حوار مع د. توفيق السيف
حول كتاب "نظرية السلطة في الفقه الشيعي"
حاوره الاستاذ وسيم
الرجال - 9.03.2006 - 03:31 am
شبكة
أقلام الثقافية
ظل
مفهوم السلطة يراوح مديات الباحثين الرحبة
ويشغل حيزاً تدور على رحاه اشتغالاتهم
المعرفية الدؤوبة للوصول إلى أفضل الصيغ
المرنة التي تتناسب زماناً ومكاناً وتنبثق شرعيتها من النواميس الربانية ، وذلك
لأن مفهوم السلطة لم يعد منحصراً بشكل
الهياكل أو الصيغ التوافقية بقدر ما هو مرتبط
بماهية الأسس التعاقدية والقانونية (أصل الحاكمية) التي تضمن انسيابية
العدالة لما من شأنه بناء روح وجوهر
الحياة ومن أجل ذلك كان هذا الحوار مع الباحث الدكتور توفيق السيف الباحث المتخصص
في الشئون السياسية والمشتغل منذ أمد بعيد بالبحث والتحقيق ، حصل على درجة الدكتوراه من جامعة ويستمنستر
بالمملكة المتحدة وكانت رسالة الدكتوراه تحت عنوان "Religion
and the Legitimation of the State" وهي تدرس من زاوية
سوسيولوجية تطور الفكر السياسي الشيعي في ظل الدولة ورغبة في سبر أغوار أحد كتبه الشيقة التي صدرت
مسبقاً وهو نظرية السلطة في الفقه الشيعي.
هذه مجموعة من التساؤلات انقدحت في الذهن بعد الفراغ من قراءة كتاب ( نظرية
السلطة في الفقه الشيعي) ، نوجهها للمؤلف والباحث الدكتور توفيق السيف .
1- ذكرت في المقدمة أن
الغرض من البحث هو اختبار إمكانية عرض نظرية جديدة لشرعية السلطة في الإسلام ، فما
هو الدافع وراء هذا الاختبار واستنباط نظرية جديدة بالرغم من وجود نظرية نرى
ثمرتها العملية على أرض الواقع في كيان يحكمه منظرو وأصحاب الأطروحة أنفسهم إضافة
إلى وجود نظريات أخرى لم تطبق على أرض الواقع لكنها تطرح كبديل يسد الثغرات في
النظرية المقابلة؟ هل في ذلك إشارة إلى
عدم نجاح نظرية – ولاية الفقيه – والتنبؤ بفشل –
شورى الفقهاء – لو طبقت وأصبحت واقعاً عملياً ؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه تجديداً في الفقه
الشيعي في حقل الأطروحات السياسية ؟
هذه هي طبيعة العلم . لا توجد في العلم نظرية
نهائية كل نظرية هي واحد من الاحتمالات ،
وكل مساهمة علمية هي خطوة صغيرة أو كبيرة على طريق التكامل (الذي لا يصل إلى نهاية
أبدا) فيما يتعلق بنقد نظرية ولاية
الفقيه ، فهناك بالفعل نقاش واسع في مجامع العلم الديني ، ولا سيما في إيران حول
هذا الموضوع ، وهناك أطروحات مختلفة
بعضها ينطلق من نفس الأساس الفلسفي أو الفقهي لولاية الفقيه إلى صيغة أرقى
من الصيغة الحالية للنظرية . وبعضها ينكر جدوى ولاية الفقيه وقابليتها للاشتغال في
الدولة الحديثة . في اعتقادي ان الدين الإسلامي يتسع لأكثر من نظرية وأكثر من
ممارسة سياسية ، وعلينا أن نسعى لاكتشاف الإمكانات التي يتيحها النص الديني والعقل
الجمعي للمسلمين في كل عصر ، وطريقنا في ذلك هو الاجتهاد بمفهومه الواسع . وقد
عرضت في الكتاب المراحل المختلفة التي مر بها التفكير الفقهي في مسألة السلطة حتى
وصوله إلى مرحلة ولاية الفقيه . ومثلما حلت هذه النظرية محل غيرها ، فسوف يأتي
المستقبل بغيرها في محلها . نظام القيادة السياسية وأرضيته الفلسفية ليس من
الثوابت الدينية ، بل هو انعكاس لحاجات المجتمع وتطلعاته ومستواه الثقافي ونوعية
التحديات المتوجهة إليه . ومع تغير هذه فلا بد أن تتغير مفعولاتها .
فيما يتعلق بشورى الفقهاء ، فالذي يظهر لي أنها لا تقدم بديلا عن ولاية
الفقيه في صيغتها المعروفة . الإشكالات المطروحة على ولاية الفقيه لا تتناول عدد
الفقهاء القائمين على السلطة ، بل أدلة هذه الولاية ، وقابليتها لضمان العدالة ،
وعلاقة الدولة بالمجتمع في ظلها.
2 - إذا كان قوام
النظرية التي تطرحها هو سيادة الأمة على الدولة ،
أ) هل يعني ذلك شرعية أي حكومة تقوم على هذا الأساس بشرط أن
تكون في عصر غياب المعصوم – بعد الفراغ من ثبوت ولايته الإلهية – توضيح : لو ابتدعت الدول والسلطات السنية أو
الشيعية المتعاقبة في التاريخ أسلوباً ومنهجاً يعتمد على إشراك الناس في السلطة
وجعل الأمة صاحبة السيادة على الدولة ،
فهل ستصبح هذه الدول شرعية بالمفهوم الديني الإسلامي بمعنى أنها منبثقة من
تكليف الشارع ؟
ب) هل تعتقد أن التجربة
الإيرانية المعاصرة قائمة على أساس سيادة الأمة على الدولة باعتبار أن الشعب ينتخب
مجلس الخبراء و أعضاء المجلس ينتخبون القائد (ولي الفقيه) وبالتالي يكون الشعب هو
المنتخب الحقيقي ؟
أشير أولا إلى أن كل ما نقوله لا يدخل في باب الفتوى أو المتبنى الديني ،
بل هو محصور في إطار البحث العلمي ، ولا يخفى على اللبيب ما يميز بين الاثنين.
بالنسبة للفقرة أ) : هناك نوعان من النقاش في شرعية السلطة : نقاش يدور حول
مضمونها وعنوانه (ما هي السلطة الشرعية) ونقاش يدور حول شكلها وعنوانه (كيف تتحقق
السلطة الشرعية) . القائلون بولاية الفقيه (سواء الفردية أو الجماعية) يرون أن رئاسة
الفقيه للدولة هو مصدر مشروعيتها وهذا
الرأي مبني على فرضية أن الشارع قد وضع شكلا خاصا لنظام الحكم هو الشكل المعبر عنه
برئاسة الفقيه العامة والقائلون بسيادة
الشعب يرون أن الانتخاب العام والنظامي للقيادة السياسية هو مصدر المشروعية ، وهذا
القول مبني على أن مجال عمل الدولة هو نفوس الناس وحقوقهم وأملاكهم – بما فيها
الأملاك العامة – وقد اثبت الشرع حقا للمالك
في اختيار من ينوب عنه في إدارة مصالحه (انظر بهذا الصدد رسالة العلامة
النائيني في كتابي "ضد الاستبداد"). وكلا الرأيين كما تلاحظ يعالج
الجانب الشكلي من المسألة . أما النقاش في المضمون أي (ما هي السلطة الشرعية) فهو
نقاش فلسفي . وابسط الأجوبة عليه هو أن السلطة الشرعية هي السلطة العادلة بكلمة أخرى فان القيام بالعدل وتحقيقه هو شرط
المشروعية . إذا أخذنا بهذا الجانب من النقاش فانه يمكن القول أن السلطة العادلة مشروعة
حتى لو لم يكن على رأسها فقيه ، والسلطة الظالمة غير مشروعة حتى لو كان على رأسها
فقيه . لكن كما أشرت سلفا فان هذه مسألة فلسفية وجميع الناس أو أكثرهم يريدون
تحديد "طريقة" لضمان العدل ، وبالتالي فان الاهتمام الأكبر في البحوث
العلمية منصب على "شكل" الحكومة العادلة وكيفية عملها من هذه الزاوية فان الفقهاء يأخذون برأي
الفيلسوف اليوناني سقراط الذي يرى ان العالم (الفيلسوف حسب تعريفه) هو اقرب الناس
إلى العدالة (لان سقراط وتلاميذه يربطون العدل بمعرفة الحقيقة) ، وهو الرأي الرائج
في التراث الإسلامي .
أما إشارتك إلى "تكليف
الشارع" فمن الصعب إثبات أن الشارع قد كلفنا بأي شكل من أشكال الأنظمة
السياسية . بل ان النظرية السائدة أي ولاية الفقيه قد عورضت من جانب الأكثرية
الكاثرة من فقهاء الشيعة حتى لقد ادعى الشيخ الأنصاري أن إثباتها على النحو
المعروف "دونه خرط القتاد". نحن
إذن لا نتحدث عن شكل معين باعتباره تكليفا من الشارع ، بل باعتباره اقرب إلى تحقيق
المشروعية المرادة ، أي كونه داخل الإطار الديني العام .
حول الفقرة ب) : انتخاب الفقيه من قبل
مجلس الخبراء هو إعادة إنتاج لمفهوم (أهل الحل والعقد) الرائج في الفقه السني .
أما انتخاب الخبراء من جانب الشعب ، مثل انتخاب مجلس الشورى ورئيس الجمهورية
والمجالس البلدية ، فهو نقل للمفهوم الغربي للديمقراطية . وهذه كلها تتناقض فلسفيا
ومفهوميا مع نظرية ولاية الفقيه . تقوم ولاية الفقيه على فرضية أن شرعية السلطة
مستمدة من نيابة الفقيه عن الإمام المعصوم ، والمعصوم يستمد شرعية حكمه (وحكم
نوابه طبعا ) من السماء . أما الانتخابات فتعني أن الشرعية والسلطة موجودة في
الأرض ، عند الناس ، وهي مستمدة منهم وليس من خالقهم . وقد عرضت الآراء المختلفة
بهذا الصدد في كتاب جديد أرجو أن ينشر قريبا . قام الإمام الخميني رحمه الله
بالجمع بين عناصر النظرية الشيعية التقليدية وعناصر من النموذج الديمقراطي الغربي
بعدما رأى ان هذا التركيب هو الوحيد الممكن في دولة حديثة . وبناء عليه فان النظام
الإيراني يقوم على تركيب من عناصر ديمقراطية تعالج بالقياس إلى أصلها المعرفي الغربي
، وعناصر دينية تعالج بالقياس إلى أصلها الديني . بالنسبة لبعض الباحثين فان هذا
النظام هو نموذج معقول لديمقراطية دينية (ضمن الظروف الموضوعية الراهنة للمجتمع
الإيراني) . وبالنسبة لآخرين فانه نموذج ناقص . كما أن بعض دعاة ولاية الفقيه
(ومنهم بعض الحاكمين و النافذين حاليا) يرون أن الإمام الخميني قد ذهب بعيدا في
التاكيد على دور الشعب ، وكان عليه أن لا يفعل ، لان الدور المحوري للشعب يتعارض
مع نظرية الإمامة وحسب تصريحات آية الله
مصباح يزدي ، وهو من ابرز دعاة التيار التقليدي المحافظ حاليا ، فان الشعب لا دور
له في الحكم الديني سوى مناصرة الفقيه ، وليس له حق انتخابه ، وهو يرى أن
الجمهورية بالمعنى المعروف ، أي كونها إطارا لسيادة الشعب ، ليست من الدين في شيء.
خلاصة القول أن شكل النظام هو احد
الصور الممكنة للحكم المشروع ، لكن تحقق الشرعية بالفعل مرهون بسعي النظام السياسي
إلى تحقيق أغراض الحكم الديني وأبرزها العدالة والمساواة وحرية الإنسان.
3 - هل وقعت قدم على
موطئ قدم مصادفةً أم تمت الاستفادة من نكتة المفارقة بين لفظتي (دولة) و(state) من
كتاب ( الفقيه والدولة) للمؤلف فؤاد إبراهيم ثم تم الرجوع إلى المصادر الأولية دون
الإشارة إلى الكتاب؟ فإن هناك شبهاً
كبيراً بين ما كتبته عن فكرة الدولة في الإسلام ص 32 وبين ما كتبه فؤاد إبراهيم ص
32 ، والطريف أن التشابه شمل رقم الصفحة أيضاً.
استفدت كثيرا من آراء أخي د. فؤاد ، وهو واحد من أهم المفكرين الشيعة
المعاصرين ، وكتاباته من أفضل ما ظهر في بابها
أما عن مصطلح الدولة بالشرح الذي عرضته فهو شائع في جميع كتب الفلسفة
السياسية وهو من المفاهيم التي تصنف ضمن المسلمات التي لا تحتاج إلى نسبة .
4- هل يمكن القول إن التطور التاريخي لنظرية السلطة في الفقه
الشيعي وانبثاقها في كل زمان من المعطيات الواقعية ومجريات الأحداث القائمة ينزع
الصفة الإلهية عن جميع الأطروحات بمعنى أنها لا تعدو كونها نتاجاً بشرياً جرى
تكييفه مع الدين ولا يتميز عن غيره بأنه قائم على أساس الوجوب والتكليف الإلهي ؟
هناك ثلاثة آراء بهذا الصدد : الرأي الأول يقول
أن السلطة شأن ديني باعتبارها مصلحة عامة ضرورية ، لكن المهم فيها هو قيامها على
نحو يحقق الغرض منها ، وليس شكلها ، أما الشكل والكيفية والأولويات فهي أمور عرفية
ترجع للمسلمين في كل زمن ومكان . ولو كان شكل السلطة ونظامها من التكليفات الإلهية
لكانت من نوع التكليف بما لا يطاق وهذا خلاف الأصل الثابت بالتيسير . بل إن عددا
من الفقهاء المعاصرين ومن بينهم آية الله منتظري يرى انه حتى الرسول والأئمة المعصومين ، ولايتهم السياسية
مشروطة بقبول الناس لهم كحكام . بخلاف ولايتهم الدينية الثابتة لهم بالنص . وهو
يبني هذا الرأي على فرضية أن حاكمية الله مودعة في الأمة والأمة تفوضها إلى من
تشاء ، وبناء عليه فهو يرى أن للأمة الحق في فرض ما تشاء من الشروط على الحاكم لجهة تعيين مدة الحكم آو كيفيته أو
نظام عمله الخ . أما آية الله صانعي فلا يجيز حتى إمامة الصلاة للفقيه إذا كان
الناس غير راضين به ، فضلا عن رئاسته للدولة . وهذه الآراء قائمة على أرضية أن
السلطة حق للناس وإنهم يقررون الشكل المناسب لحياتهم في كل عصر . والشرط الوحيد هو أن يكون ذلك في إطار
المفاهيم العامة للشرع (وليس بالضرورة فتاوى فقيه معين في زمن معين ) .
الرأي الثاني يرى أن لدينا نموذج ثابت
للحكم الديني هو إمامة المعصوم ، وهذا النموذج منصوص عليه فلا يمكن تغييره ، وهو
لا يرجع للناس بل للشارع المقدس ، وهو مصلحة دينية وليس مصلحة عرفية . وفي غياب
المعصوم فان نائبه هو القائم مقامه وله جميع سلطات المعصوم وصلاحياته . وهذا هو
الأساس في نظرية ولاية الفقيه .
هناك رأي ثالث يرى أن السلطة ليست
شأنا دينيا ، بل هي من الأمور العرفية المتروكة للناس . والمرجع العلمي للبحث في
مسألة السلطة ليس الفقه بل الفلسفة السياسية . فيما يتعلق بدور الدين في النظام
السياسي ، فان هذا الرأي يوجب على الدولة الالتزام بالقيم العامة للدين ، والتي لا
يختلف عليها العقلاء في كل العصور والأديان مثل قيمة العدالة والمساواة وقيمة
النظام وعمومية القانون . بكلمة أخرى فهو ينظر إلى جوهر فكرة الدولة باعتبارها
شأنا عقلائيا اقره الدين ، أما كيفية الإدارة وممارسة الحكم فهو يرجع إلى توافق
المجتمع أو ما يسمى بالإرادة العامة أما
اتصاف الحكم بالإسلامي أو غيره فهو يرجع إلى قبول المجتمع له على هذا النحو ، أي
انه نسبة إلى المجتمع وليس إلى النظرية .
وخلاصة القول أننا نفهم من التطور
التاريخي للفكر الديني – بما فيه فكرة السلطة والنظريات المتعلقة بها – ان كل زمن
يأتي بتحديات وأسئلة جديدة تتطلب إضافة أو تعديلا في فكرة السلطة ومفاهيم العمل
السياسي . ومع مرور الزمن فان تراكم التطور يعطينا نظريات جديدة بالكامل مختلفة عن
تلك التي كانت سائدة في قرون سالفة . وهذا أمر طبيعي يظهر في كل جوانب الحياة
الأمر الذي يحملنا على الظن بان الثابت في هذا الموضوع هو القيم الدينية الأساسية
(وأعظمها النظام العام والعدالة) أما كيفية تطبيقها فتختلف عبر الأزمان والأمكنة
والظروف . والله اعلم
5- ما هو السبب – برأيك
– وراء حصر ولاية الفقيه بالمجتهد الموصوف
بالقدرة على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية أو غير ذلك من تعريفات
الاجتهاد السائدة في الحوزات العلمية رغم أن الأدلة النقلية لا تسعف على فرض هذه
القيود العرفية الحديثة نسبياً على مفهوم الفقاهة والاجتهاد، فالروايات لا تتضمن
ما يتجاوز شرط رواية الحديث ومعرفة الأحكام و النظر في الحلال والحرام أما ماهية
النظر ومقدار الرواية والمعرفة فهو أمر لا تبينه الأدلة النقلية ، وقد جاءت لفظة
الفقهاء ( من كان من الفقهاء صائناً لنفسه) في رواية عن الإمام العسكري (ع) فلماذا
قُُيدت رواية الحديث ومعرفة الأحكام والفقاهة بمفاهيم الحوزة الحديثة التي هي نتاج
تطور تاريخي لتعريف الفقيه وتشخيص مواصفاته وهو أمر خارج عن دلالة الرواية ؟
ولاية الفقيه هي امتداد طبيعي للمرجعية الدينية وهي قائمة على نفس
أدلتها ويطلق الفقه على المرجع الديني اسم
الحاكم الشرعي . العنصر الإضافي الذي جاءت به نظرية ولاية الفقيه هو تمديد وظيفة
المرجع إلى الجانب السياسي أما التطور
الذي حصل في نفس تلك الأدلة ، أي اشتراط الاستنباط للفقاهة فهذا يرجع إلى تطور
مفهوم الفقيه . في زمن الرواية كان الفقه في الدين يساوي الرواية عن المعصومين . أما بعد دخول منهج الاجتهاد
والاستنباط في المدرسة الفقهية الشيعية فقد أصبح مساويا للاستدلال بالروايات
والأدلة العقلية على الحكم ، ولعل أول من مارس الاجتهاد في هذا المعنى هو الحسن بن
أبي عقيل العماني ومحمد بن الجنيد الاسكافي ، اللذين عاشا في النصف الثاني من
القرن العاشر الميلادي (يرجح أن ابن الجنيد توفي في 381 هج (991 م) بينما توفي الإمام العسكري قبل ذلك بمائة عام
(260 هج - 874م) . بهذه المناسبة أود الإشارة إلى ضرورة النظر إلى النصوص والشروح
في إطارها الزمني والموضوعي ، وأعظم مشكلات الفكر الديني اليوم هو اجتزاء النصوص من سياقاتها الظرفية .
على أن سؤالك يقودنا إلى سؤال آخر :
هل يكفي العلم بالفقه سواء في مفهومه الجديد أو القديم لإدارة الدولة ، أي القيام
بوظيفة الحاكم ، لا سيما في ظل تغير مفهوم الدولة وصورتها وطبيعتها تغيرا كاملا في
العصر الحديث ، ودخول العشرات من العلوم الجديدة البعيدة عن مجال الفقه ، دخولها
كعامل أساسي في الإدارة السياسية ؟ .
6- ص 265 من الإشكالات
التي أوردتها على القول بان ضرورة السلطة راجع إلى طبيعة الأصل البشري الذي يدفع
إلى التظالم والفساد ، أن ذلك متناقض مع كون السلطة نتاجاً لاتفاق عقلاء البشر،
ولا يعقل أن من طبيعته الظلم يقرر تأسيس رادع يمنعه عما هو متطبع به، ولنا أن
نسأل: من قال أن مَن طبيعته البغي والظلم هو ذاته قرر تأسيس رادع عن الظلم والجور
مع إقراره بممارسته للظلم؟ فعند النظر إلى البغاة والظلمة نجد أنهم يقرون بضرورة
وجود الرادع والحاكم بناء على أنهم عدول ولا يمارسون الظلم. ألا تعتقد أن
الاستدلال ينظر إلى النوع والجنس البشري وليس إلى مصاديق معينة أو طائفة بعينها ؟
هذا الاحتجاج هو رد على دليل ساقه بعض العلماء السابقين ، وفحواه أن النظام
والدولة هي ضرورة اتفق عليها جميع العقلاء . الذين قالوا بهذا الرأي ، قالوا أيضا
بان ضرورتها تنبع من أن اجتماع الناس بذاته مولد للتعارض وبالتالي الجور والظلم .
واحتجاجهم هنا يرمي إلى تثبيت وجوب الإمامة بالأدلة العقلية . أي القول بان التدخل
الإلهي ضروري لان التظالم طبيعة في الاجتماع البشري ، وان القول بالتظالم وبالتالي
الحاجة إلى التدخل الإلهي هو من البديهيات العقلية . جدير بالذكر أن القسم الأول
من الاستدلال ، أي تظالم الناس وقبولهم العقلي بضرورة الدولة ، يرجع أصلا الى
الفلسفة اليونانية وقد قال به سقراط وأفلاطون . واعتمده بعد ذلك فلاسفة المسلمين
وفقهاؤهم ، كما اعتمده الفيلسوف الانكليزي توماس هوبز في كتابه المشهور "لفياثان". بطبيعة الحال فان المقصود بالعقلاء والمتظالمين هو جنس البشر وليس فريقا
معينا منهم . وكان غرضي من ذلك الاحتجاج هو نفي الفكرة القائلة بان طبيعة البشر هي
التظالم والجور ، فانا أميل إلى الاعتقاد بان طبيعة البشر هي الخيرية والعقلانية ،
وبناء عليه فإنهم قادرون على التوصل إلى الطريقة المناسبة لإدارة اجتماعهم ولا
يحتاج الأمر إلى تدخل من الباري جل وعلا . أو على الأقل فان التدخل الإلهي ليس
سببه عجز البشر بل ربما لأسباب أخرى.
7- ذكرت أن التأسيس على
ضرورة السلطة بسبب طبيعة البشر الفاسدة يؤدي إلى نفي الإمامة في غير موارد الفساد
و التظالم ... وبالتالي سقوط الولاية عن الفئة القادرة على العيش دون تظالم لماذا خلطت بين الاستدلال على ضرورة الرئاسة
الدنيوية و الإمامة الدينية ؟ فدليل
الأولى يطلب من العقل أما الثانية فيطلب من النقل. و قد ذكرت أن السيد الكلبايكاني يبرر ضرورة
الرئاسة.
قولي المشار إليه هو رد على القائلين بان الإمامة الدينية والرئاسة
الدنيوية هي شيء واحد وان الثانية تستفاد من أدلة الأولى . لعلك لاحظت أن جانبا
مهما من الباب الثالث من الكتاب قد كرس للاستدلال على تمايز الاثنين . فيما يتعلق
بسقوط الولاية عن المحسنين ، فهو احتجاج لا يهمل ، واستدل البعض عليه بالآية
المباركة "ما على المحسنين من سبيل"
ولا استبعد احتمال أن يشمل هذا الدليل كلا النوعين في حال عدم الحاجة إلى
السلطة وعدم الحاجة إلى العلم . طبيعي أن هذا الاحتمال ضئيل لكنه غير مستحيل
ومثاله شخص يعيش منعزلا في جزيرة ولديه علم خاص بما هو حق له وما هو واجب عليه وهو
يقوم بأموره بنفسه .. فهل يحتاج هذا إلى ولي ، سواء كان إماما أو حاكما ؟ (انظر
مثلا الدليل على عدم وجوب التقليد على المحتاط) . خلاصة القول أن الإمامة والرئاسة
كلاهما تكليف إضافي ، فهو يحتاج إلى دليل ، وقد جرت عادة الفقهاء على الربط بين
أدلة الاثنين ، أما رأيي فإنهما ينتميان إلى مجالين مفهوميين وموضوعيين مختلفين
فيجب أن يكون لكل منهما دليله الخاص . والله
اعلم.
8- مع ملاحظة عدم إقرارك بأصل فساد الإنسان وطبيعة الظلم فيه
التي يأتي الحديث عنها – يرد على ما ذكرت
أن هذه الفئة القادرة على العيش دون تظالم ، لا تبطل الأصل والطبيعة الكامنة في
البشر التي قد تظهر وقد تستر وسقوط الولاية – على الفرض – عن هؤلاء بالخصوص يخرجنا
من البحث حول الضرورة العقلية لأصل السلطة ويدخلنا في الحديث عن موضوع شرعي ديني
افتراضي هو الإمامة الدينية على الفئات غير المتظالمة. ونحن نعلم أن الإمامة الدينية لا تثبت بالدليل
العقلي منفرداً فلا علاقة للتظالم وعدمه إلى في موضوع الإمامة. ثم إن البناء على صلاح الإنسان يسقط ضرورة الرئاسة
من رأس.
رأيي أن وجود الاستثناء لا يثبت القاعدة كما هو المشهور بل يبطل اضطرادها ،
وحينئذ فاننا نتكلم عن تطبيق نسبي للقاعدة المدعاة . أرى أيضا أن الأدلة النقلية
هي العمدة في ثبوت الإمامة الدينية . أما موضوع التظالم فيرتبط – على فرض ثبوته -
بالرئاسة الدنيوية . وقد توصلت في ذلك البحث إلى عدم علاقته بالإمامة ولا أدلتها .
أما البناء على صلاح الإنسان فلا يسقط ضرورة الرئاسة . الذين قالوا بان ضرورة
الرئاسة ترجع إلى فساد الجنس توصلوا إلى أن الدور الأبرز للحاكم هو حفظ النظام
العام ، وأجازوا للحاكم أن يستبد بالأمر ويقهر الناس على الصلاح . وهو الرأي الذي
مال إليه معظم فقهاء المسلمين القدامى. أما رأيي فان الدولة هي هيئة اجتماعية
ينتخبها الشعب لتمثيل مصالحه وإدارة التعارض فيما بينها على نحو يقودها إلى
التكامل بدل التناحر . الذين قالوا بالطبيعة الخيرة للجنس البشري يرون أن الناس لو
تركوا وشانهم لكانوا اقرب إلى الصلاح ولهذا فلا يجوز قمعهم أو فرض حكم استبدادي
عليهم . والفارق بين ما ينتج عن الرأيين لا يخفى على عاقل.
9- ص265 ذكرت أن معرفة
الدين والاهتداء بالتعاليم قابل أن يحصل عليه الإنسان بالطرق المختلفة الموصلة إلى
العلم. ما هي هذه الطرق التي توصل إلى
تعاليم الدين والعبادات الإلهية؟ ألا يرى
المسلمون أن إرسال الأنبياء ضرورة رغم كفاية الحجة الباطنة للوصول إلى معرفة
الخالق ؟
هذا رد على الربط بين أدلة الإمامة الدينية والرئاسة السياسية . فالإمام
حسب هذا الرأي ضروري لهداية الناس إلى الطرق القويم لأنه وسيلة إلى معرفة أمور
الدين وفي رأيي إن هذا دليل ضعيف لأنه
ببساطة يجعل ولايتهم مقصورة على من يحتاج إلى المعرفة دون غيره . فمثلا لو أن أحدا
تعلم من الإمام أو قرأ كتابه ، ثم نقل هذا العلم إلى آخرين فان هؤلاء الآخرين لا
يحتاجون إلى ولاية الإمام لان المعرفة المبتغاة منها قد حصلت . لو طبقنا هذا القول
على زماننا الحاضر فان جميع روايات الأئمة موجودة في الكتب ويمكن لكل الناس الوصول
إليها .. فهل يعني هذا إن لا حاجة إلى ولايتهم . إذا قلنا بان الولاية ضرورية من
اجل المعرفة ، فان المعرفة تتوفر بطرق أخرى كما هو الحاصل اليوم . وهذا الاحتجاج
واضح في امتداد الولاية إلى العصور اللاحقة لوفاتهم . وخلاصة القول أن توفير
المعرفة ليس دليلا قويا على الولاية . وإذا دل عليها فان الدلالة محدودة في زمن
حضورهم ومكانه وليس وراء ذلك . أما الإشارة إلى بعثة الأنبياء فهذا بعيد عن
الموضوع لان البعثة غير الإمامة وأدلة البعثة غير أدلة الإمامة والربط بينهما غير
صحيح البتة.
10- هل الاستدلال على ضرورة السلطة يسقط بشبهة عدم
اضطراد أصل الفساد في بني البشر و وجود الاستثناء في القاعدة؟ إذا كان كذلك فإن الحكم بأن الإنسان عاقل و
ناطق يبطل لوجود فئة من المجانين والبكم وذلك لشبهة عدم الاضطراد.
نقاشنا ليس في أن القاعدة في جنس البشر هي الفساد وان الصلاح استثناء ، بل
عكس ذلك تماما . وقد أشرت إلى أن أصل الاستدلال بفساد الاجتماع البشري ، هو
استدلال باطل لعدم ثبوته من الأصل ولكونه خلاف المفهوم من القران الكريم وخلاف
تجربة البشر على امتداد أزمانهم واختلاف أصنافهم . أما قياس القاعدة المدعاة على
قواعد أخرى فهو نقاش خارج الموضوع ، فحتى لو صحت الثانية فما هو الدليل على صحة
الأولى ؟.
11- قلت ( ليس بالوسع إثبات أن الإنسان طاغية
بالفطرة ) فهل بالوسع إثبات أن الإنسان
ليس طاغية بالفطرة أو إثبات أنه صالح بالفطرة؟ ماذا تقول في الآيات التي تشير إلى وجود
النزعتين وتأصلهما في الإنسان{فألهمها فجورها وتقواها} الشمس 8 ، { وهديناه النجدين} البلد 10 ، والآيات{إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}
(34) سورة إبراهيم ، { وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}
(72) سورة الأحزاب ؟
قال تعالى (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل
لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم/30 . والمعنى هو
التوحيد أو الارتباط الروحي بين الإنسان وخالقه ، تلك هي الفطرة . فهل يكون الموحد
الفطري طاغيا أو فاجرا . وهذه الآية لا تحتاج إلى مزيد بيان . لكن للرد فقط نقول
أن الله سبحانه خلق الإنسان ومكنه من أتباع أي سبيل يشاء وحمله المسؤولية عن
اختياره . فأتباع الطريق القويم هو احتمال أقوى لأنه اقرب إلى مراد الخالق وأتباع
الطريق الفاسد هو احتمال ثان ممكن لان الله أراد للإنسان أن يكون حرا مختارا . ثم
أن القول بان الإنسان طاغية بالفطرة معارض لأصل العدل الإلهي ، فإذا كانت فطرة
الإنسان الأصلية هي الفساد ، فان دخول الجنة حق للفاسدين الذين لم يعلموا بالنبوة
أو لم يصلهم خبر النبي ، لأنهم اتبعوا فطرتهم التي فطرهم الله عليها . ويجب أن
نمتدحهم على فسادهم وبغيهم لأنهم اتبعوا الطريق الذي اختاره الله لهم .. فهل يصح
هذا الكلام ؟ . ونضيف إلى ذلك دلالة الآية المباركة "لقد خلقنا الإنسان في
أحسن تقويم" فهل من حسن التقويم ، فساد طبيعته وفطرته الأصلية ؟.
12- ذكرت ص267 أنه لم
ترد آية واحدة تشير إلى أن البغي طبيعة في الإنسان، سابقة على وصول البلاغ
إليه. ما الفرق بين وصول البلاغ
وعدمه؟ ما الأثر الذي يترتب على هذا
التفريق؟ هل وصول البلاغ سيتسبب في طغيان
المبلَّغ رغم سلامة فطرته وأصله؟
أوردت هذا التمييز في الرد على من قال بان الإنسان طبيعته الفساد والبغي ،
لان القران يقول "وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم"
وهذا دليل على أن البغي طبع عارض في الناس وليس فطريا أصيلا . أما تأثير وصول
البلاغ – أو العلم – كعامل إثارة للاختلاف وبالتالي التنازع ، فهو موضوع طويل يستوجب
نقاشا سوسيولوجيا لا يتسع له المجال هنا . لكني أقول كخلاصة أن القرآن يشير إلى
تجربة أو عبرة مستفادة من تجارب محددة . في هذه التجارب كان الناس على نسق واحد
اجتماعي وثقافي ، فلما ظهر النبي انحاز إليه أقلية من الناس وعارضه الأكثرية وعلى
رأسهم أصحاب الهيمنة والسلطان ومن لهم مصلحة جارية في النظام الاجتماعي القائم .
وكافح الأنبياء كفاحا مريرا ضد هذا النظام ونجح بعضهم في الإطاحة به كما هو الحال
في تجربة نبينا عليه الصلاة والسلام . الذين عارضوا الأنبياء لم يكونوا منصفين مع
أنفسهم ولا مع قومهم ولا مع النبي بل عارضوه بغيا وعدوانا ، ولم يروا فيه إلا
تهديدا لمصالحهم ، ولم ينظروا في المصالح الأعظم التي ستعود عليها في الدنيا
والآخرة لو اتبعوا نبيهم . والخلاصة أن البلاغ النبوي يوجد هزة في النظام
الاجتماعي القائم يؤدي إلى التطورات المشار إليها . والله اعلم.
13- مما يستدل به
الشيعة الأمامية على إمامة علي بن أبي طالب (ع) أن النبي (ص) لم يبين أحكام السلطة
والحكم من بعده ، ولم يتطرق إلى سبل تنظيم الرئاسة وطرق اختيار وتنصيب وعزل الحكام
والولاة رغم بيانه لكل صغيرة وكبيرة مما يخص شؤون الناس الحيوية وما ذلك إلا لأن
تنصيب الإمام باعتقاد الشيعة ليس من صلاحيات البشر ، إذاًً كيف استطاع فقهاء
الشيعة استلال نظريات وأطروحات سياسية تشرع عمل الحكومات وتدخل موضوع السلطة
والحكم في الأحكام الفقهية باعتبار أن الإسلام دين شامل ولا يمكن أن يترك ثغرة أو
منطقة فراغ في التشريع ؟ .
هذه مجموعة أسئلة مختلفة . لكن فيما يتعلق بالأول فاني أرجح أن الإسلام دين
كامل وليس بالضرورة شاملا ، والكمال يشير إلى النوعية بينما الشمول يشير إلى
الكمية . وقد ورد في القرآن الكريم "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء -
النحل ـ 89" وآيات أخرى شبيهة في المعنى أو الدلالة . وقد استدل بها بعض
العلماء على أن القرآن جمع كل علم وكل بيان
ويرد على هذا الرأي أن احتواء القرآن على كل شيء لا يدل ضرورة على أن هذه
الأشياء كلها من باب التعيين أو التكليف أو الوجوب ، فالكثير من آيات القران فيها
فائدة الإرشاد والاعتبار وتثبيت القلوب . ولهذا فان مجرد ورودها عن الخالق سبحانه
لا يدل على أنها مورد تكليف وتعيين . يضاف إليه ما أشار إليه النراقي من أن
المقصود من تبيان كل شيء هو تبيان كل شيء مما يجب بيانه ، وليس الكل المطلق .
فبديهي إن هناك أشياء كثيرة مما نعرفها في هذا العصر لم ترد في القران . وذلك لان
القران ليست مهمته جمع علوم البشر بل دلالتهم على الطريق القويم بشكل عام ، أما
تفصيل ذلك الطريق فمتروك لعقولهم . ولو أحصى القران كل تلك الأمور لكان تكلفا في
غير ضرورة . أما القول بان الإسلام لم يترك منطقة فراغ فهذا غير صحيح البتة ، بل
إن منطقة الفراغ - حسب تعبير المرحوم الصدر – أو منطقة البراءة حسب تعبير بقية
الأصوليين هي المساحة الأكبر وهي الأصل في كل الأفعال . وإنما يأتي التكليف
بالوجوب أو الحرمة في بعض الأفعال كعرض لاحق ، أما الأصل في كل شيء فهو البراءة من
الحكم أي الإباحة . أما الآراء الفقهية المتعلقة بالتعامل مع الحكومات ، تحريما أو
إجازة ، فهي كلها مستمدة من أدلة عقلية وتابعة لتقدير المصالح والمفاسد العرفية في
زمنها الخاص . صحيح أنهم يوردون أدلة من الكتاب والسنة ، لكنها في الغالب بغرض
الاستئناس وبيان الإمكانية ، وإلا فالعمدة هو تقدير المصالح والمفاسد .
14- ص290 إذا كان العدل هو الغرض الأساس من المعالجة
الدينية لمسألة السلطة ... والتأسيس عليه هو التجسيد لإسلامية الحكومة ....
والحكومة تعتبر مشروعة طالما كانت قائمة على أساس العدل، فما هو تقييمك وما هو الحكم لدولة تحقق فيها
هذا الغرض على يد حاكم أو حكومة غير مسلمة، أو حاكم أو حكومة فاسدة في نفسها ولا
تلتزم بالتعاليم الدينية على الصعيد الشخصي ؟
العدل شرط لشرعية أي سلطة سواء كانت سياسية أو غيرها أما بالنسبة للحكومة فإنها تحتاج إلى شرط إضافي
وهو تمثيلها لشعبها على نحو صحيح ونظامي فإذا كان شعبها مسلما ويريد الحكم
بالإسلام فعليها أن تفعل ذلك . أما بالنسبة للمجتمعات غير المسلمة فلا موضوع لهذا
الشرط . والله اعلم .
15- إذا كان العدل هو مصدر الشرعية فمن هو المعني
بإيجاده على أرض الواقع ؟ على أي فئة من
الناس تقع مسؤولية تحقيق هذا الغرض ؟
- هي على الأرجح مسؤولية أخلاقية
مدنية وليست تكليفا إلهيا . والمسئول عنها هو صاحب المصلحة فيها اي عموم الناس .
16- لو قامت دولة على أساس الجور ثم جنحت للعدل ثم عدلت عنه إلى
الظلم فهل ستكون فاقدة للشرعية أولاً ثم تصبح شرعية ثم تنزع منها الشرعية حسب
التزامها بإقامة العدل؟ هل يصلح هذا
التأسيس لغير الدراسات الذهنية المجردة ؟
على القول بان شرعية الحكومة ترتبط بعملها الفعلي فان بقاء شرعيتها مرهون
ببقاء عدلها على أن المسائل نسبية لان القيام بالعدل ومفهومه التطبيقي أمر نسبي
ولذلك فقد يكون كاملا أو ناقصا أو متدرجا ، والذي أرى أن رضا الناس عن حكومتهم هو
جزء من مفهوم المشروعية ، وهو يعوض نقص
العدالة في بعض الأوقات ، بل قد يمكن القول أن التطبيق العملي لمفهوم العدالة راجع
إلى العرف العام ( أو ما يسمى اليوم بالرأي العام) وبالتالي فانه يمكن النظر إلى
المكونات الجوهرية للعدل الاجتماعي بشكل متزامن ومترابط مع رضا الناس عن حكومتهم
وتمثيلها لمصالحهم باعتبارها جميعا أجزاء من منظومة الشرعية . وأريد الإشارة أخيرا
إلى ضرورة التمييز بين المفهوم الفقهي والمفهوم الفلسفي للشرعية السياسية ، فهما
لا يتطابقان بالضرورة . حين ندرس المسألة من زاوية فقهية فالمفهوم الذي نستعمله هو
الفقهي أما حين نتحدث عن الجانب العملي فإننا نستعمل المفهوم المستفاد من الفلسلفة
السياسية .
مقالات ذات علاقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق