18/11/2020

من باريس الى التغراي .. العالم يواجه ازمة هوية

 

أشعر ان العالم على اعتاب أزمة جديدة ، مصدرها الرئيس هو تأزم الهوية وتفاقم نزعات التعصب الاثني. ينتابني شك قوي في الدوافع الحاسمة وراء قتل المعلم الفرنسي صمويل باتي ، منتصف اكتوبر الماضي ، وما تلاه من هجمات في جنوب فرنسا ، ثم في العاصمة النمساوية فيينا ، وكلها بررت بقصة واحدة ، هي قيام المعلم القتيل بعرض كاريكاتور للنبي محمد عليه الصلاة والسلام ، نشرته جريدة ساخرة قبل خمسة اعوام.


لدي شك في ان الشبان الذين قاموا بتلك الاعمال الخطرة ، كانوا مدفوعين باضطراب نفسي ، يتمظهر في شكل تعصب ديني او قومي ، متواز مع رغبة عارمة لتمثيل نوع من البطولة الاسطورية. وهو احد الوجوه لما نسميه أزمة هوية.

على الجانب الاخر من الاطلسي ، في الولايات المتحدة الامريكية شارك 150 مليون مواطن في الانتخابات الرئاسية. وهي اعلى نسبة مشاركة منذ 120 عاما. وقال الرئيس السابق باراك اوباما ان هذه النسبة العالية تؤكد شدة الانقسام في المجتمع الامريكي. وهذا قول تدعمه استطلاعات الراي التالية للانتخابات. فقد استأثر الرئيس المنتخب بايدن بدعم الشرائح غير التقليدية ، فصوت له 87% من السود ، و55% من الحاصلين على شهادات جامعية اضافة الى 62% من الشباب (بين 18-29 سنة).

وطبقا لتقدير الاستاذ ياسر الغسلان ، الصحفي المتخصص في الشؤون الامريكية ، فان فوز اوباما بالرئاسة في 2008 هو الذي مهد الطريق لصعود ترامب (الذي يعتبر الى حد ما ، نقيضه الاجتماعي). ان فوز ترمب ثم بايدن ، تعبير ضمني (ثقيل) عن تجاذب شديد بين مركز القوة الامريكية التقليدية ، أي سكان الريف البروتستنت ذوي الاصول الشمال اوربية ، وبين سكان المدن المؤلفة من خليط واسع من الاعراق والانتماءات الثقافية.

وبعيدا نحو الشرق ، انتهت للتو جولة عسكرية في صراع مزمن بين الاذريين والارمن ، على ملكية اقليم ناغورنو قره باغ ، الواقع ضمن اراضي اذربيجان لكن معظم سكانه من الارمن. وقد تداول الاعلام العالمي صورة جندي آذري ينتزع صليبا من سطح كنيسة. كما انتشرت صور لسيدات ارمنيات يبكين على مصير دير تاريخي ، يخشى ان تطاله يد العبث. المعروف ان مستوى الالتزام بالشعائر الدينية في كلا البلدين ضعيف جدا ، لكن الهوية الدينية تلعب دورا تعبويا مؤثرا في اوقات الازمة.

اخيرا نشير الى الصراع الذي انبعث من جديد في شمال اثيوبيا ، بين سكان اقليم التغراي والحكومة المركزية.  وهو صراع تحركه عوامل اقتصادية وسياسية ، لكنه يتلبس رداء اثنيا.

هذا المرور السريع على حوادث متزامنة ، تجري في بقاع مختلفة في شرق العالم وغربه ، تجعلنا نشعر بالقلق من ان العالم ربما يكون مقبلا على مرحلة ، يمكن ان نسميها "انفجار الهوية" ، شبيهة بما جرى في مطلع العقد التاسع من القرن المنصرم.

الغرض من هذه الاشارة هو اظهار القلق من ان الدين ا(لاسلامي خصوصا) يمكن ان يستثمر كواجهة في صراع واسع جدا. ومرادي هو دعوة اهل الرأي المسلمين ، للبحث عن اطروحة او مشروع يحول دون تحميل الدين عبء الانحياز الهوياتي ، نظير ما حدث في اوربا. اقول هذا لعلمي بان فريقا كبيرا جدا من المسلمين ، يرى ان الاسلام هوية في الاساس ، اي انه ليس انتماء انسانيا مفتوحا ، يستطيع اضافة نفسه كمكون لاي هوية اخرى ، بل هو هوية موازية او حتى معارضة للهويات الاخرى. في اعتقادي ان هذا المنظور سقيم وقد كان – حتى الان – سببا في اقحام الدين الحنيف واتباعه ، في صراعات لا شأن لهم بها ، ولا ثمرة وراءها.

الشرق الأوسط الأربعاء - 3 شهر ربيع الثاني 1442 هـ - 18 نوفمبر 2020 مـ رقم العدد [15331]

https://aawsat.com/node/2631561/

 

مقالات ذات صلة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أمين معلوف... الهويات القاتلة

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول الانقسام الاجتماعي

حول المضمون القومي للصحوة الدينية

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

الهوية المتأزمة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...