النص الكامل للكتاب
الفصل السادس
د. توفيق السيف
( 6 ) جدل فقهي حول الدولة الحديثة
مسألة الدولة وطبيعة النظام السياسي هي واحدة من المسائل التي اعاد العالم الاسلامي اكتشافها على ضوء التاثير الثقافي الناتج عن اتصاله بالغرب في اواخر القرن التاسع عشر. ونجد انعكاسات هذا الاتصال واضحا في المقارنات التي اقامها رواد الحياة الثقافية يومئذ بين الوضع في العالم الاسلامي ونظيره في اوروبا . والتي ترتبت عليها مطالبات محددة بتطوير السلطة السياسية في العالم الاسلامي . كان من الطبيعي ان يتخذ المطالبون صورة الدولة الاوربية الحديثة كنموذج للدولة التي يطمحون اليها بالنظر لما يظهر عليها من فاعلية وقوة من ناحية ، وما يرونه من تأمينها لحقوق مواطنيها وكرامتهم من ناحية ثانية ، فضلا عما انتجه قيامها من نهوض علمي واقتصادي ، في الوقت الذي كان رعايا الدولة المسلمة مهانين أذلاء في ظل حكومتهم القاهرة ، وكانت دولتهم ضعيفة امام تهديد الاجانب ، اضافة الى التخلف العام الذي يسود عالمهم على مختلف الصعد وفي مختلف الارجاء.
صحيح ان بعض الاعجاب الذي تولد في نفوس المسلمين بالظاهرة الاوربية هو من نوع انبهار المغلوب بالغالب ، لكن هذا لا يعكس الحقيقة كلها ، فالمثقفون والسياسيون الذين اتيحت لهم زيارة اوربا ، واولئك الذين قرأوا عنها ، وغيرهم ممن اطلع على ما بلغه المسلمون في اوج حضارتهم وقارنه بما آلو اليه من انحطاط في القرن التاسع عشر ، كل هؤلاء كانوا على يقين بان تطور الحياة السياسية في اوربا مقابل تخلفها في عالم الاسلام ، هو احد العوامل الحاسمة ان لم يكن العامل الرئيس في تشكيل الفارق بين عالمهم بمجمله وعالم الاوربيين . ولهذا فان الرغبة في احتذاء التجربة الاوربية لم تكن – في كل الحالات - مجرد تقليد سطحي ، او محاولة هروب سيكولوجي من الواقع المؤلم ، بل كانت احيانا محاولة جادة وعقلانية لاكتشاف مخرج أمين من الازمة الشاملة ، من خلال البحث عن الفرص الممكنة والطرق القابلة للتوظيف والنماذج التي ثبت نجاحها في اوربا ، لعل واحدا منها يمكن اعادة استزراعه وانتاجه في البيئة الثقافية الاسلامية .
نعرف اليوم ان ايا من تلك المحاولات لم يكتب له النجاح لاسباب كثيرة ، بعضها يتعلق بالنخبة التي سعت الى نقل تلك النماذج ، وبعضها يتعلق بالنخب الحاكمة او المؤثرة في العالم الاسلامي ، وبعضها بالمخططات الاستعمارية التي سعت اليها اوربا في العالم الاسلامي. ومن بين اهم الاسباب في رايي هو عجز النخبة العلمية ، ولا سيما حملة الفكر الديني عن تطوير وعاء ثقافي محلي قادر على التفاعل البناء والايجابي مع المفاهيم السياسية الحديثة التي تطورت في البيئة الاوربية ، او انتاج بدائل لها تضارعها من حيث الكفاءة والمضمون. لتوضيح هذه النقطة نضرب مثالا بمفهوم الحكومة المسؤولة او مفهوم العدالة او مفهوم حقوق الانسان ولا سيما الحرية والمساواة ، فكلنا يعلم ان هذه المفاهيم وامثالها لها اصول وجذور راسخة في التراث الفكري الاسلامي . لكن النخبة العلمية وحملة الفكر الاسلامي اعرضوا او ربما عجزوا عن تطوير نماذج مفهومية واقعية منها ، قابلة لمعايرة السلوك السياسي الفعلي للمجتمع والدولة ، ومناسبة للعصر الذي يعيشون فيه ، اي قابلة للتحول من مفاهيم ميتافيزيقية الى ثقافة عامة تؤسس لتطور في بنية الدولة ونظامها ، او حراك اجتماعي مستقل عن الدولة ومقابل لها . هذا العجز او الاعراض هو الذي جعلنا مضطرين لاكتشاف هذه المفاهيم في صورتها "الاوربية" ، بدل ان نكتشفها في صورتها "الاسلامية" .
تراوح جواب الاكثرية الساحقة من حملة الفكر الديني على التاثير الاوربي ، بين فعل النعامة ، اي دفن الراس في الرمل ، والسكوت كليا عن هذا الوافد ، وبين مجادلة ذلك التاثير ومقاومته من منطلق سلبي غير عقلاني ، اي اعتباره شرا كله ، في مجمله وتفاصيله . قد يمكن الادعاء بان ذلك الموقف صحيح في منطلقه ، اي رفض النفوذ الاجنبي ، لكنه قطعا غير مبرر ولا عقلاني في مساره وسياقه العام ، وذلك لانه لم يطرح بديلا ارقى من تلك المفاهيم الواردة من الخارج ، ولم يجادلها طمعا في اكتشاف الحقيقة ، اي المجادلة التي ربما تؤدي الى اكتشاف بعض العناصر الفاضلة في هذا الغريب الوافد ، والبحث عن كيفية الاستفادة منه . نشير الى هذا ونحن نتذكر سلوك المسلمين في ذورة مجدهم حينما تعاملوا بايجابية وعقلانية مع ثقافات اليونان والفرس والصين وغيرها ، فتعرفوا عليها واستوعبوها واعادوا انتاج ما راوه مفيدا في تطوير حياتهم وعلومهم ، فاصبحت تلك العلوم المستوردة بالتدريج جزءا من نسيج التراث الاسلامي الذي نذكره اليوم بالفخر والاعتزاز.
على اي حال فان غرض هذه المقالة ليس تقريع اولئك رحمهم الله جميعا ، فقد مضوا الى ربهم وهو سائلهم عما فعلوه "تلك امة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون – البقرة 134". تستعرض هذه المقالة جانبا من المجادلات التي دارت بين عدد من الفقهاء الذين تبنوا الدعوة الى تطوير النظام السياسي ، وبين نظراء لهم عارضوا هذه الدعوة . والغرض منها هو تسليط الضوء على الاسباب التي تدعو الفقهاء ومن يتبعهم من المتدينين للتحفظ على مفهوم الدولة الحديثة الديمقراطية او معارضتها ، كما تستهدف اظهار قابلية الفكر الديني لابداع حلول تستوعب تحديات الحياة المعاصرة . الاطار التاريخي الذي يدور فيه الموضوع هو الفترة بين 1905 الى 1908 وهي الفترة التي شهدت الثورة الدستورية في ايران . ولكي لا يستغرب القاريء من عودتنا الى الماضي ونحن نتحدث عن قضايا راهنة ، اقول ان المسائل المطروحة للنقاش اليوم هي ذات المسائل التي كانت مطروحة في ذلك اليوم ، والردود عليها هي نفس الردود التي نقرأها ونسمعها اليوم . وثبات المسألة رغم مرور قرن من الزمن يدل دلالة واضحة على ما اصاب تفكيرنا الديني من تحجر وجمود .
جوهر الجدل السياسي الاسلامي
التطلع الى دولة اسلامية سواء في صورة نظام الخلافة المطور الذي طالب به مفكرو اوائل القرن العشرين ، او في صورة الديمقراطية الدينية التي ينادي بها مفكرون معاصرون ، ليس وليد حنين هروبي الى الماضي ، وليست مجرد طوبى مستحيلة في الواقع ، كما راى العروي ، بل هي تعبير عن ارادة عقلانية في استبدال الدولة الاستبدادية والفاشلة ، القائمة في اغلب اقطار المسلمين اليوم باخرى كفوءة وعادلة . اما الوصف الاسلامي للدولة المرادة ، فهو تعبير عن الرغبة في تاكيد الترابط بين التجارب الحياتية الجديدة وبين الهوية الخاصة التي تشير الى تاريخ غني بالخبرة ومصادر الالهام. المسلمون يريدون دولتهم او الدولة التي تنبع منهم ، كي تعبر عن ذاتهم وخصوصياتهم ، وكي تسلك بهم سبيل الخلاص من حال الانفصام والتنافر بين الدولة والمجتمع الذي كلفهم فوق ما يحتملون .
ان جوهر المسالة السياسية في العالم الاسلامي المعاصر هو الجمع بين السياسة العقلانية في نظام يضمن حقوق المواطن وكرامته وبين القيم الدينية التي تمثل عماد الهوية الاجتماعية . انه على وجه الدقة ما وصفه برتراند بادي بـ"مشروع تجاوز التوتر الذي يضع وجها لوجه ، المسرح السياسي الرسمي والمسرح السياسي الشرعي ، ودمج المسرحين". واشير الى ان الشرعي هنا ليس مجرد نسخة اسلامية عن الكنيسة او الاكليروس ، بل في حقيقة الامر الهوية الثقافية الخاصة بما هي تمثيل لحقيقة الانسان وذاته العميقة ككائن واع ومفكر. لهذا السبب فان معظم الاعتراضات على نظام وتركيب الدولة الحديثة ، لا تتناول "صحة" او "فاعلية" ذلك النظام وهذا التركيب ، بل تتناول بالدرجة الاولى تطابقها ، اوـ على الاقل ـ عدم تعارضها مع الشريعة الاسلامية . ومن هنا ، فان جانبا كبيرا ًمن العمل الفكري الذي يقوم به دعاة الحداثة الدينية مكرس لابتكار تبريرات دينية لبعض نظم العمل في الدولة الحديثة ، او لاستنباط ادلة تظهر امكانية تبني هذه النظم باعتبارها متوافقة ، او غير متعارضة مع الشريعة.
ويلفت النظر هنا مسالتان:
الاولى: ان معظم الابحاث المعاصرة حول اسلامية الدولة ، اتخذ مفهوم الدولة الحديثة (الغربية) اساسا للمقارنة مع ما هو موجود في التراث الاسلامي او ما يمكن ايجاده فيه . هذا المنهج سيؤدي بالضرورة الى اعادة تكييف للمسألة على النحو التالي : ما هو الذي يقبله الاسلام من الدولة الحديثة وما هو الذي يرفضه ؟. وبكلمة اخرى ، فان غرض المعالجة ، سينتقل من محاولة التوصل الى نظرية خاصة ، الى اقتراح تعديلات قليلة او كثيرة على صورة الدولة القائمة ذات المنشا الغربي.
الثانية: ثمة ابحاث ـ وهي قليلة في الجملة ـ اهتمت باعادة عرض الصورة الموروثة عن النظام الاسلامي القديم ، اما لغرض المقارنة او لاقتراح امكانية احيائه والبناء عليه ، ونجد غالبا ان هذا النوع من المعالجات استوحى مقترحات ابي الحسن الماوردي ، وهي اقرب ما يكون الى وصف للدولة القائمة بالفعل في عصره (العباسية/البويهية) مع بعض التعديلات ، ولا ترقى الى نموذج متكامل لنظام سياسي . لكن ينبغي الاشارة الى ان الباحثين الشيعة لم يوجهوا اهتماما يذكر الى هذه المقترحات ، ربما لانهم لا يقرون بمشروعية الدولة الموصوفة ، كما ان ذلك الشكل لا يتمتع بقيمة دينية كنموذج مرجعي.
فقه الحركة الدستورية
كانت الثورة الدستورية (تعرف في ايران بالمشروطة) عام 1905 ، العربة التي حملت ايران الى العالم الحديث . فقد اعاد دستور 1906 تنظيم السلطة على نحو جديد مختلف كليا عن النموذج المتعارف في دولة القرون الوسطى الشرقية. وتوفر الرسائل التي كتبت في سياق الجدل حول تلك الحركة ، مصدرا مهما للاشكالات والمعالجات الفقهية للمسائل التي اثارتها الدعوة الى التجديد السياسي . واظن ان الاراء التي قدمها الفقهاء الايرانيون المؤيدون للحركة ، هي اقدم المعالجات الجادة لمسالة الدولة المعاصرة في الفقه الاسلامي . وجديتها تكمن في مواجهتها المباشرة لاسئلة ومشكلات عينية مطروحة في المجال العام ويراد التوصل من ورائها الى تطبيقات فعلية في مؤسسة الدولة. وسوف نجد ان تلك الاشكالات لا تزال تتكرر بنفس الصيغة تقريبا ، بعد مرور نحو قرن على تلك المواجهة ، كما ان الحلول التي يقترحها اليوم فقهاء ومفكرون ، لا تبتعد كثيرا عن الحلول التي اقترحها اولئك الفقهاء. تتضمن هذه المقالة امثلة عن الاشكالات التي عرضها الشيخ فضل الله النوري (ت-1327=1909) والشيخ ابو الحسن مرندي (ت-1340=1921) وهما من معارضي النظام الدستوري ، والاشكالات التي نقلها الميرزا النائيني (ت- 1355=1936) والشيخ محمد اسماعيل المحلاتي (ت-1343=1924)، وهما من مؤيديها وقد اخترنا الاربعة لكونهم جميعا من الفقهاء المجتهدين ، كما سنعرض ردود الاخيرين على تلك الاشكالات.
يمكن تصنيف اعتراضات معارضي الدستور الى ثلاثة اقسام :
أ) اعتراضات تتعلق بالمصدر الاجنبي للمباديء الدستورية . خلفية هذه الاعتراضات دينية – وطنية .
ب) اعتراضات تعبر عن القلق من عواقب الاقرار بنظام جديد خارج الاطار الديني التقليدي ، ويتضمن هذا ايضا مخاوف من تهميش النخبة السياسية – الاجتماعية القديمة لصالح اخرى قادمة من خارج النظام . وخصوصا دور العلماء في التنظيم الجديد . خلفية هذه الاعتراضات دينية – نخبوية .
ج) اعتراضات تعبر عن قلق من تمدد سلطة الدولة في صورتها الجديدة واختراقها للمجال الاجتماعي والديني الذي كان أهليا حتى ذلك الوقت . خلفية هذه الاعتراضات دينية – سياسية .
اولا : المصدر الاجنبي
كان اكتشاف العالم الاسلامي لنموذج الدولة الحديثة الاوربي صدمة حقيقية لكثير من العلماء والمثقفين ، من زاوية انها وفرت الفرصة لاعادة اكتشاف الذات المغمورة والمنسية. ومن هنا فقد رأى بعضهم في ذلك النموذج المثال الذي يتمنون رؤيته في دولة الاسلام . ورأى اخرون ان الاساسات التي تقوم عليها تلك المبادئ موجودة في التراث الاسلامي ، وحسب تعبير النائيني فقد كان بعضها من نوع "بضاعتنا ردت الينا" ، كما يقطع بان الاركان التي يقوم عليها النظام الدستوري مثل سيادة الشعب والحرية والمساواة ومسؤولية الحاكم ، من الثوابت الراسخة في الفكر الاسلامي . لكن الفضل يعود الى اوروبا في بلورتها وتحويلها من افكار وقيم مجردة الى اطار عمل محدد.
لكن فضائل النموذج السياسي الاوربي لم تعالج كمفردة منفصلة عن مجمل العلاقة بين اوربا والعالم الاسلامي . في حقيقة الامر فان اكتشاف المسلمين للحضارة الاوربية ترافق زمنيا وموضوعيا مع تبلور اسوأ تعبير ممكن عن تلك الحضارة ، اي محاولة السيطرة والاستيلاء على بلاد المسلمين وثرواتهم ، وبالتالي تهميش هويتهم واذلالهم كأمة كاملة. منذ اواخر القرن التاسع عشر بدأ النفوذ الاوربي في الاقطار الاسلامية يتخذ اشكالا اكثر عنفا وتصميما . وكانت الصورة الاوربية الاكثر حضورا هي صورة رجل الاعمال الذي يسعى للسيطرة على الموارد الطبيعية او التجارة ، والعسكري الذي يفرض النفوذ بقوة السلاح ، والدبلوماسي الذي يملي طلبات في صورة تهديد على حكام المسلمين. ومن هنا فقد تعاملت النخبة المسلمة – وبينهم العلماء واهل الفكر الديني – مع كل تعبير عن اوربا كرمز للعدوان . وحتى تلك العناصر الفاضلة في التجربة الاوربية اصبح ينظر اليها كحامل محتمل للنفوذ الاوروبي .
في بعض الاحيان يؤدي التهديد الاجنبي الى تحريك النقاش حول اسباب الضعف ، وربما يساهم في تشكيل جبهة أهلية ضاغطة على الحكومة من اجل اصلاح النظام السياسي وعلاقة الدولة بالمجتمع . التحدي كما رأى توينبي قد يكون عاملا فعالا في اثارة التحدي وكشف عوامل القوة الذاتية . لكن هذا لم يكن ما حصل في العالم الاسلامي في معظم الاحيان . الذي حصل غالبا هو ان النخبة وعلماء البلاد فضلوا خيار الالتفاف حول الحاكم المستبد لحماية ثغور البلاد . وهي معادلة معكوسة تبدو على ظاهرها سمات العقلانية . يقول الناس حينئذ ان الوقت غير مناسب للحديث عن الاصلاح لانه سيثير المزيد من الخلافات وسيضعف البلاد اكثر فاكثر ، مما يجعلها اقل قدرة على مقاومة التهديد الاجنبي . من الافضل اذن ان نترك الحديث عن الاصلاح حتى يرتفع التهديد ويعود الاستقرار . لكن هذه المعادلة كانت دائما خاطئة ، فالحكام المستبدون والنخبة الخائبة لم تعد الى الحديث عن الاصلاح في اي وقت ، فهي تلوح بالتهديد الاجنبي كمبرر للاعراض عن الاصلاح ، وحين يزول التهديد فانها تشعر بما يكفي من القوة لقمع اي دعوة اصلاحية .
ومن المؤسف ان سلوك العلماء لم يكن بعيداعن هذا ، فطالما سكتوا عن الحكام المستبدين في وقت السلم والاستقرار بحجة الخوف من تبعات مقارعة الحاكم القوي ، ولكنهم مالوا الى دعمه وتحذير الناس من الخروج عليه في وقت الازمة بحجة الحيلولة دون انكشاف البلاد امام العدو المتربص . ولا شك ان هذا السلوك الملتبس كان عاملا في تثبيت الانظمة المستبدة والفاسدة .
كلا الموقفين ، الدعوة الى اصلاح النظام من جهة ، والتحذير من العامل الاجنبي الكامن ضمن هذه الدعوة من جهة اخرى ، كان بارزا خلال الثورة الدستورية . في الحقيقة فان الدعوة الدستورية كانت احد الامثلة الواضحة على التاثير الثقافي الغربي . فقد طرحت خلالها مبادئ سياسية جديدة نوعا ما على المسلمين ، وهو ما دعا شريحة معتبرة من علماء الدين للوقوف ضدها ، رغم وجود فقهاء كبار بين قادتها . وتكشف الاراء التي عبر عنها معارضو الدستور عن حقيقة انهم لم ينظروا الى المباديء الدستورية بتفاصيلها كي يميزوا بين ما هو حسن وما هو سيء فيها . ولو فعلوا ذلك فلربما وجدوا فيها بعض ما هو مناسب ، ثم ركزوا معارضتهم على ما يرونه سيئا . لكن الذي حصل في واقع الامر ان هؤلاء قد تعاملوا مع تلك المباديء كمنظومة واحدة اجنبية وغريبة ، بل رمزا للنفوذ الاوربي ، يقول الشيخ نجفي مرندي في "دلايل براهين الفرقان" الذي كرسه لبيان موقفه المعارض للحركة الدستورية :
الاية [استحوذ عليهم الشيطان فانساهم ذكر الله] تدل على قبح التودد الى الكفار وازدياد شوكة مخالفي دين محمد ، وفساد تعلم لغات النصارى واليهود والتكلم بالفاظ الكفار.. احاديث الرسول تدل على ان تعليم وتعلم وكتابة احاديث اليهود والنصارى ونشر قوانينهم الباطلة المخترعة ، مع وجود قوانين الاسلام واحكام خير الانام ، باعث على ارتفاع شوكتهم وسيطرة الاجانب على بيضة الاسلام..
ونقل المحلاتي عن معارضي المشروطة عددا من الاشكالات ، منها ان التحديث هو وسيلة الاجانب للنفوذ في بلاد الاسلام والسيطرة عليها :
الفرقة الدهرية والطبيعية التي انتشرت في بلدان اوروبا تعمل على نشر مذهبها بتزيين الحرف والصنائع الجديدة مثل تسوية الطرق والشوارع والمكننة واقامة المصانع المفيدة ، وعن طريق هذه الامور النافعة يجلبون قلوب العامة حتى يفسدوها بالتدريج ويحرفوها عن الاعتقاد بالله ولوازمه.. .
ثانيا: تغيير نظام الدولة
رغم النفوذ الكبير الذي تمتع به العلماء في العهد القاجاري الذي شهد الثورة الدستورية ، الا انه لم يكن بالاهمية التي تدعو للدفاع عنها في وجه تيار التحديث . بكلمة اخرى فقد كان العلماء نافذين سياسيا واجتماعيا ، لكن هذا النفوذ كان ثمرة لقوتهم الخاصة وليس لتعاطف الحكومة او ميولها الدينية . في واقع الامر فقد بقيت السلطة السياسية مستقلة عن العلماء مثلما حافظوا هم على استقلال نطاق نفوذهم الاجتماعي . الدولة اذن لم تكن دولتهم ، لكن في المقابل كان المجتمع لهم وتحت نفوذهم ، وكان حريا بهم ان يقفوا في صف المطالبين بحقوقه ، فموقف مثل هذا – بالاضافة الى اخلاقيته – سيؤدي الى تعزيز الحاضن الاجتماعي لقوتهم السياسية ، ويضاعف بالتالي نفوذهم وتاثيرهم.
لهذا فانه يمكن القول ان المبرر الرئيس لموقف العلماء الذين عارضوا الاصلاح الدستوري ، لم يكن القلق على ما كانوا يملكون في ظل الحكم الاستبدادي ، بل القلق مما سياتي بعد التغيير . صحيح ان الدولة القديمة لم تقم على ارضية دينية ولم تكن ملتزمة بتطبيق احكام الشريعة المقدسة ، الا ان الشريعة كانت اجمالا محل رعاية في ظلها ، وكان الملك مهتما في اغلب الاحيان باسترضاء العلماء ، واطلاق ايديهم في بعض الوظائف كالفتوى والقضاء وبعض الولايات الحسبية الاخرى وقمع المنكرات . وقد جرت العادة منذ اعلان التشيع مذهبا رسميا في ايران عام 1501 على اختصاص الفقهاء بمكانة معنوية رفيعة وامتيازات ، جعلتهم على الدوام نخبة محترمة في المجتمع والدولة ، فكان هذا الوضع بمثابة مكسب فعلي منجز.
في المقابل ، فقد شعر بعض العلماء بالقلق من الشعارات التي اطلقت في سياق الدعوة الى الدولة الجديدة . لا لكونها مخالفة لمقتضيات الشريعة ، بل لانها تعارض تقاليد وافهاما مستقرة منذ زمن طويل ، فضلا عما يظهر في بعضها ، من خلاف لقواعد شرعية معينة ، كما سنرى من رايهم في منح نواب الشعب حق التشريع . ويجدر بالذكر ان الفقهاء الذين عارضوا هذا التجديد ، لم يكونوا جاهلين بحقيقة ان النظام القديم كان يكرس حق التقنين مثلا للملك . لكنهم اعتبروه خلافا للشرع معروفا ، وهم يخشون من ان منح هذا الحق لممثلي الشعب ، وتثبيته في الدستور ، وتاييده من قبل فقهاء ، قد يوهم بان شيئا ما في التشريع قد تغير ، بحيث يتحول ما هو متفق على كونه مخالفا للشريعة ، الى قاعدة مستقرة ومقبولة.
لمعرفة الدائرة الموضوعية التي جرى فيها الخلاف ، نشير باختصار الى ان ابرز ما يميز الدولة الحديثة عن اختها القديمة هو قيام الاولى على قاعدة التعاقد الاجتماعي . وهذا يتضمن ان المجتمع هو المالك الحقيقي للدولة ، وهو الذي يمنح السلطة للملك والحكومة ، اي ان قبوله المعبر عنه صراحة وعلنا بممارسة شخص معين او هيئة معينة للسلطة ، هو ما يضفي عليها صفة المشروعية . وبصورة مكثفة فان سيادة الشعب تتجسد في سياقين:
الاول: ان القوانين والسياسات العامة ، تصدر بموافقة ممثلي الشعب ، وتنفذ تحت رقابتهم.
الثاني: ان القائمين على السلطة التنفيذية يصلون الى مناصبهم بموافقة الشعب مباشرة او عبر ممثليه . وانهم مسؤولون امام الشعب ، وان عملهم يقوم على تفويض مؤقت ومحدد من جانب الشعب ، باعتباره المالك الاصلي للدولة. ولتحقيق هذين الامرين فان النظام السياسي يتضمن مؤسسات واليات عمل محددة غرضها تأمين تلك الغايات ، مثل :
1- مشاركة الشعب في صناعة سياسات الدولة وتفويض السلطة ، لا سيما من خلال الانتخابات العامة الدورية .
2- الحق القانوني لكل المواطنين في التنافس على المناصب والامتيازات العامة بصورة متساوية .
3- توفر درجة مناسبة من الحريات المدنية المحمية بالقانون لجميع الافراد.
4- الفصل بين السلطات وقيامها بالرقابة على بعضها للحيلولة دون استبداد احداها .
5- وجود اطارات قانونية لتداول السلطة ، ومحاسبة الحكومة ، واصدار او الغاء القوانين والسياسات.
سيادة الشعب
يدور القلق من مفهوم سيادة الشعب حول مسألتي التشريع وحق نواب الشعب في وضع القانون ، اضافة الى اعتبار الشعب مصدرا للسلطة . فقد جادل الفقهاء المعارضون للدستور بان التشريع ووضع القانون حق خاص لصاحب الشريعة ، وهو الخالق سبحانه ، الذي لم يهمل شيئا في بيانه وبيان رسوله عليه الصلاة والسلام . وبالتالي فان القول بحق احد غيره في التشريع يمثل مزاحمة له وتعديا على حدوده . في هذه الرؤية فان الفقهاء هم الجهة الوحيدة المخولة دون غيرها باستنباط الاحكام العملية من القواعد الشرعية او النصوص بوسائل الاستنباط المعروفة في الفقه . يقول الشيخ النوري في اعتراضه على المادة 12 من دستور 1906 التي تنص على ان لا "جريمة ولا عقوبة الا بموجب القانون" : "هذا الحكم مخالف للمذهب الجعفري ، حيث المرجع للحوادث في زمان الغيبة هم الفقهاء ومجاري الامور بيدهم وهم الذين يقومون باجراء الحدود واحقاق الحقوق ، وليس لاحد غيرهم شيء من ذلك" وحول البند الدستوري الذي ينص على الفصل بين سلطات الدولة الثلاث ، يقول :
تقسيم السلطات الى ثلاث اولها القوة التشريعية بدعة ، وضلالة محض . ففي الاسلام ليس لاحد حق التقنين وجعل الاحكام ايا كان . ليس في الاسلام نواقص كي ياتي احد ليكملها . وفي الوقائع الحادثة يجب الرجوع الى باب الاحكام ، اي نواب الامام عليه السـلام ، وهذا استنباط للاحكام من الكتاب والسنة وليس تقنينا وجعلا .
وعلى نفس المنوال فان ارجاع السلطة الى عامة الشعب يثير حساسية خاصة في الفقه الجعفري الذي يعتبر السلطان حقا خاصا بالامام المعصوم. وهذه الحساسية وان كان موضوعها منتفيا في العصر الحاضر بسبب غيبة المعصوم ، الا ان الاقرار بامكانية قيام احد مكانه ، هو واحد من العناصر المثيرة للجدل - حتى ذلك الوقت على الاقل - ، وحسب تعبير الشيخ عبد الرحيم الاصفهاني (ت1367) في تتمة دلايل براهين الفرقان فانه "من ضروريات مذهب الامامية ان السلطنة والحكومة في غيبة الامام غاصبة وباطلة.. وعليه فالسلطنة المستبدة والحكومة الدستورية كلاهما باطل وخلاف الحق" . ولعل النظرية الاكثر قبولا في وسط الفقهاء المعاصرين ، هي تفويض سلطات الامام الى الفقيه الجامع لشرائط الاجتهاد والقادر على ادارة البلاد . وهي نظرية تقوم على اعتبار الفقيه الحاكم نائبا عن الامام وقائما مقامه وليس صاحبا للسلطة بالاصالة . هناك بالطبع قلة من الفقهاء ترى ان ممارسة السلطة السياسية حق للشعب وهو الذي يفوضها للحاكم حتى لو كان اماما معصوما . لكن الاكثرية تميل الى القول بدور محدود جدا للشعب في تعيين الحاكم . وهو دور لا يقوم على ارضية كون الشعب مصدرا للسلطة وصاحبا للسيادة ، بل على مبررات اخرى ، براغماتية غالبا . من هنا فقد راى الاصفهاني المشار اليه سابقا ان قيام سلطة لا تخضع للفقهاء هو اعتداء على الشريعة وغصب ، كما ان دخول الفقهاء وتاييدهم لنظام من هذا النوع هو قبول بالحرام ، وقد يوهم العامة بشرعيته ، وهذا وضع اكثر خطورة من ذلك الذي كان قائما في ظل الاستبداد ، اللهم الا ان تنأى بنفسها عن التدخل في امور الدين :
تدخل الروحانيين فيها موجب لضعف الديانة ، وانحدار عقائد العامة كما هو مشاهد في الواقع. السلطنة المستبدة ، رغم انها غالبا ، بل جميع امورها ، كانت على خلاف شرع الاسلام الانور ، لكن قوانين الاسلام ظلت جارية كما كانت من قبل ، فهي لم تنسخ احكام الدين . ومن هنا فقد مضى زمن طويل وامور هذه السلطنة الباطلة جارية في البلاد ، لكن من دون ان تزاحم الشريعة او تورد اشكالاعلى عالم الاسلام . كان اساس الشريعة محكما وعقائد الامة مستحكمة . اما الحكومة الدستورية ، فان كانت مقتصرة على السياسة ، ولا تتدخل في الدين ، فانه لا ضرر منها على الاسلام ، بل ربما كانت اوضاع الديانة والامة افضل مما مضى .
تبعا لرفضهم لمبدا سيادة الشعب ، انكر العلماء المعارضون للدستور شرعية انتخاب الشعب لمجلس الشورى ، كما شككوا في شرعية تمثيل النواب للشعب ، وممارستهم للسلطة باسمة . وقالو ببطلان التعويل على راي الاكثرية في اتخاذ القرار . وحسب راي مرندي فان :
ايات مثل {وان تطع اكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله ان يتبعون الا الظن وان هم الا يخرصون} ، وقوله {واكثرهم لا يشعرون} ، وقوله {اكثرهم لا يعقلون} ، دليل واضح وبرهان قاطع على بطلان العمل باراء الاكثرية وذمها . لقد استبدلوا بهذا امر الله الذي يقول {ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الفاسقون} ، وصرفوا النظر عن طاعة احكام حجج الاسلام مراجع التقليد ونواب الامام ، ناموس العصر وحجة الدهر ، قائم ال محمد ، الذين يتساوى الرد عليهم مع الشرك بالله .
اما الاصفهاني فقد انكر صحة وكالة النواب عن الشعب واعتبرها غير ذات موضوع :
هذه الوكالة ليست شرعية ، الوكالة الشرعية هي وكالة فرد لفرد ، اما الوكالة التي تتضمن كفالة الامور العامة ، فهي خاصة بالله كما ورد في القران في مثل قوله{حسبنا الله ونعم الوكيل} و{الا تتخذوا من دوني وكيلا}. فمعلوم ان وكالة الافراد عن الامة مخالفة كليا لنص القران الصريح ، وهو تقدم على النبي الذي يقول له القران{وما انت عليهم بوكيل} وادعاء شراكة الباري . ومنه ايضا ان اعضاء مجلس الشورى ليسوا من اهل الخبرة في القضايا الجارية ، والعقل والوجدان يمنعان مشورة غير اولي الخبرة . والامر الاخر ان اهل الخبرة والبصيرة هم الاقلية ، لهذا فان تفويض العقلاء امورهم ومقدرات حياتهم ومملكتهم لغير الاكفاء ، هو جنون محض.
الحرية والمساواة
وحول الحريات العامة التي على اساسها ومن اجلها قامت الحركة الدستورية ، يقول المعارضون ان الحرية تعارض مبدا العبودية لله ، ذلك ان الانسان يستطيع في ظل القانون الجديد ان يفعل ما يحلو له دون ضابط او رابط ، كما هو مشاهد في البلاد الاوروبية التي اخذت بالنظم الدستورية ، بخلاف ما هو مقرر في الدين من الضوابط والحدود التي قررها الشارع لحركة الانسان . وقد كتب النوري معلقا على المادة الثامنة من متمم الدستور ، التي تنص على حرية المطبوعات والنشر (عدا كتب الضلال) قائلا :
بموجب هذه المادة فان كثيرا من المحرمات القطعية قد حللت ، فالمستثنى اثنان فقط ، بينما المحرمات كثيرة مثل الافتراء وغيبة المسلم وقذف المسلم والايذاء والسب والاهانة والكذب والفحش والتخويف والتهديد ، ونحو ذلك من الممنوعات الشرعية والمحرمات الالهية . فهل تعني الحرية في هذه الامور شيئا اخر سوى تحليل ما حرمه الله .
كما كتب معترضا على المبدأ الدستوري الذي ينص على تساوي الايرانيين امام القانون ، ويعتبر المواطنة اساس العلاقة مع الدولة :
تامل يا اخي في الدين كم في احكام الاسلام من تفاوت بين موضوعات المكلفين ، في العبادات والمعاملات والتجارات والسياسات ، مثل تباين البالغ وغير البالغ والعاقل والمجنون والصحيح والمريض والعاقل والمجنون والمختار والمضطر.. وبين المسلم والكافر.. والحربي والذمي.. وغيرها مما لا يخفى على الفقيه الماهر.. الاسلام الذي وضع هذا القدر من التفاوت بين الموضوعات المختلفة في الاحكام ، كيف يقال انه يقبل المساواة ، الا ان يكون القائل قد فتح دكانا مقابل صاحب الشرع كي يعرض شريعة جديدة .
اما الاصفهاني فقد اثاره بصورة خاصة اعتبار المواطنة قاعدة للحقوق المدنية ، الامر الذي يسمح بمساواة جميع المواطنين بغض النظر عن ديانتهم : "بناء على المبادئ الدستورية اصبح للنصارى والمجوس واليهود حق انتخاب ممثلين ، وحصلوا على حقوق المواطنة ، واصبحوا اخوة في الوطن للمسلمين". من ناحية اخرى فقد راى مرندي ان منح المواطنين حقا متساويا في الوصول الى المناصب السيادية والسياسية ، سوف يؤدي بالضرورة الى فتح الباب امام تولية مسؤولين فاسقين :
اصبح يقوم على امور المسلمين الفسقة من الوزراء والنواب الذين لا تظهر عليهم سيماء الاسلام ، فعطلوا احكام الله واقاموا احكام الكفر ، وجعلوا همهم تمكين القوانين الباطلة التي اخترعوها ، بينما اهملوا احكام الشريعة المقدسة واعلاء دين الله.. انهم ـ باسم نشر المعارف ـ يحولون بين الناس وسبل المعرفة الصافية ، ويلوثون عقول اطفال المسلمين بالترهات المفسدة للاخلاق ، بدل ان يربوهم على اخلاق الاسلام وتحكيم عقائده .
الثالث: تمدد سلطة الدولة
كانت سلطات الملك في النظام القاجاري مطلقة لا يحدها قيد ولا قانون ، ولا تخضع لرقيب ولا حسيب . لكنها كانت مطلقة من دون تعريف اذ لم يكن ثمة قانون يقول بان الملك يتمتع بهذه الصلاحيات . ولعل هذه الزاوية هي التي جعلت العلماء المعارضين للدستور يفضلون هذا الحال على السلطات المحددة للحكومة الدستورية التي تنص صراحة على حق الدولة في فرض ضرائب والسماح باشياء معينة او منعها ، ولا سيما ارجاع سلطة السماح والمنع الى نواب البرلمان وليس الملك او علماء الدين كما توقع بعضهم ربما . صلاحيات الملك المطلقة هي من التقاليد الراسخة والمتطاولة في التراث الايراني ولم يعتد احد ان يسأل ابدا عما يفعل الملك او حدود صلاحياته ، ولهذا فقد كانت بين المسلمات ، اما تفويضها الى ممثلي الشعب فقد كان شيئا جديدا وغير مألوف . اضافة الى هذا فيجب ان لا نغفل احتمال ان يكون المعارضون قد انساقوا في موقفهم المضاد للدستوريين ، فلم يلتفتوا كثير الى التفريق بين ما يستحق النقد وما لا يستحق ، وهو الامر الذي شكل نقطة ضعف اساسية في خطابهم . من الامثلة على هذه المفارقة تاييد النوري لحق الملك في وضع القانون ، وانكاره تفويض هذا الحق نفسه الى ممثلي الشعب :
اذا اراد سلطان الاسلام وضع نظام لعمل موظفيه كي لا يتعدى احد منهم على رعيته . ودار هذا النظام حول تطبيقات الاحكام ، لا الاحكام نفسها ، فهو عمل طيب وهو اهل ومحل لذلك ، وهذا لا ينطوي على مزاحمة لنواب الامام وحجج الاسلام الذين تنحصر وظيفتهم في استنباط الاحكام الكلية التي هي مواد القانون الالهي من ادلتها الاربعة.
في المقابل فقد اعتبروا قيام البرلمان بوضع القانون ، اي بممارسة دور شبيه لدور السلطان ، مشروطا بكونهم مجتهدين او ماذونين من جانب المجتهدين ، وفي هذه الحالة فان الاذن العام من جانب الفقهاء للمجلس ليس كافيا ، بل لا بد من اذن شخصي لكل نائب من نواب المجلس على حدة . وهذا لا يتحقق الا اذا كان النائب معروفا بصفة شخصية للفقيه الذي اصدر الاذن كي يكون تصرفه مشروعا.
من الموارد التي اغضبت معارضي الدستور هو تفويضه البرلمان حقوقا تنطوي على تدخل في حياة الناس ، مثل نصه على حق البرلمان في فرض الضرائب ووضع القوانين المنظمة للتجارة والمالية ، فهذه السلطة تنطوي في رايهم على خرق لمفاد القاعدة الشرعية الثابتة "الناس مسلطون على ما تحت ايديهم" . ومع ان قيام الدولة بهذا كان متعارفا في ظل الدولة القديمة ، الا انهم احتجوا بان ما جرى في الماضي كان قهرا ورغما عن انوف المسلمين ، فلا يصح استمراره في ظل الدولة الجديدة التي يدعى انها تستهدف تحريرهم من الاستعباد ، ولا يصح ان تتدخل الدولة بشكل يمنع تصرف الناس فيما يملكون.
كما عبر معارضو الحكم الدستوري عن قلق عميق من تمدد سلطة الدولة الى داخل النطاق الاجتماعي الذي كان – من الناحية العرفية على الاقل – مجالا خاصا للسلطة الدينية ، ولا سيما تدخل الدولة لحماية الاشخاص الذين يمارسون حريتهم في اطار القانون ، او حصر التعامل معه في اجهزة الامن او القضاء التابعة للدولة . وهذا يعني بصورة غير مباشرة تحديد سلطة العلماء في التدخل ضد ما يعتبرونه منكرا مثلما اشار الاصفهاني : " لقد حرم المسلمون من حقوقهم ، واصبحوا مقيدين .. فهم لا يستطيعون انكار المنكرات.. مثل الحانات ودور الفاحشة والمسارح ، والدوائر التي تنفذ القوانين المخالفة للشريعة".
في سياق مماثل ، استشاط هؤلاء العلماء غضبا بعد انتشار اقاويل تشير الى ان البرلمان سيحتكر الفتوى والتشريع ويسلبها من العلماء . وحسب ما نقل المحلاتي ، فقد تداول معارضو الدستور ما مفاده ان "الدستور يوجب على جميع الناس الالتزام بمقررات مجلس الشورى ، بما فيها الاحكام الشرعية التي سيتولى المجلس تشريعها واصدارها بناء على تصويت اكثرية الاعضاء ، حتى لو خالفت اراء الفقهاء". ويكشف هذا عن قلق العلماء وجمهورهم من تدخل الدولة في الشان الديني ، وهو قلق تعزز مع انتشار تحليلات تقول بان اقرار الدستور وارجاع الناس الى القوانين التي يضعها الملجس ربما يؤدي الى سد باب الاجتهاد ومنع الفقهاء من اصدار فتاوى تعارض القوانين الحكومية. فضلا عن قلق العلماء خاصة من ان ايكال التشريع الى البرلمان ربما يؤدي تدريجيا الى ضمور نفوذهم وانصراف الجمهور عن طاعتهم.
المعالجات التي قدمها الفقهاء المؤيدون للنظام الدستوري
سيادة الشعب
اشرنا سلفا الى ان الجدل الذي دار حول الدستور قد كشف كثيرا من الاشكالات النظرية في اطار الفقه السياسي ، كما ساعد في تطوير معالجات لتلك الاشكالات . ونبدا بالاشكال الرئيسي وهو سيادة الامة وكونها مصدر الشرعية للنظام السياسي ، ونعرض في هذا الصدد راي المحلاتي ، الذي يطابق الى حد كبير راي النائيني ، كما يعتمد نفس الاساس الفقهي الذي صدر عنه. ويقارن المحلاتي بين ثلاثة نماذج للسلطة :
الاول: يرجع المصالح العامة الى عامة الشعب . لكنه يفوض ادارة هذه المصالح الى السلطان . وهذا التفويض لا يستند الى كون السلطان ممثلا للشعب او مخولا من قبله ، بل يرجع مصدر آخر (ربما كفاءته الشخصية او تفويضه من قبل الخالق). في هذه الحالة ينبغي لهذا السلطان ان يستجمع صفات الكمال بجانبيه النظري والعملي ، اي ان يكون عالما حكيما حصيفا ، ويكون في الوقت ذاته مديرا مدبرا . ومثل هذه الصفات لا تجتمع الا في المعصوم الذي لا يتوقع منه الخطأ. ذلك ان ارتكاب الاخطاء لمن هو في مثل مقام السلطان موجب لاضرار على البلاد والعباد يتعسر جبرها. ولهذا قال الشيعة بوجوب ايكال السلطة المطلقة للامام المعصوم لان علمه الكامل وعصمته عن الميل والهوى ، تحول دون ارتكاب الخطا او الوقوع في الغفلة.
الثاني : ما يمكن تصنيفه تحت عنوان السلطة الاستبدادية ، حيث يكون سكان البلاد محرومين تماما ، ومكفوفي اليد عن التدخل في اي من امورهم وامور البلاد عامة . فلا يعترف برجوع المصالح العامة لهم ، ولا يسمح لهم بالتدخل فيها . بل يرجع جميع الامور الى الملك الذي يتعامل مع الارض وما فوقها من بشر ونبات وحيوان ومال ومنافع كما لو انها املاك شخصية له. صحيح ان كل فرد – في ظل هذا النموذج - حر في التصرف في اموره الخاصة ، لكن حريته هذه مشروطة بعدم التعارض مع ارادة السلطان . فاذا خالف ارادة السلطان فجميع حقوقه منتفية ، وسيكون مثالا لمقولة "العبد وما يملك لمولاه". وفي هذا النموذج ايضا فان استجابة الملك لبعض مطالب الرعية ليس ناشئا عن حق لهم عليه ولا لكونه مسؤولا امامهم ، بل بسبب ما يحتمل من لين قلبه ، او توافق رأيه مع ما قدم اليه من التماسات . فاستجابته لهم هي نوع من التفضل عليهم والاحسان اليهم ، لا من نوع اداء واجب الرعاية او الوفاء بالمسؤولية ، فالحاكم المستبد "لا يسأل عما يفعل".
الثالث: ما يمكن وصفه بالسلطنة المقيدة ، وخلاصته ان المصالح العامة ، وكل ما يوجب الصلاح والرشاد ويبعث على التمدن وعمران البلاد ، متعلق بمجموع سكانها ، كلا بحسب قدرته وامكاناته . وما دامت المنافع العامة والمصالح التي لها مدخلية في عمران المجتمع متعلقة بعموم افراده وراجعة اليهم ، فلابد اذن من قيام هؤلاء بتعيين امناء يمثلونهم ، وينوبون عنهم في تشخيص ما هو صالح وماهو غير صالح عن طريق النظر والمشورة ، ثم تقديم تلك الاراء الى الهيئة التنفيذية ، ممثلة في الحكومة او الملك ، للعمل بمقتضاها . فهيئة الامناء تلك هي بمثابة القوة العقلية للبلاد ، وهي تقوم مقام العقل وقوة النظر في مملكة الجسد الانساني . كما ان الحكومة هي بمثابة العقل العملي ، ويترتب عليه ان القول بتحديد سلطات الملك ، يعني بالضبط جعل تصرفاته في امور البلاد ، مشروطة براي عقلاء البلاد وممثلي شعبها .
وبعد شرح النماذج الثلاثة يقرر المحلاتي ان اولها خارج عن موضوع البحث ، لانه موضوعه (اي الامام المعصوم) غير حاضر ، فلا يبقى سوى النموذجين الثاني والثالث ، ولا شك ان العاقل يختار الاخير منهما.
اما النائيني فراى ان جوهر مشكلة الدولة يتمثل في الجنوح الطبيعي للاستبداد والفساد والاستئثار في السلطة المطلقة. مع افتقار السلطان الى العصمة النفسية ، فان الوسيلة الوحيدة لاتقاء الانزلاق الى الفساد والاستبداد هو تحديد سلطة الملك من جهة ووجود آليات للرقابة والمحاسبة من جهة اخرى. وهذا يتحقق من خلال الدستور الذي يوزع السلطات ويمنع حصرها في يد الملك ، وفي البرلمان الذي يراقب عمل الحكومة ويحاسبها . مثل هذا الترتيب سيؤدي – في راي المحلاتي - الى خلاص الشعب من ظلم السلطة المستبدة ورجالها . ولان الامر على هذا النحو فانه قابل للتبرير على ضوء ادلة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
اعترض مخالفو الدستور على هذا التاسيس بما خلاصته ان البرلمان قد توسع في اعماله بحيث وضع نظاما للجمارك وحدد رسوما على الواردات وضرائب على الدخل ووضع نظاما للخدمة العسكرية وغيرها من الموارد التي لا تدخل في باب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذا الباب له موارد وموضوعات محدودة ، وادلته لا تسمح بتجاوزها. واجاب المحلاتي على هذا الاعتراض بان تلك القوانين وامثالها هي الادوات النظامية التي كانت – فيما مضى - تبرر وتنظم ممارسة الاستبداد والتعدي على ضعفاء الشعب ، وان اعادة صياغتها من جانب البرلمان على نحو يستبعد منها ما هو وسيلة الى الظلم ، غرضه منع اسباب الظلم ، ولهذا فهي داخلة تحت عنوان النهي عن المنكر.
طبيعة عمل نواب الشعب
سبق القول ان مؤيدي النظام القديم قد اعترضوا بان مجلس الشورى يزاحم دور الفقهاء ويتدخل في وظائفهم ، وان استنباط الاحكام الشرعية ليس حقا للمجلس ولا يصح ان يجري حسب راي الاكثرية او الشورى ، بل هو حق ووظيفة خاصة للفقيه.
رد الدستوريون بالتاكيد على التمايز بين مجال عمل الفقيه ومجال عمل المجلس ، وحسبما قرر المحلاتي فان وظيفة البرلمان ليس اصدار الاحكام الشرعية ، بل النظر في نظام البلاد واعمال الحكومة من مالية وعسكرية وسياسية ، مثل انشاء الطرق والسدود وفتح قنوات الري وعمران الارض ، اضافة الى التعليم واقامة المصانع ، وغيرها من موجبات رفاه الشعب في معيشتهم ، واخراجهم من ذل الحاجة الى الاجانب .
واضح ان هذه الامور وامثالها مصالح دنيوية ، ولا دخل لها في الامور الدينية ، وبالتالي فان الجهل او العلم بالاحكام الشرعية لا تاثير له فيها . هذه امور يرجع النظر في شانها الى عقلاء كل بلد . وحتى الفقهاء الذين حصلوا على عضوية المجلس فانما انتخبوا بصفتهم ممثلين لصنف العلماء ، باعتبارهم من عقلاء البلد لا لكونهم فقهاء فحسب ، فاذا ذهبوا الى راي يخالف ما رآه اكثرية العقلاء ، رجح راي هؤلاء عليهم ، لان تخصصهم الفقهي لا دخالة له في هذا الامر ، وهذا الامر لا علاقة له بالاحكام الشرعية الكلية التي هي مجال اختصاصهم .
وحول قلق العلماء من استيلاء المجلس على دورهم الاجتماعي ، قال المحلاتي ان طاعة الفقيه واجبة في حالتين ، الاولى طاعة المقلد لمرجعه في الاحكام الشرعية الكلية ، والثانية حكم الحاكم الشرعي في الموضوعات الخارجية كما في النزاعات . اما في غير هاتين الحالتين فطاعة العلماء ليست واجبة على احد. ومن الناحية العملية فان الامر الاول وجميع موارد تقليد العامي للمجتهد لا يدخل ضمن وظائف المجلس ولا هو من موضوعات عمله . وبالنسبة للثاني ، اي الحكم في النزاعات فقد فوض الدستور القضاء الى الفقهاء المؤهلين .في نفس السياق ، شدد على ان الدستور ليس كتابا في الاحكام الشرعية ، بل هو نظام لعمل الدولة ، وليس فيه من البنود ما يخالف المعروف والمعلوم من الدين . وعلى اي حال فان مجال اشتغاله مختلف كليا عن مجال عمل الفقهاء والمجتهدين ، فلا يقال ان صدوره ادى او يؤدي الى غلق باب الاجتهاد او مزاحمة الفقهاء في عملهم.
المساواة والمواطنة
اشكل المعارضون على الدستور بانه يقرر مساواة تامة بين المواطنين امام القانون ، بينما تتضمن احكام الاسلام تمييزا بين الناس يتبع اختلافهم في التكاليف . وقد اجاب المحلاتي بان المقارنة بين المساواة التي يقررها الدستور وبين الاختلافات الحكمية التي قررها الشرع ، مقارنة بين موضوعين مختلفين لا يقبلان المقارنة ، فالمساواة الدستورية جاءت لالغاء التمييز بين الناس التي كانت قائمة في ظل الاستبداد ، حيث الاقوياء يستاثرون بكل شيء ، بينما يحرم الضعفاء من كل شيء ، هذه المساواة هي عين ما اراده الاسلام . المساواة التي تحدث عنها الدستور ليست مساواة المكلفين المختلفي التكاليف ، بل المساواة في الحقوق والواجبات فيما يقتضي المساواة مثل الاستفادة المتساوية من الموارد والمنافع العامة العائدة لجميع المواطنين ، واداء الواجبات التي يتساوى فيها الجميع مثل الواجبات المالية وامثالها . وحول قيام العلاقة بين المواطنين والحكومة على قاعدة المواطنة ، بما يعني تساوي المسلمين وغير المسلمين امام القانون ، يقول المحلاتي ان هذا التقرير لا دخالة له في تطبيق الاحكام الشرعية القائمة على اساس الدين ، مثل التوارث والزواج بين المسلم والكافر وامثال ذلك ، بل المقصود هو حق المسلمين وغير المسلمين في تحصيل حقوقهم التي قررها لهم الشرع . ومعلوم ان الكافر الذي يعيش بين المسلمين له ما لهم من حقوق وعليه ما عليهم من واجبات ، عدا ما استثني بسبب اختلاف الدين وهو لا يدخل غالبا في نطاق عمل الدولة. فالمتفق عليه ان الكافر له حق في ان يملك ويعمل ويتمتع بثمرات ملكه وعمله ، كما يتمتع بالشراكة فيما هو مصلحة مشتركة بين المواطنين بحسب القاعدة الشرعية "فلهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم" . وذهب النائيني الى وجوب ان يكون للاقليات الدينية غير المسلمة ممثلون في البرلمان ، لان هذا هو مقتضى الوكالة العامة للبرلمان عن الشعب ، والا فغيابهم عن الشورى يخدش عمومية وكالة النواب عن الشعب.
الحريات العامة
فيما يتعلق بالحريات التي ضمنها الدستور للمواطنين ، قرر المحلاتي بان هذه ليست من نوع التمرد على عبودية الله سبحانه ، او الانفلات من الالتزام باحكام الشرع . على العكس من ذلك فهي تعني التحرر من عبودية السلطان ورجاله وهي حرية لازمة لتحقق توحيد الله وافراده بالعبودية . الحرية بهذا المعنى هي منع تحكم اي شخص حتى ولو كان الملك في شؤون الناس بغير حق ، وتحميلهم ما لا يستطيعون او ما لا يريدون اعتمادا على القوة والجبروت . وبهذا المعنى فان الحرية من المسلمات العقلية ومن ضروريات الاسلام . واذا كانت الدول الاخرى التي اخذت بالدساتير ، قد سمحت بحريات تشمل رفع القيود عن تعاطي الخمور ، وارتكاب ما هو منكر في الشريعة الاسلامية ، فذلك عائد الى ان هذه ليست منكرات في عقائدهم ، لا لانها لازمة من لوزام الحكم الدستوري. اما النائيني فذهب الى ان تحرير الناس هو ابرز اسباب الصراع بين الانبياء وطواغيت ازمانهم ، وان الصراعات بين الدول ، وبينها وبين الشعوب ، دارت حول هذه النقطة ، وليس حول التزام احد الفريقين باحكام دينية معينة او تملصه منها.
شرعية السلطة
خلاصة الاعتراض هي ان الحاكم الشرعي هو الامام المعصوم ، وفي غيبته يقوم الفقيه المؤهل مقامه ، وهذا لا يتعين بانتخاب الناس . وعليه فان الحكومة الدستورية غير مشروعة ، بل هي ـ مثل الحكم المستبد ـ غاصبة وجائرة لما تنطوي عليه من تعد على مقام المعصوم ونائبه. ويمثل هذا الاشكال احد ابرز نقاط القوة في خطاب مؤيدي النظام القديم ، اذ انه يستند الى فهم سائد وعميق الجذور في الفكر الشيعي . ولهذا فان المحلاتي لا يقرر صراحة شرعية الحكم الدستوري مقابل حكومة نائب الامام ، بل يضعها مقابل الحكم الاستبدادي . وهو يعيد صياغة المسالة على نحو مختلف خلاصته ان الشعب حين واجه معضلة الاستبداد توجه للفقهاء بالسؤال حول خصوص تحديد السلطة لمنع الاستبداد والتعدي ، فاجابه الفقهاء بوجوب العمل على اقامة هذا النظام. فكانه اراد الاشارة الى ان حكم نائب الامام ، لم يكن مطروحا لا من جانب الشعب ولا من جانب الفقهاء . المسالة التي كانت مطروحة هي على وجه التحديد الاستبداد وامكانية تحديد صلاحيات السلطة المستبدة. اما النائيني فذهب الى ان المراقبة والمحاسبة من جانب الشعب ، ممثلا في نوابه ، حق حتى لو كان القائم على السلطة نائب الامام . لان اصل المحاسبة والشورى مقرر في الشريعة ، ولان الحكومة تعتمد على الاموال التي يدفعها الشعب على صورة ضرائب ، فهذا يعطي للشعب حق الرقابة والمحاسبة على كل حال.
طبيعة عمل المجلس ووكالته عن الشعب
يشدد المحلاتي في هذا المورد على الخطوط الفاصلة بين وظائف المجلس وموضوعات عمله ، وبين وظائف الفقهاء ، ويؤكد دائما على ان الشأن العام والمصالح العامة للمجتمع ليست من وظائف الفقيه ، بل ترجع الى صاحبها الاصلي اي المجتمع ، وهو يديرها بواسطة نوابه في البرلمان . وفي الوقت نفسه فانه يشدد على عدم حق الدولة او البرلمان في التدخل في الشأن الديني الذي هو مجال عمل الفقهاء ومورد العلاقة بينهم وبين الجمهور . ويمثل هذا التمييز واحدا من الاشارات المبكرة الى ضرورة الفصل بين المجالين العام والخاص التي تنادي بها الفلسفة السياسية الحديثة . يؤكد المحلاتي على ان الاحكام الشرعية استنباطا او تطبيقا ، ليست موضوع نقاش في مجلس الشورى ولا في انتخاب اعضائه .
وحول القيمة الدينية لمقررات المجلس ، وما اذا كان من حقه ان يصدر قوانين ملزمة في امور لم يرد فيها ايجاب او تحريم شرعي . يمكن تلخيص مقالة معارضي الدستور بان الالتزام والالزام بطرف معين في المباحات الشرعية ، حرام ، لان الالزام بغير الواجب او منع غير الحرام ابتداع في الدين. واجاب المحلاتي بان الالتزام باحد طرفي المباح على نحو شخصي ليس حراما . فلو ان شخصا قرر الامتناع عن شرب الشاي او اكل فاكهة معينة فهل يعد عمله هذا حراما ؟. اما بالنسبة لالزام الغير ولا سيما من قبل مجلس الشورى ، فلو ان نواب الشعب توصلوا الى ان ترك احد الافعال مما يدخل ضمن موضوع عملهم سبيل الى مصلحة عامة ، او للتوقي من ضرر عام ، مثل ان يتوصلوا الى ان التوقف عن تجارة معينة الى وقت معين ضروري لمصلحة البلاد ، فليس ثمة مانع شرعي من قيامهم بذلك ، وليس على الشعب حرج من طاعتهم ، خاصة مع كونهم اهل نظر وامناء ومفوضين من قبل الشعب في مثل هذه الامور . وهذا ليس من نوع فرض احكام دينية ، بل هو نوع من جلب المنافع ودفع المضار ، تماما مثل امتناع العاقل عن تناول ما يضره ، وسعيه لترتيب الحصول على ما هو مصلحة له.
موضوع عمل المجلس هو تشخيص المصالح والمفاسد ، وليس استنباط الاحكام الشرعية او الالزام بها . الوسيلة الوحيدة لتشخيص المصالح والمفاسد العامة هي النقاش والتداول بين اهل الراي وذوي الخبرة المفوضين من قبل الشعب . لكن النقاش قد لا ينتهي دائما الى اتفاق . ومن هنا فان السبيل الوحيد للوصول الى نتيجة هو الركون الى سلوك العقلاء ، اي ترجيح احد الرايين باستعمال المرجحات العقلية . الحل الذي ياخذ به العقلاء عند استحالة التوافق بين عدد منهم على راي واحد ، هو ترجيح الطرف الاقوى لان احتمال اصابته للحقيقة ارجح . وفي هذا المورد فان ميل اكثرية اهل الخبرة الى احد الطرفين دليل على ارجحيته وكونه اقرب الى السلامة وابعد عن الخطا ، وهو مضمون الرواية المنسوبة للامام الباقر "خذ ما اشتهر بين اصحابك ودع الشاذ النادر".
وحول شرعية نيابة اعضاء المجلس عن الشعب ، قال معارضو الدستور بان توكيل الشعب للنواب باطل لان الوكالة الشرعية لا تجري في الامور العامة بل في الامور الشخصية ، وان لها صيغة محددة ، بخلاف توكيل النواب الذي لا يطابق هذه الصيغة ، كما انه يعم امورا غير محددة سلفا من جانب الموكلين . ورد المحلاتي على هذا ببيان ان مفهوم "الوكالة" في خصوص هذا الموضوع ليس هو ذاته مفهوم الوكالة الشرعية التي تتحدث عنها الكتب الفقهية ، وان اتحد المسمى . وينبغي دائما ملاحظة ظرف اطلاق التعبير قبل النظر في حكمه ، باعتباره قرينة على المراد منه . بالنسبة لعمل نواب الشعب ، فان اجتماعهم ليس لغرض شخصي ، بل للنظر في مصالح عموم الرعية ، وان جواز اشتراك احد الناس في هذا الاجتماع ولهذا العمل ، مرهون بحصوله على تفويض من الشعب الذي مصالحه محل نظر . هذا التفويض اطلق عليه اسم الوكالة ، اطلاقا عرفيا ، وهو جائز وجار في العرف السياسي ، ولا احد يستشكل في كون المقصود به الوكالة الشرعية بالمفهوم الدارج في الفقه. في نفس السياق ، رد على دعوى الحاجة الى اذن الفقهاء لنواب المجلس ، او عدم صحة هذا الاذن اذا صدر . وخلاصة رايه ان الاذن المعني هنا ليس من نوع الاذن الذي تذكره الكتب الفقهية للتصرف في الامور الحسبية مثل الولاية على الصغار والاوقاف او التصرف في سهم الامام عليه السلام (الخمس) . بل هو اذن في معنى التاييد والمناصرة في عملهم الذي جوهره منع الظلم وتحديد تصرف السلطان ، ومنع التعدي على حقوق الشعب . فشرعية عمل النواب ليست مستمدة من اذن الفقهاء ، بل من تفويض الشعب لهم في هذه المهمة . وهذه الاشارة من جانب المحلاتي من اقوى ما صدر عن فقيه شيعي في ارجاع شرعية السلطة الى التفويض الشعبي ، خلافا لراي الاكثرية الذين اعتبروا اذن الفقيه ضروريا - على سبيل الوجوب او الاحتياط – لتامين شرعية الممارسة السياسية . والى هذا الجانب مال النائيني الذي راى ان اذن الفقيه ليس ضروريا لاسباغ الشرعية ، وان كان الافضل الاخذ به على سبيل الاحتياط .
خلاصة
يكشف التامل في الجدل الذي دار بين مؤيدي الحركة الدستورية ومعارضيها عن معالجات لمسالة السلطة تتمايز في جوانب كثيرة عن التصوير التقليدي الذي تحفل به كتب الفقه القديمة منها والجديدة . ذلك لان هذا الجدل دار على خلفية واقعة محددة فرضت على اطراف النقاش تحديد موضوع النقاش والابتعاد عن الاراء المطلقة والمجردة . فيما يلي بعض المعالجات التي افرزتها تلك النقاشات ، والتي تعكس تطورا مهما في التفكير الفقهي في مسالة السلطة والسياسة :
1ـ اعادت رسائل الفقهاء الدستوريين تعريف الدولة باعتبارها هيئة اجتماعية مدنية ، ينظر اليها من زاوية وظيفية. خلافا للتقليد الراسخ في النظر اليها كهيئة دينية ترتبط حصرا بالامام المعصوم .
2ـ طرحت تلك الرسائل ، ربما للمرة الاولى في الفقه الاسلامي ، مبدأ مالكية المجتمع للدولة وسيادة الشعب وكونه مصدر السلطة. ويظهر هذا في اعتبار التفويض الشعبي وسيلة وحيدة لتامين الشرعية السياسية وقيام الحكومة بادارة المصالح العامة. كما طرحت للمرة الاولى فكرة المواطنة كاساس للعلاقة بين المجتمع والدولة ، حين قررت حق غير المسلمين في المشاركة في الحياة السياسية ، ودعمت هذه الاراء بادلة مقبولة من الناحية الفقهية.
3ـ اعاد الفقهاء الدستوريون صياغة مفهوم التشريع ، وعمل نواب الشعب . وهي من المفاهيم التي لا تزال محل جدل بين بعض الاسلاميين المعاصرين . وتقوم الصياغة الجديدة على نفس المبدا المذكور في الفقرة السابقة ، اي الفصل بين مجل عمل الفقهاء (الديني) ومجال عمل الدولة (المدني-المصالح العامة) ، والتاكيد على ان موضوع عمل البرلمان هو تشخيص المصالح وليس تشريعا بالمفهوم الفقهي الخاص ، وان قيامهم بهذا العمل قائم على كونهم ممثلين للعرف العام ومفوضين من قبل المالكين (اي الشعب) . ولهذا فانه حتى الفقهاء المشاركين في المجلس ، ليس لهم ميزة على غيرهم لكونهم فقهاء.
4ـ تؤكد رسائل الفقهاء الدستوريين على تدخل العلماء في الحياة السياسية ، لكنها لا تدعو الى حكومة فقهاء ، او حكومة تخضع لنفوذهم ، بل تميل الى اعتبارهم شركاء مساوين لغيرهم . وفيما يتعلق بمصدر مشروعية الحكم ، فانها تعتبر قيام الدولة على اساس صحيح ، وهو هنا الدستور والرقابة الشعبية ، هو ما يمنحها المشروعية ، كما ان استمرار مشروعيتها راجع الى صحة عملها ، وليس لكون الفقيه على راسها ، فهي من هذه الناحية تربط توليد المشروعية بعمل النظام ذاته ، وليس باشخاص القائمين عليه.