قريبا من هذا الوقت من العام المنصرم
سئل الشيخ محفوظ النحناح ، السياسي الجزائري المعروف ، عن طريق الخروج من الدائرة
الدموية التي سيطرت على الجزائر ـ وكانت الازمة بين الاسلاميين والجيش في ذروتها ـ
فأجاب باختصار (كفوا ايديكم واقيموا الصلاة) .
فحين يتحول الجدل السياسي او الفكري الى حرب
اهلية تسيل فيها الدماء انهارا ، فالحل الوحيد هو ان يتوقف الجميع عن اراقة الدماء ، او البعض ان لم يقبل البقية
، وان ادى الى فنائه ، ولم يكن الامر موصلا الى هذه النتيجة على وجه التاكيد ،
فخروج المصارع من الميدان مغلوبا ، لكنه غير متورط في دماء المسلمين ، خير له وانجى
من ان يسير الى النصر عبر بحر من الدم ، لايدري اي بعض منه اريق عدلا واي بعض اريق
ظلما .
لربما كان الشيخ ـ مثل اكثر المؤمنين
الاخرين ـ تواقا الى رؤية الشريعة الاسلامية حاكمة في بلاده ، مسيرة لامورها ، على
يده كان تحقيق هذا التحول التاريخي ، او على يد آخرين من دعاة الاسلام ، لكن هذا
الهدف الغالي لاينبغي ان يتحقق عبر نفق من الويلات والمصائب .
ان بلوغ الهدف ولاسيما في مرحلة الكمال المأمول
، يبقى حتى يوم تحققه الفعلي ضمن دائرة المحتملات ، أما الدماء الغزيرة التي
يسيلها الصراع من يوم شروعه وحتى يوم حسمه ، فهي نتائج متحققة وفعلية ، انها ايضا
دماء المسلمين المشاركين في الصراع ، بلا
فرق بين اولئك الذين شاركوا عن وعي بموضوعه ومؤدياته ، وبين الذين جرجروا اليه
قسرا او اضطرارا .
ثمن الهدف
يعتقد بعض الناس ان الاهداف الغالية
تستحق انهارا من الدماء تسال لانجازها ، وربما تعاطف اهل الحماسة مع هذا التصوير ،
سيما اذا ارتسمت في اذهانهم صور التناقض الشديد ـ الحقيقي او المصطنع ـ بين ماهو
واقع في حياتهم ، وما يتصورونه من كمال مطلق في ظل دولة الفكرة المأمولة .
لكن المشكلة ليست في هذا الثمن الغالي
، فلعل هناك الكثير ممن لايمانع في ان يدفع ويضحي ، المشكلة فيما يلي الدخول في
حلقة الدم ، حيث الخروج منها ليس بسهولة الدخول فيها ، وحيث تتمدد آثار الصراع على
شكل تعقيد في النسيج الاجتماعي ، من مظاهره سيادة الخوف والشك وانعدام الثقة
والامان ، وتراجع احتمال الخير من الاخرين وازدياد احتمال الشر والسوء ، وانتشار
التفسيرات المتشائمة او المشككة لكل حركة من حركات من يصنف بانه طرف آخر ،
واستحسان عقلية التآمر ، بدل عقلية التعاون ، وبصورة عامة انعدام حالة التوافق
والتراضي ، التي تؤسس للمحبة واالشراكة بين فرقاء المجتمع المختلفين ، اي استبدال
السلام الاجتماعي القائم على شعور كل طرف بالحاجة الى الاخر ، بتوازن القوى القائم
على بديل نقيض ، هو سعي كل طرف للاستقلال والاستغناء بامكانياته عن الاخر ، اي
تحول المجتمع الى مجتمعات متعددة وان جمعتها ارض واحدة .
وعلى صعيد المعيشة يؤدي انعدام
الاطمئنان المترافق مع ظرف الانقسام ، الى تعطيل العديد من عناصر الحركة التقدمية
في الحياة ، فالخوف على المستقبل او الخوف من التقلبات السياسية يؤدي الى تباطؤ
النشاط الاقتصادي ، ويعيق الاستثمارات الكبرى الضرورية للنمو والرفاهية ، كما
يختزل الحياة الثقافية في الصراع اللفظي والخطابي بدلا من النشاط العلمي ، ويقلص
مساحة الاعتدال في المجتمع لصالح التطرف على كل صعيد.
وثمة بين الطامحين من لايهاب المغامرة
، حيث يوفر ظرف الانقسام هذا لبعض الناس
فرصة الارتقاء الاجتماعي السريع ، مما لايتحقق بنفس السهولة في المجتمع
المتوحد المتوافق ، فهو من هذه الناحية سبيل الى تبديل في توازن القوى الاجتماعي ،
ليس لصالح الاكفاء بل لصالح الاقوياء والمغامرين .
هذه النتائج المأساوية هي التي توفر
المبررات للتساؤل الملح عن ثمن الانجاز ، اذ يحكم العقل الطبيعي بفساد الصفقة التي
تكلف مايزيد عن المكاسب المرجوة منها ، ونحن في اي نشاط حيوي انما نتعقب مصاديق
المصالح التي يتعارف عليها العقلاء ، كما نتجنب المفاسد ، فهل يستحق السعي الى
الهدف المنظور كل هذا الثمن؟ .
سيجيب العديد من الناس بان اسلمة الدولة يستحق فعلا هذا الثمن وما هو اعلى
منه ، وهو صحيح على افتراض ان الوصول الى الهدف بكماله المأمول مؤكد او هو ضمن
دائرة الاحتمالات الغالبة ، ثم انه قد يعتبر صحيحا اذا ثبت انحصاره في هذا السبيل
دون غيره ، اما اذا كان المتحصل دون مستوى الكمال ، كما يظهر من بعض التجارب
السابقة ، او مع وجود سبل أخرى لايترتب عليها تقديم الخسائر الباهضة ، فان القبول
بخيار الصراع المسلح والانجرار من ثم الى الحرب الاهلية ، يصبح مغامرة غير عقلانية
.
اخلاقيات الاختلاف
في سبيل الارتقاء الحضاري فان الحاجة
ماسة الى جو متوتر في النطاق العلمي ، يتحقق بتوفير الحرية والاعتبار الاجتماعي
للباحثين واهل العلم ، وهذا يختلف اختلافا بينا عن التوتر في النطاق الاجتماعي ،
اي التنازع بين القوى الاجتماعية على المكانة والنفوذ ، لاسيما اذا كان ثمة
امكانية لبعض هذه القوى لتحويل النزاع من مستواه السلمي الى المستوى العنيف
والدموي .
ومن المؤسف ان معظم مجتمعات العالم
الاسلامي والعالم الثالث عموما ، هي من هذا النوع من المجتمعات التي لاتفصل بين
الجدل الفكري والصراع الاجتماعي ، ولاتفصل بين حق الانسان في التفكير والتعبير عن
الراي ، وبين موقعه ضمن نظام العلاقات الاجتماعية ، فما ان يبدي احد ، شخصا او
جماعة ، رايا مخالفا لشخص آخر أو لجماعة اخرى ، حتى يتنادى هؤلاء الى تصنيفه ثم
مجابهته ، ليس بمناقشة ارائه ودحضها امام الملأ ، بل بعزله والسعي الى تحطيم
شخصيته .
في كل النزاعات فان الالتزام التام
برعاية الاسس التي يقوم عليها المجتمع ، واولها بقاؤه جماعة واحدة موحدة ، ورعاية
حقوق الافراد الاساسية ، هو الميزان الدقيق لتقييم النشاطات العامة ، وهو السبيل لتشخيص صلاحية
القوى الفاعلة على الصعيد الاجتماعي ، وتمييز المخلصة منها عن الانتهازية او
الجاهلة ، ان هذا الالتزام هو مانسميه التراضي والتوافق الاجتماعي ، وهو الذي يضمن
وقاية المجتمع من الانزلاق الى دوامة الشك والفتنة .
نشر في (اليوم) 10-10-1994