‏إظهار الرسائل ذات التسميات الاصلاح الثقافي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الاصلاح الثقافي. إظهار كافة الرسائل

08/08/2024

مشكلة الثقافة الدولتية

لو سألت رأيي في رعاية الحكومة للشأن الثقافي ، بل أي تدخل لأي حكومة في الشأن الثقافي ، لترددت طويلا قبل الاجابة. واظن السبب واضحا. فدخولها في الحياة الثقافية يعني تعيين احد التيارات الثقافية ، كخطاب رسمي تعتمده اجهزة الدولة ورجالها. ونعلم ان اتخاذ خطاب رسمي ، سيؤدي – شئنا أم ابينا – لإقصاء الآراء المختلفة عنه ، وتهميش الآراء المعارضة له. نعلم أيضا ان ازدهار العلم رهن بتنوع الآراء المتاحة في المجال العام ، والاقرار بحق صاحب الرأي في مخالفة الآراء الأخرى ، بما فيها المتبناة رسميا. ان الجدل الحر هو الوسيلة الاكثر بساطة والأيسر كلفة لانتشار العلم ، وتحوله من حرفة نخبوية الى مضمون للتبادل بين عامة الناس.

لكن هذي قصة ناقصة. واستكمالها يقتضي القول ان بعض مجالات الاصلاح الثقافي ، لا يمكن إنجازها دون مساهمة واسعة للدولة ، على المستوى السياسي والقانوني خصوصا. دعني أذكر مثلا مفهوم "سيادة القانون" الذي يعد من أعمدة الدولة الحديثة والمجتمع الحديث ، وبالتالي فهو من المسارات الهامة للانتقال نحو الحداثة. سيادة القانون لا تعني وضع العديد من القوانين واللوائح ، بل التخلص من الطابع الشخصي في الادارة ، وجعلها تجسيدا كاملا للقانون. يظهر الفارق بين الحكم الشخصي وحكم القانون في مضمون ومعايير العلاقة بين المجتمع والجهاز الاداري للدولة.

بيان ذلك: لعل القراء يذكرون نقاشات الصحافة في سنوات سابقة ، حول اختلاف القضاة في الحكم على المسائل المتشابهة. ونعرف ان السبب وراء هذا ، هو اعتبار القاضي مجتهدا يحكم برأيه. وهذا من التقاليد المأثورة في الفقه الاسلامي القديم. نعرف أيضا ان هذا الاختلاف يؤدي الى ما يسمى "عدم استقرار القانون" بل عدم استقرار المعاملات ، نظرا لان الناس لا يعلمون بما يواجههم حين يضطرون للتقاضي. هذا مثال على نوع الحكم الشخصي. لكن لو كان السائد هو حكم القانون ، فان كل شخص يعرف سلفا ما الذي سيواجه لو قام بهذا الفعل او ذاك. وان لم يكن خبيرا ، فان محاميه يستطيع اخباره بما سيجري له لو وصل الأمر الى المحكمة. حين يكون القانون حاكما ، فان الافعال الممنوعة تعرف وتحدد عقوباتها ، في نص قانوني واضح. وبناء على هذا سوف يصدر كل القضاة حكما واحدا في القضايا المتماثلة ، وان المتقاضين سيحصلون على نفس النتائج ، لو وصل امرهم الى المحاكم او حتى الادارات التنفيذية المخولة باصدار احكام. يطلق على هذه الميزة اسم "القابلية للتنبؤ" وهي من العناصر المؤثرة في تكوين البيئة المواتية للاستثمار. ولن تكون ممكنة الا اذا كان القانون هو المرجع الوحيد للجميع ، وليس الرأي الشخصي للمدير أو الوزير ، مهما علا شأنه او علمه.

أظن ان جميع الناس يريدون شيئا كهذا. لكننا نواجه مشكلة حقيقية ، تتمثل في ميل بعض الناس للالتفاف على القانون ، واعتماد العلاقة الشخصية او التأثير الخطابي على المدير ، وقبول المدير لهذا النوع من التعاملات ، التي تؤدي – بالضرورة – الى تقديم الأقوى شخصية او الأقرب علاقة ، على غيره ، ولو كان الحق لهذا الغير. واذكر مديرا بارزا اشتهر بعبارة يقولها تكرارا: "اشفع تشفع" وهي دعوة مفتوحة للوسطاء والمحتاجين لوساطة. وقد برر المدير الهمام دعوته بان القانون لا يلحظ كل القضايا. وهذا تبرير معقول أحيانا. لكنه سيؤدي – في نهاية المطاف – الى الغاء القانون واستبداله بالعلاقات الشخصية.

المجتمع التقليدي يثق في الأشخاص ويعول على "كلمة الرجال" اكثر من القانون. وأصحاب السلطة والنفوذ لا يتمنعون من التعامل مع هذا النوع من المحاولات الاجتماعية ، حتى لو أدت لتجاوز القانون في بعض الأحيان. مثل هذه الحالة لا تعالج باصدار المزيد من القرارات والقوانين والممنوعات ، بل بالتثقيف الواسع النطاق وعلى كل المستويات ، حول القانون وضرورته ، وكونه أساسا للمساواة بين الناس وحاميا لحقوقهم. فهل يمكن لجهة أخرى – غير الدولة – ان تقوم بهذه المهمة؟.

مقالات ذات صلة

 

 اصلاح العقل الجمعي

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

تفاح الرميحي وتفاح سعد الدين

التقدم اختيار.. ولكن

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

الثقافة المعوقة للنهضة

الثقافة كصنعة حكومية

الحداثة التي لا نراها

الحداثة باعتبارها حاجة دينيّة وواجباً أخلاقياً "عرض لكتاب الحداثة كحاجة دينية

الحداثة تجديد الحياة

حداثة تلبس عباءة التقاليد

الحداثة كحاجة دينية -النص الكامل للكتاب

حول العلاقة بين الثقافة والاقتصاد

د. السيف: فقد الدِين وظيفته الاجتماعية لأنه أصبح حكرا على طبقة خاصة

رأس المال الاجتماعي

طريق التقاليد

عقل الاولين وعقل الاخرين

لمحة عن تحولات المجتمع والثقافة

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

11/07/2024

اصلاح العقل الجمعي

 

دعنا نفترض ان حكومتنا قررت اصلاح او تطوير الثقافة الوطنية ، في السياق الذي اسميناه في الشهر الماضي "الهندسة الثقافية" ، فما هي الاهداف التي ينبغي ان تحتل المرتبة العليا في سلم اولوياتها؟.

للاجابة على هذا السؤال ، دعنا نوضح مسألتين: أولاهما وظيفة الثقافة والدور الذي تلعبه ضمن المخطط العام للتطوير في بلد بعينه. اما الثانية فعن طريقة توظيف الثقافة في خدمة الاغراض الوطنية العامة.

بالنسبة للمسألة الاولى ، فان الثقافة التي نعنيها هنا ، هي مكونات الخلفية الذهنية التي توجه السلوك الجمعي ، والتي نسميها أحيانا العقل الجمعي او العرف العام ، اي الطريقة التي يتبعها عموم الناس في تحديد ما هو مناسب او غير مناسب من السلوكيات الفردية. ونتعرف على هذه عادة في ردود فعل الناس على المواقف التي يواجهونها في حياتهم اليومية ، ولا سيما المواقف التي تتعلق بمسائل جديدة او غير معتادة.

نعلم ان 90 بالمائة من سلوك الافراد عفوي ، يصدر من دون توقف او تفكير. لكنه مع ذلك يبدو للناس معقولا. لأنه يعتمد على قناعات مسبقة ، جرى التوصل اليها وتثبيتها في الذاكرة ، كمعيار لما ينبغي للانسان ان يفعله او يعرض عنه. خذ مثالا من حياتك اليومية: فحين تركب سيارتك صباحا ، فان ذهنك يقوم بمئات من العمليات العقلية ، التي تشمل اختيار الطريق واستعمال السيارة ، ومقابلة التحدي الذي يمثله السائقون الآخرون. كل هذه العمليات تجري بشكل متوال وسريع ، اي انك تقوم بها طيلة الوقت ، من دون ان تشعر بكل جزء منها ، أو تقرر سلفا ما الذي ستفعل الآن وما الذي ستفعل لاحقا. توالي هذه العمليات بات ممكنا بعدما جرى تثبيت مرجع معياري لكل عملية منها ، في الذهن او الذاكرة. والحقيقة ان جانبا كبيرا من النشاط الذهني للانسان ، ينصرف الى صياغة واصلاح هذه المراجع او قواعد العمل. ومن هنا أيضا فان المهمة الكبرى للاصلاح الثقافي ، تتمثل في هذه النقطة على وجه التحديد: مسح القواعد العتيقة او غير المتناسبة مع حاجات الانسان وحاجات عصره ، وانتاج قواعد جديدة.

فيما يخص المسألة الثانية فان أبرز التحديات التي تواجه مجتمعنا ، هي تحدي الحداثة ، ولا سيما استيعابها من خلال معالجة نقدية ، تسمح بتنسيج قيمها الرئيسية في نسيجنا الثقافي ، وصولا الى انتاج ظرف ثقافي / اجتماعي حديث ، لكنه غير منقطع عن التجربة التاريخية. لا اقصد – بطبيعة الحال – ان يكون المجتمع الجديد استمرارا للتجربة التاريخية ، بل ان يكون واعيا بها ، قادرا على نقدها واختيار ما فيها من محاسن ، مدركا لحدود تأثيرها على تفكيره في قضايا اليوم.

استيعاب الحداثة يعني التمييز بين ما هو علمي وما هو اسطوري او خرافي في حياتنا ، والتأسيس على العقلانية والعلم. ليس من الضروري استبعاد الاساطير او انكارها ، طالما بقيت في إطار الفولكلور والتخيل ، ولم تتحول الى اساس تبنى عليه قرارات او مواقف. يجب أن نصارح انفسنا بأننا ورثنا طائفة واسعة من العناصر الثقافية التي تعطل عقولنا او تثبط همتنا ، وفي نهاية المطاف ، تعيق ما نطمح اليه من نهوض علمي واقتصادي واجتماعي.

بناء على ما سبق ، فان استراتيجية وطنية لاصلاح الثقافة ، ينبغي ان تحدد أهم أهدافها في: معالجة التقاليد والموروثات التي تدفع العقول نحو البناء على الاسطورة او القيم اللاعقلانية او المتعارضة مع مستخلصات العلم.

لحسن الحظ فان هذه المهمة الكبرى ليست عسيرة كما قد نظن. ذلك ان علاجها متوفر فعلا وقليل الكلفة. هذا العلاج هو الغاء القيود على تدفق المعلومات والضمان القانوني لحرية التعبير والنشر. ان رسوخ الخرافة في الاذهان سببه الرئيس هو ضيق الافق الثقافي ، وعدم الاضطرار الى مجادلة الموروث. فاذا وجد الانسان نفسه في مواجهة خيارات عديدة معارضة لمحتوى ذاكرته ، فسوف يضطر للتفكير والمقارنة. وهذا يكفي – في اعتقادي – كي يكتشف العقل الفارق الجوهري بين ما يحويه فعلا وبين الجديد الذي يعرض عليه.

الخميس - 05 محرم 1446 هـ - 11 يوليو 2024 م    https://aawsat.com/node/5039036/

مقالات ذات صلة

 

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

التقدم اختيار.. ولكن

ثقافة المجتمع.. كيف تحفز النمو الاقتصادي او تعيقه

الثقافة المعوقة للنهضة

الثقافة كصنعة حكومية

الحداثة تجديد الحياة

الحكم اعتمادا على العقول الناقصة

حول العلاقة بين الثقافة والاقتصاد

رأس المال الاجتماعي

عقل الاولين وعقل الاخرين

عقل العرب ، عقل العجم

العقل المؤقت

فكرة التقدم باختصار

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

القيم الثابتة وتصنيع القيم

كيف نجعل الثقافة محركا للاقتصاد؟

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

هكذا خرج العقل من حياتنا 

الهندسة الثقافية: تمهيد موجز

31/05/2023

حول العلاقة بين الثقافة والنهضة


||فرضية كون الدين ضرورة للنهضة ، فرضية لا يدعمها دليل ، وفرضية ان الدين الصحيح هو دين الاقدمين ، لا يدعمها دليل ، كما ان انكار دور الانسان الفرد في صنع تجربة الحياة الدينية وصوغ تفاصيلها ، هو الاخر بلا دليل||.

بين يدي كتاب "إعادة التفكير في التنمية الثقافية" ، وهو دعوة لاحياء الدور المحوري للثقافة العامة ، في الحراك الاجتماعي - الاقتصادي الذي ينشده عرب اليوم. بذل الكاتب د. محمد حسن جهدا فائقا في الربط بين الأساس النظري للموضوع والتطبيقات التي يدعو اليها. لكنه – مثل العديد من الدراسات العربية ، أخفق في التحرر من مؤثرات الانتماء الاجتماعي ، وإيفاء الجانب العلمي حقه. للمناسبة فهذه مشكلة يواجهها كثير منا ، حين نقارب قضايا متصلة بالتراث أو القيم الدينية. في حالات كهذه يتراجع المنظور العلمي لصالح ما يعتقد الكاتب انه حقيقة دينية ، مع انها قد تكون مجرد انطباع عام او فهم من الأفهام المحتملة.

لايضاح هذه الإشكالية سوف أركز على مسألتين ، تكررت الإشارة اليهما في الكتاب ، وشكلا خلفية لجانب من طروحاته ، وهما مسألة العلاقة مع الغرب ، وربط صلاح المستقبل بالرجوع للماضي.

د. محمد محمود عبد العال حسن

يظهر واضحا ان الكاتب منتبه لكون العلاقة مع الغرب عنصر محوري ، في أي نقاش جاد حول عصرنة الثقافة العربية. لكنه لم يبذل جهدا مناسبا في معالجة المسألة ، بل أراد الجمع بين الاضداد كما يقال. وهذا يظهر في دعوته للتمييز بين ما اسماه "الغرب الثقافي والغرب الاستعماري العدواني". هذه الفكرة تمثل بالتأكيد خطوة متقدمة على نظيرة لها شائعة في العالم الإسلامي ، تدعو لتقبل التكنولوجيا والعلوم التجريبية ، بموازاة نبذ الثقافة والفلسفة التي تطورت في الغرب ، لأن الأخيرة راس جسر للنفوذ والهيمنة الاجنبية.

هذه فكرة متقدمة نسبيا ، لكنها لا تخلو من العلة الأكبر ، أي التعامل مع القيم ككائنات ناجزة ومهيمنة ، خارج الوعي الإنساني. وقد وجدت هذا المنهج انعكاسا لتصور عليل عن الانسان ، ينطلق من اعتباره كائنا منفعلا متأثرا ، تصوغ حياته عوامل خارج وعيه وخارج اختياره. وهذا يعاكس أولى أسس النهضة ، أي اعتبار الانسان عدلا كاملا مريدا خالقا لعالمه ، صانعا لمستقبله ، مسؤولا عن أقداره ، أو على أقل التقادير شريكا في كل ذلك.

يتصل هذا المعنى بالمسألة الثانية التي أشرت اليها ، وهي النظر للماضي كمرجع ونموذج. وقد شاعت كلمة الامام مالك بن انس رحمه الله "لا يصلح آخر الامة الا بما أصلح أولها" حتى ظنها الناس من كلام النبي. وذهبوا في تفسيرها كل مذهب. والمفهوم انه يقصد ان صلاح الامة بالدين. لكن تكررت التجارب ، بما فيها تجربة الامام مالك نفسه ، فما ظهر في الواقع تصديقا لهذا القول. والاصل ان التجربة المتكررة هي الدليل على صحة الرأي.

ولنا في حقيقة ما جرى في الماضي حديث طويل ، لا يتسع له المقام. لكني اريد التركيز على جوهر المسألة أي النظر للإنسان باعتباره وعاء فارغا ، تلقى فيه القيم والأفكار والايديولوجيات ، فيتلقاها كما هي. واظن هذا قياسا على مكانة الدين ، حيث افترض غالبية الإسلاميين ان الانسان لا دور له في هندسة حياته الدينية ، بل هو متلق منفعل ، يتلقى القيم والتعاليم كما هي فيطبقها تعبدا وتسليما ، بلا نقاش ولا مراجعة.

هذا تصور عن العلاقة بين الدين والمؤمنين ، اراه فاسدا ، بل سببا لاخفاق العديد من المحاولات النهضوية. ان فرضية كون الدين ضرورة للنهضة ، فرضية لا يدعمها دليل ، وفرضية ان الدين الصحيح هو دين الاقدمين ، لا يدعمها دليل ، كما ان انكار دور الانسان الفرد في صنع تجربة الحياة الدينية وصوغ تفاصيلها ، هو الاخر بلا دليل.

النهضة – في هذا الزمن بالذات – مستحيلة ، مالم يسترجع الفرد مكانته ككائن حر عاقل وأخلاقي. لا يمكن للدين ان ينهض على اكتاف المنفعلين السلبيين ، بل على يد صناع الحياة المتفاعلين مع تجارب البشرية في الغرب والشرق ، في الماضي والحاضر ، دون انبهار او استسلام ، ودون ارتياب او ترفع.

الشرق الاوسط الأربعاء - 12 ذو القِعدة 1444 هـ - 31 مايو 2023 م  https://aawsat.news/4496j

مقالات ذات صلة

أول الاصلاح عقلنة القيم

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

 ظرف الانتقال العسير

العالم ليس فسطاطين

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

المكنسة وما بعدها

الموت حلال المشكلات

اليوم التالي لزوال الغرب

وهم الصراع بين الحضارات

04/04/2018

المكنسة وما بعدها.. هل جربت صنع المكنسة؟

|| لم نفكر سابقا في المكنسة. مازلنا نشتريها من الخارج. لم نفكر ايضا في الفكرة الكامنة وراء السيارة والهاتف والحاسب ، ولذا سنواصل التعامل معها كمستهلكين ومع صانعيها كزبائن دائمين||

 كتب مالك بن نبي يوما: نشأت وأنا أرى جدتي وأمي تكنسان الأرض وتشكيان من ألم الظهر بسبب الانحناء. لم تفكر احداهن في اضافة عصا الى تلك المكنسة الصغيرة. ثم جاء الفرنسيون بالمكنسة الطويلة ، فارتاحت أمي حين باتت قادرة على كنس بيتها وهي مستقيمة. (وجهة العالم الاسلامي 1/141)

قد تبدو المكنسة شيئا تافها أو هامشيا. لكن موضع اهتمامنا ليس المكنسة بذاتها. بل محتوى العلاقة بين هذا الشيء البسيط وبين صاحبه. هذا ينطبق أيضا على السيارة والمصباح الكهربائي وموقد الغاز وجهاز التبريد والدراجة ، وكل شيء في  حياتنا. نستعرض هذه الاشياء ثم نسائل انفسنا: لماذا لم نستطع الاسهام في حركة الصناعة والتقنية التي يعج بها العالم الحديث ، حتى على مستوى اضافة عصا الى المكنسة ، فضلا عما فوقها. 

المرحوم مالك بن نبي
 ركز مالك بن نبي جل اهتمامه على ما يسميه بعالم الافكار ، اي الذهنية التي توجه رؤيتنا لأنفسنا ولما حولنا من بشر وأشياء. وهو يعتقد ان تقدم المجتمعات وتأخرها ناتج مباشر لتلك الذهنية. امهاتنا اللاتي كابدن الآلام مع المكانس القديمة ، لم تنظر احداهن في الفكرة الكامنة خلف هذا الشيء. 

المكنسة تشكيل مادي ، لكنها قبل ذلك ، فكرة. من ينظر اليها على هذا النحو ، ربما يتقدم خطوة في اتجاه تفكيك الفكرة ، ثم اعادة تركيبها على نحو أرقى من صورتها الأولى. اما الذي ينشغل بالشيء ذاته ، باستهلاكه واستعماله ، فسيبقى مجرد زبون في السوق. لم نفكر سابقا في المكنسة ، لذلك مازلنا نشتريها جاهزة من الخارج. لم نفكر ايضا في الفكرة الكامنة وراء السيارة والهاتف والحاسب ، ولذا سنواصل التعامل معها كمستهلكين ومع صانعيها كزبائن دائمين. 

لعل بيننا شبان نابهون التفتوا الى هذه المسألة. ولعل بعضهم أراد العبور من "الشيء" الذي يستعمله الى "الفكرة" التي وراءه. ربما كانوا قادرين على ذلك. من المؤكد ان بعضهم ذكي بما يكفي لابداع شيء جديد. لكنه على الاغلب لن يأتي بجديد. لأن محيطه الاجتماعي سيقنعه بأن الامر لا يستحق. لو كان الجو مشجعا لكنا نصنع اليوم كثيرا مما نحتاج ، تماما مثلما فعل الاخرون الذين سبقونا في هذا المضمار.

ثمة أوهام شائعة بيننا ، نتداولها كمسلمات. وهي مسؤولة الى حد ما ، عن كبح محاولات المبدعين وتثبيطهم ، اوهام من قبيل اننا عاجزون عن الابداع لأن تعليمنا ضعيف قياسا لما يملكه الغرب. وأوهام من نوع أننا لا نملك المال الكافي ، وكل شيء يحتاج الى مال. وأوهام مثل أن الغرب لن يسمح لنا بالاستغناء عنه.

ذهنية الكسل والاستحالة التي تحول هذه الاوهام الى مسلمات ، هي السر الذي جعلنا لا نستثمر التعليم ، رغم مرور قرن على بدايته ، وحصول مئات الالاف على تعليم جامعي ، وانفتاح المجتمع على كل جديد في العلم والتقنية.
الابداع العلمي والصناعة رهن بتوفر ذهنية مختلفة ، ذهنية معاندة للمألوف وجريئة على اختراق جدار المسلمات والاوهام التي تبرر التأخر بقلة العلم او المال او هيمنة الاجانب.

لقد قيل الكثير عن التعليم وتطويره. والذي أرى ان التطوير الذي نحتاجه ، هو ذلك الذي يسهم في تكوين ذهنية ناقدة متمردة ، قادرة على التشكيك في المسلمات. قيل الكثير أيضا عن تطوير الاعلام والمنابر. والحق ان التطوير الذي نحتاجه اليوم ، هو ذلك الذي يسهم في اقناع اجيالنا الجديدة بان جوهر الفضيلة يكمن في المغامرة وكشف الغيب واقتحام المجهول.
الشرق الاوسط - الأربعاء - 18 رجب 1439 هـ - 04 أبريل 2018 مـ رقم العدد [14372]

 

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...