معظم
المجتمعات التي سعت لتحديث نظامها الاقتصادي شهدت صراعات داخلية شديدة بين
المحافظين الذين يدعون للتمسك بالتقاليد الموروثة والحداثيين الذين يرونها عقبة في
طريق التطور المادي والثقافي. وأظن أن إنكلترا هي البلد الذي شهد أشد هذه الصراعات
دموية، فقد تحول الجدل إلى حرب أهلية دامت بضع سنين. وشهدت فرنسا في وقت متأخر
نسبيا، في العام 1968، ما أطلق عليه وقتها «ثورة الطلاب» واعتبره الاجتماعيون
مثالا على انتفاضة الأجيال الجديدة ضد التنظيم الاجتماعي التقليدي. وفي دول أخرى
من الولايات المتحدة الأمريكية وحتى اليابان، مرورا بدول أوروبية وآسيوية وعربية،
شهدت المجتمعات صراعات واسعة أو محدودة، دافعها الأساس هو تمرد الجيل الجديد على
تنظيمات اجتماعية ضيقة الأفق.
أصبح هذا التحدي أكثر جدية منذ أواخر القرن العشرين، وهو
يزداد حدة مع مرور الوقت، لأن الأجيال الجديدة تزداد قوة وجرأة، كما إن الفوارق
بينها وبين الأجيال السابقة تزداد سعة وعمقا، بسبب التقدم التكنولوجي الذي وفر
للشباب عناصر قوة إضافية، أبرزها المعرفة والقدرة على المقارنة وابتكار الحلول.
قلت لابني يوما إن راتبه الشهري اليوم يعادل دخلي السنوي حين كنت في مثل عمره،
وأعلم جيدا أن بقية الأولاد قادرون اليوم على الوصول إلى مصادر معلومات لم نكن
نتخيلها قبل ثلاثين عاما، فضلا عن أن نصل إليها. بعبارة أخرى فإن ما يطلبه شبابنا
اليوم يتجاوز كثيرا جدا ما كنا نطلبه حين كنا في مثل أعمارهم، لأن قدراتهم أكبر
ولأن المساحات التي يستطيعون الوصول إليها أوسع وأبعد. وسيكون للجيل الآتي تطلعات
ومطالب أكثر من تلك التي عند شباب اليوم.
يمكننا ببساطة أن ندير ظهرنا لهذه المطالب ونعتبرها نزقا
طفوليا، وربما نجد وسيلة لإقناع الشباب بالسكوت والانتظار. لكن الأمور لا تحل بهذه
البساطة. حتى لو استمع الشباب إلى نصائحنا واعتذاراتنا، فإن محرك التحدي يظل فعالا
في داخلهم، وهو سيعود إلى النشاط والتعبير عن ذاته غدا أو بعد غد.
إهمال التحدي لوقت طويل يشدد الميل للمنازعة في نفوس
الشباب. ويتجلى هذا الميل في صورة إنكار للنظام الاجتماعي والقيم التي يقوم عليها.
ويتمظهر عادة في صورة سخرية من التقاليد والأعراف السائدة. وفي مراحل متقدمة، يمكن
أن يتطور هذا الميل إلى تعبيرات مادية عنيفة أو لينة تندرج إجمالا تحت عنوان
الخروج على القانون.
الإهمال هو خيار الخسارة، رغم أنه يبدو سهلا وغير مكلف ــ
في بدايته على الأقل ــ، الحل السليم ــ مهما كان مكلفا ــ هو استيعاب الجيل
الجديد بمطالبه وتطلعاته. طريق الاستيعاب يبدأ بتقبل فكرة التخلي عن بعض الأعراف
والتقاليد الموروثة، ثم إعادة إنتاج تقاليد جديدة تتناسب مع حاجات المجتمع الجديد
وظروفه المادية والثقافية. في هذا السياق نتحدث عادة عن مثال اليابان التي نجحت في
الجمع بين التقاليد الموروثة وبين الحداثة. لكن ينبغي أن لا نخدع أنفسنا، فالذي
فعله اليابانيون هو إعادة إنتاج تقاليدهم بما يحافظ على الشكل القديم لكن مع تحديث
المضمون. يمكن تطبيق المقولة نفسها على إنكلترا والهند والولايات المتحدة وكثير من
الدول الأخرى التي أعادت إنتاج تقاليدها بمضمون جديد. المحافظة على الشكل الخارجي
للتقاليد ليس أمرا سيئا، بل ربما يكون ضروريا لتأمين قدر من الاطمئنان والتواصل
الثقافي مع التاريخ. لكن الحياة تتطلب ــ بنفس المقدار ــ تقاليد تتناسب مع ظرف
الحياة الراهن.
نحن بحاجة إلى التحرر من التقاليد المعيقة، لا سيما تلك
التي تفرض علينا منظورات وتصورات قديمة عن الحياة والعالم، كما تفرض علينا قيما
وأحكاما تعيق طموحنا إلى مكان يتناسب مع واقعنا وقدراتنا وحاجات عصرنا. قد يكون
أمرنا سهلا لأن جيلنا استسلم لأقداره وقبل بما وجد أمامه، لكني أخشى حقا أن الجيل
الذي بعدنا ليس بنفس السهولة أو القابلية للاستسلام.
عكاظ
15 يونيو 2009