تعقيبا
على مقال الاسبوع الماضي ، كتب لي احد الزملاء قائلا ان الحزب السياسي ليس مفيدا
في المجتمعات العربية ، لان نظامها الثقافي والعلائقي لايسمح للحزب بدور كالذي
نعرفه في المجتمعات المتقدمة . وبالتالي فان الكلام عن تدريب النخبة والتاثير في
الحياة السياسية عن طريق الحزب هو كلام غير واقعي .
هذا
الراي ليس جديدا فقد لاحظ باحثون غربيون منذ منتصف القرن الماضي ان كثيرا من
احزاب العالم الثالث هي مجرد صور
"حديثة" عن التكوينات الاجتماعية القديمة ، الطائفية او القبلية او الاثنية
. وينطلق هذا الراي من مراقبة واقعية لعمل الاحزاب في المجتمعات التقليدية او تلك
التي تمر في مرحلة الانتقال نحو الحداثة . لكنه لا يقدم صورة كاملة عن واقع تلك
الاحزاب او المجتمعات.
لكي
نفهم الدور الممكن للحزب فاننا بحاجة الى فهم الهوية الاجتماعية التي يمثلها . كل
مجتمع ، في اي بقعة من العالم ، هو تركيب من مجموعة كتل ، تتمايز عن بعضها بهوية
موروثة مثل الدين او العرق ، او هوية مكتسبة مثل المصلحة او الايديولوجيا . تتضح
اهمية هذا التقسيم بالنظر الى مكانة الفرد وقدرته على اختيار نوعية حياته . اذا
قام النظام الاجتماعي على اساس الهويات الموروثة ، فان حدود حركة الفرد والمجالات
المتاحة له ، تتحدد من قبل ان يولد. في لبنان مثلا ، لا يستطيع المسلم ان يسعى الى
رئاسة الجمهورية ولا يستطيع السني ان يسعى الى رئاسة البرلمان او الشيعي الى رئاسة
الوزراء ، بغض النظر عن مؤهلاته او قوته السياسية ، لان النظام ربط هذه المواقع
بهوية موروثة وليس بكفاءة الافراد او جنسيتهم الوطنية .
خلافا
لهذا ، فان قيام العلاقة على اساس الهوية المكتسبة سوف يوفر مظلة لجميع لافراد من
مختلف الكتل الاجتماعية للسعي المشترك نحو مصلحة حاضرة ، لا علاقة لها بانتماءاتهم
الجبرية او بارث الاموات . يمكن اذن تصور التقسيم الاجتماعي على واحد من نسقين :
نسق عمودي يضم الهويات الجبرية او الموروثة ، ونسق افقي يضم الهويات الاختيارية او
المكتسبة . من الواضح – نظريا على الاقل – ان قيام النظام الاجتماعي على الاساس
الثاني هو الفرصة الوحيدة التي تسمح بمنافسة بين الافراد تعتمد اولا واخيرا على
مؤهلاتهم وانجازاتهم الفردية . وحينئذ فان الفرد القادم من قبيلة صغيرة او طائفة
محدودة العدد او من اقلية عرقية ، مثل الفرد الذي ينتمي لاكثرية دينية او عرقية او
قبلية ، سيكون قادرا على التنافس على اي منصب في الدولة او مكان في المجتمع ،
وسيكون جواز مروره الوحيد هو كفاءته الشخصية وليس هويته الموروثة.
من
نافل القول ان افضل المجتمعات واقدرها على التقدم ، هي تلك التي تسمح بالمنافسة
المتساوية على اساس الكفاءة.
ولا شك ان اعتبار الكفاءة معيارا اساسيا لنيل
المناصب هو الطريق لاجتثاث التوترات الاجتماعية ودفع القوى الاجتماعية للخروج من
شرنقة الطائفة او القبيلة . دعنا نتصور ان جمعية سياسية في بلد مثل البحرين اشترطت
ان تتالف قيادتها من طيف متنوع فيه المراة والرجل ، الشيعي والسني ، المتدين
والعلماني ، الحضري والقبلي . حينئذ سوف نجد عند هذه الجمعية خطابا سياسيا مختلفا
، وسوف نجد اولويات عمل مختلفة ، كما سنجد ان عملها لا ينحصر في منطقة دون اخرى او
نطاق اجتماعي دون آخر. رد فعل الشارع على هذا التكوين سيكون مختلفا هو الاخر ، اذ
ان كل فرد على امتداد البلد سيجد فيها فرصة للتعبير عن ارادته او نيل تطلعاته .
صحيح
ان المجتمعات العربية لا زالت منحازة الى هوياتها الموروثة ، لكن هذا ليس وضعا
نهائيا ، بل هو تعبير عن حداثة التجربة السياسية ، وقلة الشعور بالامان . ومن هذه
الزاوية فان الرهان على مستقبل افضل هو رهان جدي وينطوي على احتمالات لا يستهان
بقوتها .
تدل
التجربة الفعلية للعالم العربي ان احزاب الطوائف والقبائل قد ساهمت في تعزيز
الانقسام الاجتماعي ، وساهمت احيانا – ربما عن غفلة – في احياء نقاط توتر كانت قد
ماتت ، في سبيل الحصول على المزيد من التاييد . وفي ظني ان هذه مرحلة لا مفر من
المرور بها قبل نضج التجربة والانتقال من صورة حزب الطائفة او القبيلة الى حزب
الوطن . لكن الامر الجدير بالاهتمام في كل الاحوال هو نقد هذه التجربة والتركيز
على مرحليتها وضرورة تجاوزها في وقت معلوم . لا يمكن للقبيلة او الطائفة ان تتجاوز
حدودها لانها في الاساس قامت للحفاظ على تلك الحدود .
خلافا لذلك فان معظم الاحزاب
العربية – الاسلامية والعلمانية – تنكر ان هدفها هو المحافظة على تلك الحدود ، حتى
لو كانت قد قامت اصلا في داخلها . واظن ان قادة هذه الاحزاب يشعرون بالحرج
لانحصارهم هناك ، حتى لو كانوا مستفيدين منها.
يقدم مثال الهند دليلا على قابلية الحزب لاختراق حدود الطائفة والقبيلة ،
فرئيس الجمهورية الحالي مسلم ، ورئيس الوزراء سيخي ، وينتمي كلاهما الى حزب
المؤتمر الذي يملك الغالبية في البرلمان . يمثل السيخ اثنين في المائة والمسلمون
ستة عشر في المائة من الشعب الهندي ، اي ان المنصبين الرئيسيين في البلاد قد منحا
لرجلين يمثلان اقل من خمس السكان ، وقد وصلا الى هذه المكانة باصوات اكثرية من
النوب الهندوس الذين تتجاوز نسبتهم سبعين بالمائة من السكان ومن اعضاء البرلمان .
مثل هذا الانجاز المثير اصبح ممكنا بفضل وجود حزب يتخذ الهويات المكتسبة معيارا
وحيدا للتقدم . ولو كان المعيار هو الهوية الموروثة ، لكان من المستحيل ان يصل
مسلم او سيخي الى اي منصب في تلك البلاد.
الايام
– منتصف مارس 2006
مقالات ذات صلة:
مقالات ذات صلة:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق