‏إظهار الرسائل ذات التسميات التيغراي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات التيغراي. إظهار كافة الرسائل

04/08/2021

المساومة والتنازل والانتصار


لا أبالغ لو قلت ان معظم بلدان العالم ، قد واجه سؤال "الاجماع الوطني" ، لاسيما في الثلاثين عاما الاخيرة. ان تحديد هذا التاريخ يرجع لظاهرة "انفجار الهوية" التي شهدها العالم بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في 1991. لقد قيل الكثير حول اسباب هذه الظاهرة. لكن لو اغفلنا – مؤقتا – مسار تشكلها ، وركزنا على اجزاء وتفاصيل الظاهرة بذاتها ، فلربما نجد ما يكفي من المبررات التي تخبرنا عن التحولات التالية ، والتي لازال بعضها نشطا في بعض البلدان ، حتى اليوم.

برز عناصر الظاهرة المذكورة هو نهوض الهويات الصغرى او الفرعية ، ومزاحمتها في حالات عديدة للهوية الوطنية الجامعة. نعلم ان هذا التحول قد ادى الى استقلال معظم القوميات ، التي كانت منضوية في اطار "اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية". ثم تمدد في بلدان عديدة ، من آسيا الى اوربا وأفريقيا. ومن بين الأمثلة الحديثة عليها ، التمرد في اقليم التيغراي - اثيوبيا ، وقبله بفترة وجيزة ، التظاهرات المطالبة باحترام حياة السود في الولايات المتحدة الامريكية ، والتي كانت عاملا هاما في هزيمة الرئيس السابق دونالد ترمب.

ونستطيع القول (بكلام مجمل) ان هذه الظاهرة اتخذت مسارا لينا نسبيا في القارة الاوربية ، بينما اتسمت في المجتمعات الافريقية والآسيوية بطابع خشن ، وفي بعض الاحيان شديد العنف. واحتمل ان هذا يرجع لسببين ، اولهما سياسي يتمثل في تلبس الهويات الفرعية ببعضها ، وتحولها من تعارض احادي (عرقي على سبيل المثال) الى ثنائي او متعدد الابعاد ، تتداخل فيه العوامل المعيشية والدينية والطبقية والعرقية وربما غيرها (وهذا ما حصل لشعب الاويغور شمال غرب الصين ، وشعب الروهينغيا في غرب ميانمار).

اما السبب الثاني فهو بنيوي ، يتمثل في عجز اطراف المجتمع الوطني عن التفاوض والمساومة ، التي لاتنجح – كما نعلم – دون استعداد مسبق لتقديم تنازلات. اني اعتبر هذا العجز بنيويا ، لأنه مرتبط بالتراث الثقافي والمنظومة القيمية والاخلاقية ، التي ترجح الصراع حتى لو ادى الى الخسارة الكلية ، على المساومة ، ولو أدت الى المعادلة المعروفة رابح-رابح ، اي المعادلة التي لا تنتهي بالسقوط التام للطرف المقابل.

اعتقد ان الثقافة السائدة في عالمنا العربي (وغالب البلدان الاسلامية التي نعرفها) تنحو هذا المنحى. فهي تعلي من شأن الحرب والصراع العنيف وتدمير العدو ، وتقلل من قيمة التفاوض والمهادنة ، التي تنتهي باقتسام المكاسب مع العدو او تقليل الخسائر المنتظرة.

لدينا تجربة مزدوجة من بلدين افريقيين ، توضح الفرق بين المنهجين ، المساومة والتشدد. ان تجربة جمهورية جنوب افريقيا ملهمة بحق ، في مقابل التجربة المحزنة لجمهورية زمبابوي. في 1980 انتصرت جبهة تحرير زمبابوي بقيادة الرئيس موغابي ، فكان اول قراراته تفكيك قوة البيض الذين احتكروا حكم البلاد قبله ، فانتهى الامر بهذه البلاد الى الجوع والخوف والاضطراب ، وهرب الاف السكان الى دول الجوار بحثا عن لقمة العيش. اما في جنوب افريقيا ، فقد قرر زعيم السود نيلسون مانديلا اقتسام السلطة والثروة مع البيض ، بعدما انتصر عليهم في 1994. ان هذه الدولة هي اقوى الدول الافريقية اليوم ، واكثرها ثراء واحتراما على المستوى الدولي. وتظهر المقارنة بين التجربتين المتجاورتين ان نصف انتصار هؤلاء ، اعظم من الانتصار الكامل لاولئك ، واكثر انسانية ونفعا لكافة الاطراف.

هذه التجارب وامثالها تخبرنا ان الخطوة الأولى لترسيخ الاجماع الوطني هي بناء الثقة ، من خلال التاكيد على قيمة التراضي والتنازل والمساومة ، حتى لو كنت تملك الحق كله ، وحتى لو كنت تملك القوة كلها.

الأربعاء - 25 ذو الحجة 1442 هـ - 04 أغسطس 2021 مـ رقم العدد [15590]

https://aawsat.com/node/3113951

 

مقالات ذات صلة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أمين معلوف... الهويات القاتلة

بين هويتين

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول الانقسام الاجتماعي

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

من باريس الى التغراي .. العالم يواجه ازمة هوية

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

الهوية المتأزمة

 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...