ثمة بين الناس من
يظن بأن أحكام الشرع ثابتة ، لا تختلف بين زمن وآخر. وان ما يقوله فقهاء اليوم هو
عين ما جرى على لسان الرسول والصحابة. اما عموم المسلمين فيعرفون بان الأحكام
الشرعية والقوانين والقيم والأعراف والتقاليد والآراء ، تتغير بمرور الزمن واختلاف
الظروف المعيشية وحاجات الناس.
هناك تفسيرات عديدة
تدعم هذه الفكرة ، أبسطها في ظني هو التمييز بين الدين والمعرفة الدينية ، بين
النص المقدس وما يفهمه الناس من ذلك النص.
نعلم ان فهم
الخطاب الشرعي عملية تفاعلية ، تتأثر بالمجال الحيوي والظرف الاجتماعي الذي يعيشه
المكلف ، فضلا عن ذهنية المكلف نفسه. هذه المؤثرات تتغير بين زمن وآخر ، كما تختلف
بحسب عوامل البيئة الطبيعية والاجتماعية ، ولاسيما علاقة الانسان بالطبيعة ومدى فهمه
لها وتحكمه فيها.
ومنذ البدايات
المبكرة لتفكير الانسان في الدين ، كان ثمة تجاذب بين طرفين: طرف يدعو لقبول المعنى
المتولد من ظاهر النص المقدس ، سيما النص الصريح المحدد ، وطرف يدعو لتجاوز الظاهر
والعبور من اللفظ الى الرسالة المخزونة فيه.
والذي لاحظته خلال
سنوات طويلة من البحث والمتابعة ، ان غالبية المهتمين بعلوم الشريعة (بل وحتى عامة
الناس) مقتنعون بالرأي الثاني ، أي عبور اللفظ الى ما وراءه. لكنهم عند التطبيق
وفي الاستشهاد والمحاججة ، يذهبون الى الرأي الأول. فتراهم يبحثون عن نص صريح ، آية
قرآنية أو حديث نبوي ، يقول على وجه الدقة ما يريدون الاحتجاج له او الاستشهاد
عليه.
والحق ان هذه
معضلة ، أبرز ما يترتب عليها هو إبقاء البحث في النص المقدس سطحيا ، ومحصورا في
المجال اللغوي ضمن المنهج القديم.
قدم العديد من
المفكرين المعاصرين محاججات قوية ، على ان الوعاء اللفظي للنص لاينبغي ان يحدد
معناه النهائي. وذلك لأن اللغة منتج بشري ، يتأثر – مثل سائر منتجات البشر –
بالظرف الموضوعي لصانعه ومستعمله ، أي ما أسماه الفلاسفة التأويليون "الأفق
التاريخي" للمتلقي.
من المفهوم ان
القرآن قد اوجد حقولا دلالية جديدة للكلمات ، صرفتها الى معان جديدة ، تخدم الرؤية
الكونية التي يريد الدين إقرارها كمضمون للعلاقة بين بني آدم والكون الذي يعيشون
فيه (تقارب هذه العملية ما يسميه طلبة الشريعة تحويل
الحقيقة اللغوية الى حقيقة شرعية). لكن هذا لا يغير شيئا من حقيقة ان لغة الخطاب
محدودة بالفضاء الثقافي/الاجتماعي للناطقين بها. وهذا يؤدي – بالضرورة – الى تقييد
وتحديد الخطاب والفضاء الذي يتوجه اليه ، كي يمسي مفهوما للمخاطبين به ، والذين
يتوقع ان يحملوه الى غيرهم ، اي يعيدوا انتاجه في قالب كلام بشري متوسط المستوى.
الحاجة لتحديد
وتقييد الخطاب ، هي التي جعلت نقاط التركيز وطريقة التعبير والأمثلة الشارحة ،
مستمدة من البيئة الاجتماعية ، ومتصلة مباشرة بنمط العيش ومصادر الإنتاج والثقافة
السائدة في غرب الجزيرة العربية ، في ذلك الزمن على وجه الخصوص.
العوامل المؤثرة
على تفاعل المتلقي مع الخطاب الشرعي المذكورة أعلاه ، لا تبقى على حال واحدة. فهي
تتحول مع مرور الزمن واتساع الثقافة ، وتوسع الدولة وتزايد الثروة والاختلاط مع
أمم جديدة.
تؤثر هذه التحولات
في فهم الاشياء والرؤى وفي عملية توليد الأفكار ، وبالتالي في فهم الخطاب الشرعي
والموقف من أوامره ونواهيه.
هذا كما أسلفت أحد
التفسيرات المطروحة لتحول المعرفة الدينية ، والذي يستوجب تمييزها عما نسميه
بالدين او النص المقدس. واظن غالبية الناس يرون هذا التفسير معقولا وطبيعيا ، سواء
تعلق الأمر بالدين او بأي جانب من جوانب الحياة.
الشرق الأوسط الأربعاء - 2
جمادى الآخرة 1443 هـ - 05 يناير 2022 مـ رقم العدد [15744]
https://aawsat.com/node/3395821/
مقالات
ذات صلة:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق