قليل من الناس يمر في هذه الدنيا مشوار
الحياة الذي قدر له ثم يمضي ، ولكنه كالمقيم رغم رحيله ، ينام ملء جفونه بل تنام
حتى جفونه ، وهو مستيقظ الروح ، اذ تجاوزت روحه حدود الجسد فانصبت فكرا وعلما
وعطاء ، لايفنى حين تضم الجسد المؤقت اطراف المنام الاخير .
لا اخال احدا غير ولوع بهذا المقام بين
الناس بعد فناء الجسد ، رغم ان كثيرا من اولئك الناس لايعمل للبقاء ، بل وربما لم
ير في هذا النوع من البقاء مهما يستحق العناء ، وهو على اي حال جدل المجد وثمن
المجد ، المجد الذي يطمح اليه الجميع لكن لا يطيق غالي ثمنه من الطامحين الا القليل القليل .
انتهى الاستاذ محمد سعيد المسلم من
مشوار الحياة ، ترجل الفارس من على صهوة جواده ، مدد قلمه في حنان العاشق وسط
اوراقه وغفا ، مات الاستاذ ، لقد مات ، ومضى عن هذه الدار . تتسلل خيوط الشمس هذا الصباح من فرجة الباب ،
فلا يصافح دفئها الجسد الكليل ، فلم يعد منذ البارحة ممددا على الفراش الذي
استضافه نحو عقد من الزمان .
نذكره اليوم وقد اصبح خبرا يروى ، رمزا
لجيل من الرواد المكافحين في سبيل العلم والمجد ، رجلا تمدد حبه لوطنه في تفاصيل
حياته ، فاصبح لايكون الا حيث يكون الوطن ، ولايتنفس الا عبير عشق الوطن ، ولايخط
ورقا الا بريشة الوطن ، ايامه التي تمضي فينساها اكثر الناس ويحفظها قلم العاشق ،
فتبقى حية حيث الحب هو الماء والهواء وحيث هو الاستمرار والبقاء .
بدون قلمه ربما كان اكثرنا لايدري اين
كنا ولا من اين ابتدأنا ، من دونه ربما
عجزنا عن التمييز بين (ساحل الذهب) وخليج القراصنة ، رحم الله الاستاذ ، الذي من
نتاج معاناته ، تعلمنا اية ارض حنون هذه التي نستظل وارف الظلال من نخيلها ، ومن
سهر ليله عرفنا قيمة النسيم ، الذي مع دفئه يرطب ارواحنا ، اذ نستقبل البحر او
نستقبل الصحراء .
منذ اربعين عاما حين تسرب نسيم العصور
الجديدة الى واحاتنا الغافية في احضان الرمل ، وفتحنا العيون على عالم جديد ،
ونفضت بلادنا عن ردائها غبار ازمنة البؤس ، ظن كثير منا ان ماعندنا قد مات ،
وماعند الغير هو الذي يستحق الحياة ، بل والذي يستحق ان يعاش له وفيه ، كنا على
وشك ان ننقطع عن قديم ليس اكثره قليل الفائدة ، ونستبدله بغريب ليس كله مؤكد
الفائدة ، في لحظات المخاض تلك ، كان قليل من عشاق ارضهم قلقا من ان ينفصل الناس
عن حقائق الحياة ، فيصبح الوطن في عيونهم بلا قيمة ، وتصبح الارض عندهم مجرد تراب
يسفو، اذ تنفخ في اشرعته الريح ، فانبرى ذلك النفر القليل للتذكير بقيمة الارض ،
التي تنطوي على قيمة الانسان الذي عاش عليها فعمّر وبنى واختط لمن يخلفه طريقا
للمجد ، بعضهم ضاعت صيحاته في ضجيج الانتقال بين العصرين ، وثلة قليلة ارادت توثيق
ندائها وتحويله من موعظة الى علم ، فانكبت على اوراقها لتحفظ علينا مالو ترك لضاع
، بين تلك الثلة يبرز الاستاذ محمد سعيد المسلم ، الذي وقف جانبا كبيرا من حياته
لدراسة تاريخ المنطقة وتوثيق ماجرى في ايامها ، مبتدئا بـ (ساحل الذهب الاسود) .
حينما تفتح كتابا في ايامك هذه ، عن
تاريخ المنطقة او عن ادابها ، فستجد كم كان جهد المرحوم المسلم قيما وثمينا ،
استطيع الزعم انه يندر ان تلقى كتابا في اللغة العربية ، درس تاريخ المنطقة ولم
يستفد من (ساحل الذهب) قليلا او كثيرا ، وفي هذه السنوات الاخيرة ظهرت كتب ـ وان
كانت لاتزال قليلة ـ عن تاريخ المنطقة الشرقية ، لكن جهود المرحوم المسلم تبقى فريدة
وتبقى ـ لهذا السبب على الاقل ـ استثنائية القيمة ، فقد كتب الاستاذ تاريخ المنطقة
يوم لم يكن احد مهتما بهذا الامر ، ويوم كان هذا النوع من الاعمال معاناة لايطيقها
الا عاشق او صاحب رسالة .
قيمة العمر في ما يبقى بعده ، وقيمة المرء في
مقدار مايعطي ، بعض الناس يستحقون ان يعيشوا حياتهم تكرارا ، حيث حياتهم بحر من
العطاء لبلادهم وللناس ، وبعض الناس يكاد يمل حياته ويملها الناس فينتظرون رحيله
بفارغ الصبر ، ذلك هو الفرق بين الكسالى والمنتجين ، وذلك هو المقياس لاستحقاق
نعمة الحياة ، ونعمة الذكر الشريف بعد الحياة ، رحم الله الاستاذ محمد سعيد المسلم
الذي كان يستحق الحياة ويستحق شرفها وشرف الذكر فيما بعدها ، ويستحق حياة اطول من
العقود السبعة التي افناها على هذه الارض ، لكن هذه مجرد امنية ولكل اجل كتاب .
جريدة اليوم بتاريخ 9/5/94