كرس د. محمدالرميحي مقالته المنشورة بهذه الصحيفة ، يوم السبت الماضي ، للتعليق على جدل عنيف ، نتج عن موقفه من دعوة بعض البرلمانيين لالغاء الفصول المختلطة في التعليم الجامعي. اتسم هذا الجدل بعنف لفظي واضح من جانب الذين يدعون الدفاع عن الفضيلة. عنف لا يقف عند تسفيه الرأي المخالف ، بل يتعداه الى شتم صاحب الرأي ، واتهامه بالخيانة والجهل والمروق من الدين ، وما اشبه.
وقد سبق للرميحي وغيره
من أهل الرأي ، ان تعرضوا لاتهامات من هذا القبيل. لكن المقال اثار نقطة جوهرية ، تستحق
المزيد من المعالجة ، وهي إشارته الى ان هذا الجدل وأمثاله يعبر عن "أزمة هوية" ، تتجلى كلما برزت على سطح الحياة اليومية ، تحديات الانتقال من عصر
التقاليد الى عصر الحداثة.
وقد لاحظت ان أهم تحولات الهوية الفردية في مجتمعنا
، نتج عن انفتاحه
على مصادر تأثير ثقافي وانماط حياة جديدة ، تعارض ما ورثناه
عن الاسلاف. وأميل للاعتقاد بأن بداية التحول العميق يرجع للعقدين الأخيرين من
القرن العشرين ، وساهمت فيها بشكل متوائم برامج تحديث الاقتصاد وتغيير سياسات التعليم
، إضافة للتوسع في الحاق الطلاب بالجامعات الأجنبية. اما ذروة التحول فقد حدثت –
وفق تقديري – في السنوات الخمس الماضية ، نتيجة لوصول الانترنت السريع الى كل قرية
وبلدة في انحاء المملكة.
وفر الانترنت فرصة للشباب للانفتاح المباشر على
عوالم جديدة. ولم يعد للعائلة والمدرسة والنظام الاجتماعي بمجمله ، الا القليل من
التأثير على ذهنية الفرد ، اما المساهم الأعظم فقد بات هو الفرد نفسه ، الذي يختار
بوعي ومن دون وعي ، من موائد لا أول لها ولا آخر ، موائد بعيدة تماما عن التجربة
التاريخية لمجتمعنا.
كل من هذه التغيرات يواجه الذهنية التقليدية بتحد
جديد ، يدعمه نمط حياتي اكثر تقدما واكثر يسرا وجاذبية ، الامر الذي يضع الفرد على
المحك: إما التخلي عن عالمه القديم او الحرمان من ثمرات الحياة الجديدة.
وفقا لرؤية اريكسون ،
فان التحول المشار اليه ، يؤدي لعسر في التفاهم بين جيل الشباب وآبائهم ، ليس لأنهما
يرفضان التفاهم ، بل لأن اختلاف المشارب الثقافية يجعل كلا من الآباء والأبناء
ينطلق من خلفية مختلفة ، بل عالم مفهومي ومعنوي مباين للآخر. ان حاجة الاب والابن
للحفاظ على العلاقة القائمة ، يؤدي بالضرورة الى قدر من التكلف والعناء ، الذي
ينعكس على شكل أزمة نفسية ، هي ما نسميه أزمة الهوية.
رؤية اريكسون تنطبق على الشباب. لكني وجدت أزمة
الهوية عند شريحة واسعة من الآباء أيضا. وهي تتجلى في صورة رفض داخلي للقديم مع
قبوله في الظاهر ، أو رفض داخلي للحديث مع رغبة قوية في التمتع بخيراته. ينتج هذا
التنافر ازدواجية في القيم ، تمثل مظهرا آخر لازمة الهوية.
اظن ان مرجع التأزم عند كلا الطرفين: الشباب
والآباء ، هو بطء التفاعل بين تراثنا الثقافي ، الديني وغير الديني ، وبين متغيرات
العصر الثقافية ، ولا سيما منظومات القيم الجديدة ، وما يترتب عليها من علائق بين
الناس وتموضعات اجتماعية مختلفة عما ساد في الماضي.
اعتقد ان شريحة واسعة من ابناء مجتمعنا ، من الآباء
خصوصا ، يعانون من عسر شديد في التوفيق بين قناعاتهم القديمة وحياتهم الجديدة. ولو
نظرنا للسبب العميق وراء كل هذا ، لرأيناه في حقيقة ان تراثنا الثقافي يريد للفرد
ان يكون تابعا مطيعا ، لا مشاركا او صانعا للقيم التي تقود حياته. وهكذا يتوجب
عليه البقاء منفعلا ومتأثرا ، ان أراد التمتع بفضائل النظام القديم.
الشرق الاوسط الخميس - 20 ربيع الأول 1445 هـ - 5 أكتوبر 2023 م https://aawsat.com/node/4585886/
مقالات ذات صلة
اشكالية الهوية والتضاد الداخلي
اعادة بناء القرية .. وسط المدينة
الاقليات والهوية : كيف تتحول
عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني
الاموات الذين يعيشون في بيوتنا
أن نفهم الآخرين كما هم لا كما نتصورهم
الخيار الحرج بين الهوية والتقدم
الدين والهوية ، خيار التواصل
والافتراق
فيديو : نادر كاظم وتوفيق السيف
حول اشكالات الهوية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق