من مشوار الدراسة ، بدأت افهم ان رؤية الاشياء وتجربتها الحسية ، لا تعطيك دليلا قطعيا ، فهي تتأثر بزاوية النظر أو ما يسمى "افق التوقعات". وأذكر واحدا من الدروس الاولى التي اطلعت فيها على تأثير خلفية الفرد ومعارفه السابقة على ما يتعلمه لاحقا ، فقد عرض الاستاذ بعض الأمثلة عن أحكام شرعية اصدرها فقهاء من سكان الريف وآخرين من سكان العواصم ، في نفس الموضوع ، وكان الفرق بينهما شاسعا. وأذكر خصوصا الجدل الساخن الذي ثار ، حين اعترض زميل متقدم على قول الاستاذ بان كل فرد يميل لترجيح دينه على بقية الأديان ، لأنه ألفه منذ الصغر ، سواء وجد عليه دليلا ام لم يجد. وقد ذهب هذا الجدل الى مسافات أبعد مما تخيلنا.

مع الوقت ، يدرك الانسان ان ما يراه لا يختلف كثيرا عما يسمعه ، فكلاهما لا يفيد الا ظنا. او لعلنا نقول ان رؤية الشيء لا تكشف غير ظاهره ، وربما تكشف جانبا من حقيقته ، وربما لا تكشف له الا ما أراد سلفا أن يراه. لتبسيط الفكرة دعنا نسأل ثلاثة اشخاص عن القيمة الاخلاقية للمؤسسة المالية التي نسميها البنك: لو سألت فقيها تقليديا فسيخبرك بانها محل لغضب الله ، لأنها تدير المعاملات الربوية. ولو سألت خبيرا في المالية ، لقال انها محور المعيشة والنشاط الاقتصادي لأي بلد. ولو سألت مناضلا ماركسيا لأخبرك انها رمز من رموز الاستغلال. سبب هذا التفارق في الوصف والقيمة ، هو التصور السابق عن اجزاء التجربة والنتائج المتوقعة منها.

في ماضي الزمان كان الاعتقاد السائد انه لا يوجد وسيط بين العين والواقعة. ما تراه بعينك هو عين الحقيقة. ولذا فالرؤية دليل على الحقيقة. لكننا نعرف اليوم ان العين مجرد ناقل للصورة الخارجية ، اما تعريف الصورة ثم تحديد طبيعتها وقيمتها، فهو من أعمال العقل.

ونعرف ان العقل لا يعمل في فراغ ولا يبدأ من الصفر ، فهو يبدأ أولا بتصنيف الصورة التي تلقاها ضمن واحد من الاف الاطارات والقواعد التي يختزنها ، والتي تشكل ما يشبه المنظار الذي يرى من خلاله الاشياء الجديدة. من هنا فثمة اجماع في العلم الحديث ، على ان المفاهيم والتصورات المختزنة في الذهن ، تعمل كوسيط بين عينك وبين الواقع. اي انك ترى الاشياء الجديدة من خلال التصورات المختزنة في ذهنك.

يختلف الناس في تقييمهم لعناصر الواقع ، كما يختلفون في وصفها ، لانهم في الاساس لا ينظرون اليها كعنصر بسيط مستقل ، بل كجزء في مركب له صورة وقيمة خاصة في أذهانهم. هذه الصورة قد تكون مستمدة من علم سابق او تصور شخصي او تجربة مع المركب ككل او بعض اجزائه.

مثال البنك المشار اليه نموذج عن كل شيء آخر نراه في حياتنا ، حيث نتعامل معه استنادا الى فهم مسبق لذلك الشيء ، او على الاقل تصور مسبق او حتى تخيل لماهيته وموقعه. العين مجرد ناقل للمشهد ، اما الذي يرى فهو العقل.

الشرق الاوسط الخميس - 11 ربيع الثاني 1445 هـ - 26 أكتوبر 2023 م

https://aawsat.com/node/4628711

19/10/2022

هل تعرف كارل ماركس؟


كنت في الصف الأول ثانوي حين تعرفت على العلاقة الإشكالية بين المعرفة والحرية. لقد مر الان نحو نصف قرن على هذه الحادثة ، لكنها لازالت حية في تلافيف الذاكرة. ولعلي ما كنت سأحفظها بين عشرات الأشياء الأخرى ، لولا انها نقضت قناعة راسخة ، اعتبرتها يومذاك امرا بديهيا. تتجسد هذه القناعة في المثل المشهور "من علمني حرفا صرت له عبدا". وكنا نتداولها كتأكيد على الاحترام الواجب للمعلم.

د. جون كين

الذي حصل في ذلك اليوم اننا قرأنا في كتاب الادب والنصوص ، مادة عنوانها "عبودية الحرف" تضمنت هجوما شديدا على المثل المذكور. وقال كاتب المادة ان شأن التعليم ان يحرر الانسان ، لا ان يجعله عبدا لغيره. وقد جاءت اللحظة الحاسمة ، حين أمر معلم المادة عددا من الطلاب بالحديث دفاعا عن فكرة المثل ، وأمر آخرين باتخاذ الموقف المضاد ، أي تأييد الفكرة الرافضة لعبودية الحرف. وكان من سوء حظي ان اختارني ضمن الفريق الثاني ، رغم قناعتي التامة بالموقف الأول.

لا اذكر الان ماذا قلت في الموضوع. لكني عدت اليه بعد زمن طويل نسبيا ، حين التحقت بفصل في مناهج البحث ، قدمه البروفسور جون كين ، الذي افتتح الدرس بسؤال: حين تفكر في مسألة جديدة ، فهل تستطيع التعرف على المؤثرات التي تدفعك لاختيار رأي بعينه؟. الإجابة على هذا السؤال تساعدنا في اكتشاف حدود العقل: هل نفكر بعقل مستقل حقا ، ام ان ما نسميه تفكيرا ، هو مجرد استدعاء لأحكام جاهزة من محيطنا الثقافي او تجاربنا الحياتية.

في مساء اليوم التالي ، شرحت فكرة الدرس لبعض أصدقائي ، فقدم واحد منهم نقضا للفكرة ، خلاصته انه لو لم يكن العقل مستقلا ، لما أمرنا الله بالعودة الى عقولنا واعتبر حكمها حجة علينا. فبدا ان الجميع اقتنع بهذا الرد. لكن زميلا آخر اشار الى ما اعتبره ميولا يسارية عند البروفسور كين ، وعقب بالحديث عن الدور المحوري للمذهب الماركسي في الارتقاء بنقاشات الفلسفة ، فضلا عن مساهمته الجليلة في تعميم فكرة العدالة الاجتماعية ، وتحويلها الى ثابت من ثوابت السياسة في الدول المتقدمة.

دار نقاش قصير حول هذه الفكرة ، سرعان ما انحرف نحو شخص كارل ماركس وكونه يهوديا ، وعن دور اليهود في اوربا وعلاقتهم مع المسيحية ، وهجرتهم الى أمريكا الشمالية ، ودور اللوبي اليهودي هناك.. الخ. حين وصلنا الى هذه النقطة ، تدخل الزميل قائلا: أين كنا نتحدث ، ومن الذين يتحدث الآن.. عقولنا ام خلفياتنا الذهنية ومفاهيمنا المسبقة عن الناس والأفكار والحوادث؟.

لقد لفت هذا الزميل انظارنا الى الحقيقة التي لا مراء فيها ، وهي أن رأينا في الماركسية – مثلا – ليس مبنيا على مقارنة علمية بين محاسنها ومساويها. اننا ندخل النقاش محملين بمواقف مسبقة تجاه مؤسسها ، وتجاه الدين الذي ينسب اليه (رغم انه بحسب تصنيفنا ملحد ، ولا ينتمي واقعيا الى ذلك الدين ولا غيره). ان مجرد انتسابه لعائلة يهودية ، يستدعي حمولة ضخمة تحدد اتجاه الحديث.

في الدروس التالية من ذلك الفصل ، تعرفت على رؤية هانس-جورج غادامر ومارتين هايدجر ، ولاسيما تشديد الأخير على دور الخلفيات الذهنية المسبقة ، كوسيط لفهم المعلومات الجديدة وتحديد قيمتها. وهو يقول في هذا الصدد ان كل فهم جديد مشروط بفهم مسبق. نعلم طبعا ان هذا نسبي وليس مطلقا ، فالوعي الإنساني متحرك وهو – حسب تعبير غادامر – افق مفتوح. بقدر ما يكون الوعي السابق مؤثرا ، فانه - في الوقت نفسه - عرضة للتلاشي ، بتأثير المشاهد والمعلومات ، بل وحتى المصالح الجديدة. ان أبرز علامات كون العقل عقلا ، هو هذه القدرة على التغير والتغيير المتواصل.

الشرق الاوسط الأربعاء - 24 شهر ربيع الأول 1444 هـ - 19 أكتوبر 2022 مـ رقم العدد [16031]

https://aawsat.com/node/3939046

مقالات ذات صلة

ان تكون عبدا لغيرك

الأيديولوجيا السياسية للتيار الاصلاحي في ايران

العلم في قبضة الايديولوجيا: نقد فكرة التأصيل

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

في علاقة الزمن بالفكرة

كهف الجماعة

مسار التمايز بين الدين والمعرفة الدينية

نسبية المعرفة الدينية

05/01/2022

مسار التمايز بين الدين والمعرفة الدينية


ثمة بين الناس من يظن بأن أحكام الشرع ثابتة ، لا تختلف بين زمن وآخر. وان ما يقوله فقهاء اليوم هو عين ما جرى على لسان الرسول والصحابة. اما عموم المسلمين فيعرفون بان الأحكام الشرعية والقوانين والقيم والأعراف والتقاليد والآراء ، تتغير بمرور الزمن واختلاف الظروف المعيشية وحاجات الناس.

هناك تفسيرات عديدة تدعم هذه الفكرة ، أبسطها في ظني هو التمييز بين الدين والمعرفة الدينية ، بين النص المقدس وما يفهمه الناس من ذلك النص.

نعلم ان فهم الخطاب الشرعي عملية تفاعلية ، تتأثر بالمجال الحيوي والظرف الاجتماعي الذي يعيشه المكلف ، فضلا عن ذهنية المكلف نفسه. هذه المؤثرات تتغير بين زمن وآخر ، كما تختلف بحسب عوامل البيئة الطبيعية والاجتماعية ، ولاسيما علاقة الانسان بالطبيعة ومدى فهمه لها وتحكمه فيها.

ومنذ البدايات المبكرة لتفكير الانسان في الدين ، كان ثمة تجاذب بين طرفين: طرف يدعو لقبول المعنى المتولد من ظاهر النص المقدس ، سيما النص الصريح المحدد ، وطرف يدعو لتجاوز الظاهر والعبور من اللفظ الى الرسالة المخزونة فيه.

والذي لاحظته خلال سنوات طويلة من البحث والمتابعة ، ان غالبية المهتمين بعلوم الشريعة (بل وحتى عامة الناس) مقتنعون بالرأي الثاني ، أي عبور اللفظ الى ما وراءه. لكنهم عند التطبيق وفي الاستشهاد والمحاججة ، يذهبون الى الرأي الأول. فتراهم يبحثون عن نص صريح ، آية قرآنية أو حديث نبوي ، يقول على وجه الدقة ما يريدون الاحتجاج له او الاستشهاد عليه.

والحق ان هذه معضلة ، أبرز ما يترتب عليها هو إبقاء البحث في النص المقدس سطحيا ، ومحصورا في المجال اللغوي ضمن المنهج القديم.   

قدم العديد من المفكرين المعاصرين محاججات قوية ، على ان الوعاء اللفظي للنص لاينبغي ان يحدد معناه النهائي. وذلك لأن اللغة منتج بشري ، يتأثر – مثل سائر منتجات البشر – بالظرف الموضوعي لصانعه ومستعمله ، أي ما أسماه الفلاسفة التأويليون "الأفق التاريخي" للمتلقي.

من المفهوم ان القرآن قد اوجد حقولا دلالية جديدة للكلمات ، صرفتها الى معان جديدة ، تخدم الرؤية الكونية التي يريد الدين إقرارها كمضمون للعلاقة بين بني آدم والكون الذي يعيشون فيه (تقارب هذه العملية ما يسميه طلبة الشريعة تحويل الحقيقة اللغوية الى حقيقة شرعية). لكن هذا لا يغير شيئا من حقيقة ان لغة الخطاب محدودة بالفضاء الثقافي/الاجتماعي للناطقين بها. وهذا يؤدي – بالضرورة – الى تقييد وتحديد الخطاب والفضاء الذي يتوجه اليه ، كي يمسي مفهوما للمخاطبين به ، والذين يتوقع ان يحملوه الى غيرهم ، اي يعيدوا انتاجه في قالب كلام بشري متوسط المستوى.

الحاجة لتحديد وتقييد الخطاب ، هي التي جعلت نقاط التركيز وطريقة التعبير والأمثلة الشارحة ، مستمدة من البيئة الاجتماعية ، ومتصلة مباشرة بنمط العيش ومصادر الإنتاج والثقافة السائدة في غرب الجزيرة العربية ، في ذلك الزمن على وجه الخصوص.

العوامل المؤثرة على تفاعل المتلقي مع الخطاب الشرعي المذكورة أعلاه ، لا تبقى على حال واحدة. فهي تتحول مع مرور الزمن واتساع الثقافة ، وتوسع الدولة وتزايد الثروة والاختلاط مع أمم جديدة.

تؤثر هذه التحولات في فهم الاشياء والرؤى وفي عملية توليد الأفكار ، وبالتالي في فهم الخطاب الشرعي والموقف من أوامره ونواهيه.

هذا كما أسلفت أحد التفسيرات المطروحة لتحول المعرفة الدينية ، والذي يستوجب تمييزها عما نسميه بالدين او النص المقدس. واظن غالبية الناس يرون هذا التفسير معقولا وطبيعيا ، سواء تعلق الأمر بالدين او بأي جانب من جوانب الحياة.

الشرق الأوسط الأربعاء - 2 جمادى الآخرة 1443 هـ - 05 يناير 2022 مـ رقم العدد [15744]

https://aawsat.com/node/3395821/

مقالات ذات صلة:

 تأملات في حدود الديني والعرفي/العلماني

التدين الجديد

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

حلم العودة الى منبع النهر

حول اشكالية الثابت والمتغير

حول القراءة الايديولوجية للدين

داخل الدين.. خارج الدين

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

 الـدين والمعـرفة الدينـية

رأي الفقيه ليس حكم الله

طريق التجديد: الحوار النقدي مع النص

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

الفكــرة وزمن الفكـرة

في علاقة الزمن بالفكرة

 في معنى الوصف الديني

لولا الخلاف في الدين لضاع العلم والدين

المعنى الدنيوي لتجديد الدين

نسبية المعرفة الدينية

نقد التجربة الدينية

 

22/12/2021

في علاقة الزمن بالفكرة

 

دفعني لهذه الكتابة مقال للمفكر المعروف الدكتور عبد الجبار الرفاعي ، خلاصته ان تفاسير القرآن لا بد ان تتمايز عن بعضها وتختلف ، لأن كلا منها يعكس فهم المفسر لعالمه. بعبارة أخرى فانك ترى بين ثنايا التفسير ، روح الزمان والمكان الذي عاش فيه المفسر.

عبد الجبار الرفاعي
وقد مر بنا زمن سادت فيه الدعوة لما أسموه تفسير القرآن بالقرآن. ومرادهم ان معنى الآية ، يدرك من خلال رصفها مع مجموع الآيات المماثلة في اللفظ او المعنى والموضوع. وقريبا من هذا الدعوة  لتفسير القرآن بالروايات ذات الصلة بآية بعينها او موضوع بعينه. ومثلها التفسير الموضوعي ، الذي يذهب أصحابه الى تصنيف الموضوعات الواردة في القرآن ، وجعلها موضوعا واحدا للدراسة والتحليل.

وقد مال عامة الفقهاء الى منهج التفسير بالروايات ، لأن مرادهم هو الحصول على حكم أو إشارة لحكم في النص ، كي لا يضطروا للأخذ بالدليل العقلي المحض. ونعلم ان غالبية الفقهاء المسلمين من كافة المذاهب ، يرجحون الحكم الوارد في النص على نظيره المستند لدليل عقلي ، حتى لو كان غريبا أو منافيا لعرف العقلاء. ومن ذلك مثلا قول بعضهم ، ايام محنة الايزديين في العراق (2014م) بأن سبي النساء واسترقاقهن والمتاجرة بهن ، لا ينافي شريعة الاسلام. وان من ينكر جوازه فهو ينكر معروفا من الدين.

واعلم ان هذا الرأي موجود في كتب التراث ، وفيه روايات وآيات. لكني اجزم انه قول لا يصح في هذا اليوم ، لأن جمهور المسلمين لا يقبل به ، كما ينكره انكارا مطلقا كل العقلاء ، أيا كانت ملتهم.

ضربت هذا المثال كي يأخذنا الى محور هذه الكتابة ، أي دور "الأفق التاريخي" في تحديد الصحيح والسقيم من الأحكام والقيم والمستهدفات الشرعية. "الافق التاريخي" هو مجموع العوامل التي تؤثر على ذهن الانسان لحظة تفكيره في شيء. وتشمل تطلعاته وتوقعاته ومصادر قلقه ، المستوى العام للمعرفة ، نوعية القيم والمعايير الاخلاقية السائدة ، والمشكلات التي يتعلق بها التفسير او الحكم الفقهي.

كل من هذه العناصر يؤثر على ذهن الانسان ، لحظة تلقيه للنص او الفكرة الدينية (بل اي فكرة اخرى) ويشارك في تحديد المعنى النهائي للنص ، اي ما نسميه فهم المتلقي. ومن هنا اشتهر التمييز بين النص وفهم النص او بين الدين والمعرفة الدينية. يختلف الناس في نوعية العوامل التي تؤثر على أذهانهم. وهو اختلاف يؤثر في فهمهم للنص والدليل ، بل يؤثر حتى على التجربة العملية ، التي نتخذها دليلا على صحة المدعى او بطلانه.

هذه الدعوى تثير اسئلة اخرى ، يحتاج مسلمو هذا الزمان لمجادلتها بشجاعة وتجرد. بعض تلك الاسئلة يتعلق بالمنهج ، مثل السؤال البديهي: هل يمكن لنا أن نحدد العوامل المذكورة اعلاه ونتحكم في تاثيرها؟. ومنها السؤال المتعلق بدور المسلم العادي في التشريع: هل له الحق في قبول او رفض حكم ما ، ام يجب عليه التسليم دون نقاش؟. ومنها ايضا قيمة الاجتهادات والتفسيرات التي انتجها فقهاء سابقون ، هل نتعامل معها كسوابق حكمية يبنى عليها ، ام كخيارات علمية ، نظير المراجع العلمية الاخرى. ومثلها الاجتهادات المتعارضة التي تظهر في وقت واحد: هل ننظر اليها كتعبيرات مختلفة عن حقيقة واحدة ام كاحتمالات ذات صفة شخصية؟.

سأعود في كتابة أخرى بعون الله لبعض تلك الاسئلة لاسيما فكرة الاحتمالات وعلاقتها بالزمن.  

الشرق الاوسط الأربعاء - 18 جمادى الأولى 1443 هـ - 22 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [15730]

https://aawsat.com/node/3371966/

 

02/06/2021

طريق التجديد: الحوار النقدي مع النص

عمل سيد ولي نصر  عميدا لكلية الدراسات الدولية بجامعة جون هوبكنز في واشنطن. ونال شهرة عريضة عن دراساته المعمقة في تيارات الاحياء الإسلامي ، في الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية. لاحظ نصر ان كافة الجماعات التي درسها ، انطلقت من رؤية تربط النهضة بقراءة جديدة للقرآن الكريم وتراث الجيل الأول من المسلمين.

نظريا ، تبدو هذه رؤية جذابة. فهي تسمح بتصور فاصل معنوي ، بين أصحابها وبين واقع المسلمين القائم ، وما فيه من تخلف ومشكلات. كما انها تربطهم بالجيل الأول من الصحابة الذين لاخلاف على فضلهم ، وهو امر يضفي شعورا بالرضى عن الذات ، بل التفوق على الاخرين. اما نقطة القوة الأبرز في هذه الرؤية ، فهي انسجامها مع اعتقاد شائع بأنه "لايصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها" وهو قول ينسب للامام مالك (711-795م). وينصرف في أذهان السامعين الى معنى العودة للكتاب والسنة ، واستبعاد ما قام حولهما من شروح وتفسيرات.

هذه أبرز نقطة في تلك الرؤية ، لأنها تعفي أصحابها من التسليم بأي دليل علمي يعارض اجتهاداتهم. فهي تجعل النص القرآني والنبوي داعما مباشرا لآرائهم. وسوف يقتنع بهذه الآراء غالبية المتلقين ، الذين لاعلم لهم بمنطق الاستدلال وطرقه ، ولا بالفرق بين ادراج آية في سياق الكلام ، وبين كونها دليلا قطعيا على ذلك الكلام.

زبدة القول ان العودة للنص المقدس وإعادة قراءته ، هي القاسم المشترك بين التيارات الاحيائية في الإسلام. وهي تطرح أيضا كجوهر لمفهوم تجديد الدين الوارد في حديث نبوي ، ذكرناه في مقال الأسبوع الماضي.

لكن البروفسور نصر يلاحظ ، بعدما شرح هذه الرؤية ، ان التيارات المعنية أخفقت في تقديم مشروع تجديدي بالمعنى الدقيق ، فأكثرها عاد الى نفس الخطاب التقليدي ، مع تعديلات سطحية. ويلمح نصر الى ان السبب ربما يكون انشغال هذه التيارات بتوازنات القوة ، وحاجتها لمهادنة الجمهور أحيانا ، والتيار التقليدي أحيانا أخرى ، كي تضمن لنفسها مكانا في المشهد الاجتماعي-السياسي.

لكني أميل للاعتقاد بأن التيارات المذكورة ، ومن دون استثناء ، لم تخرج أصلا من النسق الفكري والفلسفي التقليدي ، حتى لو كانت قد استخدامت لغة جديدة او وسائل جديدة.

ان اردت اجتهادا جديدا في النص او سواه ، فيجب ان تقف على  مسافة منه (ربما خارج النسق الذي يتموضع فيه) ثم تقيم محاججة نقدية معه ، وتغفل مؤقتا (على الأقل في مرحلة البحث) جانبه القدسي ، وكونه صادرا عن الخالق او النبي. يجب ان تطلق قدراتك العقلية لمحاولة فهمه ، ثم مجادلته على ضوء منطق العصر ورؤيته المعرفية ، ومن يعرف هذه ويعرف نظيرتها في المدرسة الفقهية التقليدية ، فسوف يعرف أيضا ان الأولى متقدمة على الثانية بمراحل ، وانها تتجاوز كل ما لدى المدرسة التقليدية من أدوات لاستنباط المعرفة او صناعة المعرفة.

امامنا تجربة فعلية في تجديد الفكر ، خاضتها تيارات فيها علماء ومفكرون كبار ، طيلة قرن من الزمن. لكنا نجدهم قد عادوا جميعا الى نفس المعسكر التقليدي الذي تمردوا عليه. وبعكس هؤلاء ، نجحت اقلية من المفكرين في تحقيق اختراقات ، وقدمت فكرا دينيا قريبا من روح العصر. الذي ميز هؤلاء هو خوضهم حوارا نقديا مع النص. هؤلاء لم ينبهروا بأقوال اساطين اللغة ولا رواة الحديث والفقهاء ، بل اختطوا مسارا جديدا حقا ، فقدموا رؤية جديدة.

الشرق الأوسط الأربعاء - 21 شوال 1442 هـ - 02 يونيو 2021 مـ رقم العدد [15527]

https://aawsat.com/node/3004111/

مقالات ذات علاقة

 تأملات في حدود الديني والعرفي

تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة

ثوب فقهي لمعركة سياسية

التجديد القديم واخوه العصراني

الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب "الحداثة كحاجة دينية"

الحداثة تجديد الحياة

الحداثة كحاجة دينية

 الحداثة كحاجة دينية (النص الكامل للكتاب)

حول الحاجة الى فقه سياسي جديد

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي

فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني

فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه

فقه جــديد لعصر جـديد

قراءة أهـل الشك

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

نظرة على علم اصول الفقه

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

نقد التجربة الدينية

هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه

هيمنة النهج الفقهي على التفكير الديني

 

16/07/2020

طرائف التاريخ وأساطيره


يقال ان الملحمة الشعرية الهندية "مهابهاراتا" هي اطول قصيدة حفظها تاريخ البشر. ويصل عدد ابياتها الى 220 الفا ، وتتألف من 18 فصلا. وجرى تحويلها الى مسلسل تلفزيوني من 95 حلقة. وبلغ من تأثيرها ان بعض المدن الهندية ، كانت شوارعها تخلو من المارة ، ساعة بث المسلسل. تروي الملحمة قصة الصراع الدائم بين الخير والشر ، وتعرض العديد من القيم والحكم والاخلاقيات ، والآداب والأعراف المشهورة في الثقافة الهندية.


تقدم الملحمة افكارها في قالب اسطوري يتجاوز حدود الخيال. خذ مثلا ذلك الأمير الشجاع الذي غضب ، فحرك بيديه الغيوم ، فسالت أمطارا حولت الارض انهارا ، فاغرقت جيش عدوه عن آخره. وخذ قصة الحكيم الذي القى جثة الاميرة في نهر من ماء الورد ، فأعادها الى الحياة. وخذ قصة القائد الذي خانه احد ضباطه ، فأطلق سهما طار عبر الجبال والأودية والغابات ، وبحث عن الضابط الهارب ، حتى وجده مختبئا في كهف ، فأصابه في قلبه وقتله. ويعلم القاريء بطبيعة الحال اننا نتحدث هنا عن سهم في التاريخ القديم ، وليس عن صاروخ كروز او طائرة درون.

والحق اني لم اكترث بقصة "المهابهاراتا" ، حتى قيض لي لقاء مع أديب هندي ، فتحدثنا عن الفن والفلسفة الهندية ، فذكرت قصة السهم الخارق ، على سبيل النكتة ، فتوقف الرجل وسألني بجد:

لماذ ترى ان هذا الشيء مستحيل؟..  اليس محتملا أن بعض الناس ، في وقت ما في الماضي ، استطاعوا فعل أشياء نعتبرها اليوم خوارق؟

والحق اني فوجئت بالسؤال ، فلم اتوقع ان أحدا يحمل قصة كهذه على محمل الجد. لكني وجدت بعد ذلك بسنوات ان مثل تلك المعتقدات شائعة جدا ، وان هناك من حاول ربطها بمعتقدات دينية ، فاصبحت مصونة من النقد العلمي والتاريخي ، اي تحولت من اقاصيص الى مسلمات. 

واخبرت استاذا لي عن القصة فشرح لي الدليل الذي يكثر استعماله في هذا النوع من الجدالات ، والذي يسمونه "قاعدة الامكان" او "دليل الامكان". وخلاصته انه اذا كان الشيء غير ممتنع بذاته ، على الله او على الناس ، فان حدوثه في الواقع ممكن ، ولا ينبغي انكاره دون تحقيق. والحق اني اقتنعت بالفكرة ، لكنه – رضوان الله عليه – بادر بالرد عليها ردا مفصلا ، خلاصته ان الله قادر على فعل مايشاء. لكن النقاش ليس في قدرة الله ، بل في حدوث الحادثة في التاريخ. ما لم يكن لدينا دليل على حدوثها ، فان الاصل انها لم تحدث ، ومجرد قول احدهم انها حدثت لا يغني عن الحاجة الى التحقق منها ، مثلما نتحقق من اي رواية تاريخية.

صبرة (صحيفة الكترونية)  16-يوليو- 2020 

 https://www.sobranews.com/sobra/71031 

مقالات ذات علاقة 

أزمان طيبة وأخرى .....!

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

بقية من ظلال الماضين

الخروج من قفص التاريخ

 سجناء التاريخ

سياسة الامس وتاريخ اليوم

علم الوقوف على الاطلال

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

العيش في ثياب الماضين

 فضائل القـرية وحقائق المدينة

الفكــرة وزمن الفكـرة

 في مبررات العودة الى التاريخ

  الكراهية

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر

المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد

 

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

  ورقة نقاش في الاجتماع السنوي 42 لمنتدى التنمية الخليجي ، الرياض 2 فبراير 2024 توفيق السيف يدور النقاش في هذه الورقة حول سؤال : هل ساهمت ...