"حقبة الخلف الصالح" هو عنوان مقال الزميل حسين شبكشي ، في هذه الصحيفة يوم الاحد الماضي. لا بد ان بعض القراء قد تبسم وهو ينظر في هذا العنوان الغريب. وقد ذكرني بتقليد سائر بين دارسي العلوم الشرعية ، فحواه انهم يطلقون وصف "بقية السلف" اذا أرادوا المبالغة في مدح عالم كبير ، ولا سيما عند وفاته. فكأن الأصل ان هذا العظيم قرين للماضين ، فنلحقه بهم وليس بأقرانه الأحياء.
ويعتقد
الزميل شبكشي ان التقدير الوافر للاسلاف ، مقابل قلة الاكتراث بالمعاصرين (الخلف)
مرجعه الحديث المنسوب للنبي "خير القرون قرني" الذي فسر في ان عموم
المعاصرين له عليه السلام والجيل الذي يليهم ، خير من عامة من يأتي تاليا.
ويجري
نفس المجرى – في ظني - الروايات المتعلقة بخروج المهدي في آخر الزمان ، إذا "امتلأت الأرض ظلما
وجورا". فهذه وذاك يتحدثان عن سير تراجعي للتاريخ: كلما تأخر
الزمن زاد فساده ، وكان أهله أقل خيرية ممن سبقهم .
لا
استطيع تكذيب تلك الروايات ، مع اني لاحظت ان علماء الحديث قد صرفوا جل اهتمامهم
الى سنده ، اما دراسة المتن فاقتصرت على التحقق
من اتحاد او اختلاف الالفاظ ، في الروايات المتعددة للحديث الواحد ، ونادرا ما
اهمتموا بمعقولية المتن ومطابقته للواقع الذي نعرفه ، او حتى مطابقته لروح الرسالة
المحمدية وما نفهمه من آيات الكتاب المبين. وقد أشار الى طرف من هذه العلامة ابن
خلدون ، في نقده لمناهج بحث الرواية التاريخية ، في "المقدمة".
لست
إذن في صدد التعرض لصحة هذه الاحاديث وغيرها. لكن يهمني الإشارة الى ان مفادها
مخالف لما نعرفه من الواقع وأوامر القرآن الصريحة ، وحكم العقل. والمفاد المقصود
هو فرضية ان التاريخ البشري يتراجع ، وان التالي اقل خيرية من السابق.
اما مخالفتها
لأوامر القرآن فيظهر في مفاد الأمر بالجهاد والدعوة للفضائل. فلو لم يكن متوقعا ان
يفضى هذا الامر الى تغيير الحال الى ما هو أحسن ، لكان الأمر به عبثا ، لا سيما
اذا كان تنفيذ الامر مستوجبا لتضحيات جسيمة ، فكيف يكلفنا الله بشيء مع علمه بان
الأمور لن تتعدل ، لانها تسير -وفقا لحتمية تاريخية - في الاتجاه المعاكس؟.
وأما
مخالفتها لحكم العقل فيظهر في الربط بين العمل والناتج. يأمرنا العقل بفعل معين ، بناء
على تقدير منطقي سابق ، فحواه أن سوء الحال وحسنه ثمرة لفعل البشر وتصرفهم. القول
بان الآتي سيكون حتما أسوأ من الماضي ، معناه ان كل سعي للخير سينتهي الى عكسه ، أي
ان العمل للخير وعدم العمل سواء في النتيجة.
وأما
مخالفتها للواقع ، فظاهر في المقارنة بين واقع البشرية في الماضي والحاضر. فعدد
المسلمين تضاعف الف مرة ، وانتشارهم في العالم كذلك ، وتقلص الظلم في العالم ، وبات
القرآن ميسرا لكل البشر بمختلف لغاتهم ، وتعاظمت العلوم والمعارف ، وارتفعت قيمة
الانسان ، وزاد الاهتمام بالعمران وحماية الطبيعة والحيوان. وهذه كلها من مقاصد
الشريعة التي لا خلاف فيها. أي ان العالم سائر في تطبيق ما أراد النبي تبليغه ،
ولو تحت مسميات أخرى. فهل زمننا هذا اقل قيمة من أزمان الامويين او العباسيين او
المماليك او السلاجقة او امراء الطوائف على سبيل المثال؟.
لقد
اثار الزميل شبكشي مسألة في غاية الأهمية ، وهي تثير سلسلة من الأسئلة ، يتلخص
احدها في مسألة التفاضل بين الأزمنة ، وفق المتعارف في التراث. وارى اننا بحاجة
للتأمل فيها من دون انبهار ولا توجس.
الشرق
الاوسط الأربعاء - 7 شوال 1442 هـ - 19 مايو 2021 مـ رقم
العدد [15513]
https://aawsat.com/home/article/2980471/
مقالات ذات علاقة