أظن أن كل عربي حصل على نصيب
من الثقافة ، قليلا أو كثيرا ، قد توقف ساعة أو ساعات امام العتبة الزمنية التي
يوشك ان يجتازها العالم بعد أشهر ، أعني نهاية القرن وبداية الألفية الثالثة .
ويبدو ان العالم العربي قد
تجاوز موقف الغفلة ، فمعظم العرب ، المتعلمين منهم على وجه الخصوص ، على وعي بأن
الحديث عن الألفية الثالثة لا يتعلق بعبور زمني خال من المعنى .
قبل عشرين عاما ، حين كان
القرن الرابع عشر الهجري في نهاياته ، وجه السيد ابراهيم الوزير دعوة إلى المسلمين
، كي يقدموا لأنفسهم جردة حساب عما اكتسبوه أو خسروه خلال القرن الرابع عشر ، وان
يضعوا نصب اعينهم مسارات محددة في القرن الهجري الجديد ، وعرض العلامة الوزير في
كتابه (على مشارف القرن الخامس عشر) أبرز التحديات التي تواجهنا في هذا القرن ،
وكرر مفكرون آخرون هذه الدعوة ، لكن اوضاع العالم الإسلامي كانت يومئذ شديدة
الالتباس ، فضاعت تلك الدعوات في زحمة الأحداث ، لكني أظن اليوم ان العشرين عاما
الماضية لم تضع هباء ، فالاحداث المتزاحمة اوجدت قدرا من الوعي عند العرب
والمسلمين ، يؤهلهم اليوم أو غدا لاختيار طريقهم .
القضية الكبرى الدائمة هي
التجدد الاجتماعي والتجديد الثقافي . التجديد الثقافي ، يعني بصورة محددة تطوير
المنتجات الثقافية لتكون قادرة على تحليل حياتنا ونقدها واقتراح البدائل ، وبالنظر
إلى ان النتاج الثقافي الفعال بحاجة إلى حياة ثقافية نشطة وسليمة ، فان التجديد
مرهون بطبيعة الاطارات التي تحتوي النشاط الثقافي من حيث الضيق والسعة ، ومن حيث
الحرية أو التقييد ، ونعلم ان القيود الاجتماعية المفروضة على التعبير ، هي
المسؤول الاول عن تحجيم الحياة الثقافية من ناحية الكم وتفريغها من ناحية الكيف ،
بديهي ان الحياة الثقافية المتحررة من القيود ، والمتروكة للمبادرات الفردية ،
وغير المقيدة باطارات محددة ، هي الدليل الأقوى على رغبة المجتمع في تجديد ثقافته
، وتعزيز دورها في البناء وتحديد صورة
المستقبل .
أما التجدد الاجتماعي ،
فيتحدد في وعي المجتمع بحاجاته الحقيقية وقدرته على تلبيتها أو سعيه في هذا
الاتجاه ، والواضح ان العرب يعون اليوم أكثر من
أي وقت مضى ، انهم قد تأخروا كثيرا عن ركب المدنية الانسانية ، وهذا ما
ينكشف عند أي مقارنة بينهم وبين المجتمعات المناظرة .
على الجانب الآخر من العالم
، فان المجتمعات الصناعية تستعد للقرن الجديد بزخم هائل من الأفكار ومناهج العمل
والمبتكرات ، وهو ما دعا بعض كتابنا إلى استدعاء القضايا المطروحة هناك باعتبارها
قضايا كونية ، والحق انها ليست كذلك ، فما يواجه المجتمعات الصناعية من تحديات ،
يتناسب ومستوى تطورها ، ولاننا في مستوى آخر ، فان القضايا التي تواجهنا مختلفة
كليا ، وان تشابهت مع تلك في عناوينها.
وأذكر هنا المفارقة التي عرضها د. حازم
الببلاوي حين تحدث عن العلاقة بين الانتاج والاستهلاك ، فهو يشير إلى ان صناعة
الاعلان حيوية للمجتمع الصناعي ، لانها الوسيلة الرئيسية لتضخيم الاستهلاك
وبالتالي تسهيل الطريق امام الابتكارات الجديدة ، أما في المجتمعات القليلة
الانتاج ، فان الاعلان ثم الاستهلاك يلعب دور المضخة التي تسحب الثروة الوطنية إلى
الخارج ، وتقلل فرص الادخار الضروري للاستثمار فالانتاج ، لان ما يعرضه الاعلان من
سلع وخدمات ، مستورد غالبا من الخارج ، ويمكن تطبيق هذا القياس على المصارف
والاسواق المالية وصناعة الاعلام ، بل وحتى التعليم في بعض الحالات .
من مصاديق التجدد الاجتماعي
، العودة إلى الثقة بالذات ، واكتشاف القدرات الذاتية ، ولدينا على المستوى العربي
فرص هائلة إذا حسنت ادارتها ، لكن هذا بحاجة إلى تخفيف الموجة الاقليمية والقطرية
التي سادت عالم العرب منذ اواخر الثمانينات ، والتي لم يكن وراءها من ثمرة سوى ان
العرب اغلقوا أبوابهم دون أشقائهم وشرعوها أمام الغرباء ، لكن لحسن الحظ فان العرب
اقتنعوا اخيرا بجدوى فتح أسواقهم على بعضها ، وبدأ بشكل جدي ـ كما تشير الانباء ـ
تطبيق اتفاق الوحدة الجمركية ، وهي عودة بعنوان مختلف إلى فكرة الوحدة التي نعاها
كثيرون في اوخر الثمانينات ، مع انها طريق العرب الوحيد على الارجح ، إلى مواجهة
التحديات الاقتصادية التي لا يستطيع كل قطر بمفرده احتمال اعبائها .
على ابواب الالفية الثالثة ،
سوف نحتاج إلى التفاؤل ، وسوف نحتاج بالطبع إلى العمل الجاد لاكتشاف الذات
وصياغتها من جديد
.
في 14-2-99