11/11/2020

عالمنا القائم على تاريخ مكذوب

 

اود ان تكون هذه السطور تكملة لمقال استاذنا د. محمد الرميحي المعنون "حرب الاسترداد الثقافية" والمنشور في هذه الصحيفة يوم السبت الماضي. تحدث الرميحي عن انفصالين متعاضدين: اولهما انفصال الفكرة الدينية عن العصر ، وانحباسها في نقطة تاريخية بعيدة جدا. اما الثاني فهو انفصال الاحكام الدينية الناظمة للمعاملات عن مبرراتها العقلية ، وارتهانها بشكل سطحي لأفهام السابقين ، مع علمنا بانها افهام مشروطة بضرورات عصورهم وحدود معارفهم.


والمفهوم ان الدافع لمقالة الرميحي ، هو  رد الفعل الواسع – والخشن نسبيا – في العالم الاسلامي ، على موقف الحكومة الفرنسية ورئيسها ، والتي فحواها انها ستواصل التزامها بحرية التعبير ، ولو تضمنت تعريضا بمقدسات دينية.

انني لا اصدق ما قاله الرئيس الفرنسي ولا اهتم به. لكن الذي يهمني – مثل استاذنا الرميحي – هو موقفنا كمسلمين من حوادث كهذه. كل حادثة هي اختبار للقيم والمفاهيم التي نتبناها ، والتي تشكل فهمنا لذاتنا ومن يجاورنا. نعلم ان العقلاء يفرحون بالتجارب لما تنطوي عليه من فرص لاستكشاف نقاط الضعف والقوة في مواقفهم أثناء الأزمات.

لقد أثار انتباهي ان الذين تنادوا للرد على الموقف الفرنسي ، دعوا للمواجهة وليس التفاوض. وهذا موقف يتكرر في أغلب الازمات ، حتى التي يكون جميع اطرافها مسلمين. ولا بد ان موقفا كهذا يثير سؤالا جديا: لماذا يميل غالبنا للنزاع بدل التفاوض ، حين تنشب الازمات؟. ولماذ يعتبر الرأي العام المسلم ، ان كل أزمة تنطوي على عدوان خارجي ، وان رد الفعل الوحيد هو الدفاع العنيف ، ماديا او كلاميا؟.. لماذا لا نفكر في خيار التفاوض وتوضيح ما نظنه خطأ لدى الطرف الآخر ، فلعلنا نهديه بالموعظة الحسنة ، او ربما اكتشفنا أن الخطأ عندنا ، في تقديرنا للموقف او فهمنا للامور ، او حتى في قيمنا وما نتبناه من رؤى. لماذا يكون رد الفعل الاول هو التنادي للصراع ، بدل التواصي بالحوار والموعظة الحسنة؟.

أعود الى تفسير الرميحي ، الذي راى اننا لا نفصل بين ما لاضرورة لتبريره عقليا ، مثل العبادات المحضة التي جوهرها التسليم للخالق ، وبين التعامل مع الناس الذي جوهره المصلحة العقلائية. لقد قيل لنا ان الصلاة مثلا عبادة عابرة للتاريخ ، فلا نضع في اعتبارنا احتمال تطورها بعد مرور 14 قرنا من تشريعها. وهذا امر محتمل (رغم اني لا اميل اليه ابدا) لكن المشكل ان هذا الاعتبار ، اي تجميد الحكم في الماضي ، قد سحب على الكثير من احكام المعاملات ، حتى التي لم يعرفها اسلافنا ولم توجد في زمنهم. النتيجة الملموسة لهذا الموقف هو تجميد الفكرة الدينية عند نقطة انطلاقها المتخيلة ، بدل جعلها تتفاعل مع عصرها الراهن وحاجات أهله.

يرى الرميحي ان الانغماس العاطفي في التاريخ ، يرجع لاعتقاد الجمهور المسلم بان اسلافهم ، قد اقاموا في زمن ما في الماضي ، نوعا من مدينة فاضلة (يوتيوبيا) ، وان هذا الاعتقاد يعوض شيئا ما عن شعورنا بالعجز إزاء تحديات العصر الراهن.

وبناء على هذا التفسير ، فهو يدعونا للتخلي عن التثقيف القائم على تسويق تاريخ مكذوب ، والتركيز بدلا منه على ايضاح حقيقة ان سلفنا كانوا بشرا عاديين ، مثل غيرهم ، حاولوا فاصابوا حينا واخطأوا حينا ، وعاشوا دنياهم مثل سائر عقلاء العالم ، ولم يكن ثمة مدينة فاضلة او مجتمع كامل في اي وقت من تاريخنا المعروف.

الشرق الأوسط الأربعاء - 26 شهر ربيع الأول 1442 هـ - 11 نوفمبر 2020 مـ رقم العدد [15324]

https://aawsat.com/node/2618086/

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...