11/12/2025

بين هويتين .. مغلقة ومفتوحة

 صادفت هذا الاسبوع مقالين: أحدهما "الهوية الإسلامية والمؤامرة عليها" للدكتور ناصر دسوقي رمضان ، وقد نشر في 2009. اما الثاني فهو "الحق في الكرامة والهوية المغلقة" للدكتور عبد الجبار الرفاعي ، ونشر الأسبوع الماضي.

كلا المقالين يعالج مسألة مثيرة للجدل ، تنطوي في سؤال: هل يمثل الدين هوية خاصة لاتباعه ، تنفي الهويات الأخرى او تزاحمها ، ام انه ، على العكس: هوية مفتوحة ، تتفاعل مع غيرها ، او على الأقل تقبل مجاورتها والتداخل معها؟.

عبد الجبار الرفاعي

القائلون بأن الدين هوية متفردة ، يعتبرون السؤال ذاته دينيا. أي ان الهوية ، من حيث المبدأ ، موضوع ديني ، وينبغي ان يأتي تكييفه من داخل الدين. بناء على هذا فان الدين يضع نفسه وأتباعه في دائرة خاصة ، تفصلها حدود واضحة عن بقية الانتماءات ، بما فيها الانتماء العائلي والقبلي والمهني والسياسي والقانوني وغيره. هذه الحدود ليست مجرد اختلاف في الأفكار ، بل مخالفة في النظام الاجتماعي والتراتب وحتى نمط العيش.

أما التصور الثاني فيقود منطقيا الى الاستنتاج ، بان الدين - في ذاته - أداة تواصل او موضوع تواصل بين المختلفين. وفقا لهذه الرؤية فان الانتماء للدين ، يعني ان تصعد الجسر الذي يوصلك الى بقية الخلق ، بشرا ونباتا وحيوانا وجمادا ، من خلال استيعاب النظام الكوني الذي خلقه الله وسخره للإنسان ، والقيم العليا التي يقبلها كافة بني آدم ، بغض النظر عن أديانهم وأعراقهم او بلدانهم.

يركز الفريق الأول على "تمايز" المسلمين عن غيرهم. وهو يصرف هذا التمايز الى مختلف أطراف الحياة. لكنه - في التطبيق – يقصر اهتمامه على التمايز المظهري ، كما في اللباس واللغة والهيئة وأمثالها. وبناء على التمايز ، فانه يرجح الانقطاع او حتى المنازعة ، كمضمون للعلاقة مع المختلفين ، ولا سيما اتباع الأديان التي تبدو منافسة. وفي الوقت الراهن يمثل الصراع مع الغرب الثقافي والحضاري ، مادة أثيرة للنقاش والتعبئة عند أهل هذه الرؤية ، لكنه – لنفس السبب المذكور – صراع يدور حول الجوانب المظهرية ، وليس – على سبيل المثال – الاقتصاد والعلم والابتكار وحقوق الانسان وامثالها. كما ينظر للغرب باعتباره مسيحيا او يهوديا ، أي دينا منافسا ، وليس باعتباره حضارة مختلفة ، يمكن التفاعل معها او الاستفادة من تجربتها.

في المقابل يدعو الرفاعي لهوية منفتحة ، تسمح بمشاركة الاخرين ، بمن فيهم اتباع الأديان الأخرى ومن لا يتبع دينا على الاطلاق. ويرى ان النموذج الذي يعرضه القائلون بتفرد الهوية الدينية ، قد ساهم في تحويل الدين الى أيديولوجيا مغلقة ، أشبه بقلعة ، يتعارف الناس في داخلها ، وينكرون المختلفين الذين في خارجها.

تقديم الدين كهوية منفتحة ، وقادرة على التفاعل مع الهويات والأديان والايديولوجيات المخالفة ، يعني ان الجوانب المظهرية والشكلية ، أي تلك العناصر الحياتية التي تميز المسلمين عن غيرهم ، ليست جزء من جوهر الدين ، بل هي وعاء لحياة اتباعه ، يرتبط بظرفهم المعيشي فحسب.

هذا المفهوم مقبول من حيث المبدأ ، في الماضي والحاضر ، ونعرفه باسم تأثير الزمان والمكان في الاجتهاد ، وقابلية الاحكام الشرعية للتشكل بحسب ضرورات الظرف الخاص للمكلفين. لكن هذه القاعدة ، أي تأثير الزمان والمكان ، لم تتحول الى قاعدة حاكمة ، بل بقيت هامشية في معظم العمل الفقهي المعاصر. وتظهر هامشيتها في جعل نصوص الكتاب والسنة ، متراسا لمنع التصرف في الاحكام التي لم تعد مناسبة لحاجات المسلمين وضرورات حياتهم المعاصرة. فكلما احتاج المسلمون الى حكم جديد ، بحثوا في منطوق النص وليس في حكم العقل كما يفترض.

اعتقد ان القول بالهوية المنفتحة ، يسنده أصل سابق للدين ، وهو اعتبار التعرف والتعارف وكسب المعرفة ، علة لخلق الناس مختلفين ، كما ورد في التنزيل الحكيم "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا". فهل يمكن للدين ان يلغي علة من علل الخلق والتكوين الرباني؟.

الخميس - 20 جمادى الآخرة 1447 هـ - 11 ديسمبر 2025 م

https://aawsat.com/node/5218228

مقالات ذات صلة

أزمة هوية؟
اشكالية الهوية والتضاد الداخلي
 اعادة بناء القرية .. وسط المدينة
الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني
أن نفهم الآخرين كما هم لا كما نتصورهم
بين هويتين
تأملات في حدود الفردانية
تكون الهوية الفردية
جدل الهوية الفردية وتأزماتها
حزب الطائفة وحزب القبيلة
حول أزمة الهوية
حول الانقسام الاجتماعي
الخيار الحرج بين الهوية والتقدم
الدين والهوية ، خيار التواصل والافتراق
سجناء التاريخ
عن الهوية والمجتمع
فيديو : نادر كاظم وتوفيق السيف حول اشكالات الهوية
القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة
كيف تولد الجماعة
الهوية المتأزمة


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

بين هويتين .. مغلقة ومفتوحة

  صادفت هذا الاسبوع مقالين: أحدهما " الهوية الإسلامية والمؤامرة عليها " للدكتور ناصر دسوقي رمضان ، وقد نشر في 2009. اما الثاني فهو...