22/06/2005

العلاقة الاشكالية بين السوق والسياسة

 مع الانتعاش الاقتصادي ياتي عادة ارتخاء اجتماعي و- بالتبع – سياسي وامني. وتلك لعمري  فضيلة للسوق لا تنكر . ثمة اتفاق بين الباحثين في مجال التنمية السياسية على العلاقة الوثيقة بين النشاط الاقتصادي والاستعداد النفسي للتوافق عند الافراد. في تحليله للعوامل الكامنة وراء ثورة الشباب في فرنسا في العام 1968 اعتبر رشدي فكار ، عالم المستقبليات العربي ، الأمل في المستقبل دافعا هاما للميل الى التوافق عند جيل الشباب . وبعكسه فان الياس من المستقبل هو الحلقة التي يتولد فيها قلق الوجود ويتطور الى اغتراب روحي وثقافي ، يسلب من الشاب قدرته على التفاهم ، ويعزز ميله الى العبثية والتمرد على النظام الاجتماعي . حينما تكون السوق نشطة ، فانها تقدم للناس جميعا فرصة سهلة لتجربة النجاح من خلال النظام القائم ، اي من خلال الاندماج فيه والاقرار بضروراته

لكن يجب ان لا ينخدع المخططون بفاعلية السوق ، فهي بطبعها مؤقتة ، تدوم فترة ثم يتلاشى تاثيرها في اطار الحراك الطبيعي بين الاجيال المتعاقبة . يساعد انتعاش السوق على امتصاص او تحييد جانب المنازعة في النفس البشرية ، لكنه يغذي في الوقت نفسه الرغبة في تحقيق الذات . فبعد ان يحصل الانسان على حد معقول من الكفاية المادية ، فانه يسعى وراء الكفاية النفسية ، التي تتراوح بين اعادة صياغة الانتماء الاجتماعي في حدها الادنى وصناعة البيئة الاجتماعية التي يراها مناسبة في حدها الاعلى . وفي كلا الحالتين ، فان الفرد في هذه المرحلة ، يبحث عن دور يلعبه في النظام الاجتماعي ، دور يحقق من خلاله طموحه الطبيعي في الارتقاء من مجرد رقم بين ملايين الارقام الى فاعل يشار اليه بالبنان.

تاثير المعيشة ، نوعيتها ومصادرها ومستواها ، على روحية الانسان وميوله الثقافية وخياراته الاجتماعية اصبح اليوم من المسلمات في دراسات التنمية . وتدل التجارب المسجلة لمجتمعات عديدة على ان تبلور الطبقة الوسطى – في تعريفها الاقتصادي على اقل التقادير – قد ادى فعليا الى تغيير المقومات الاساسية للنظام الاجتماعي ، اي قيمه المعيارية ، ونظام العلاقات السائد ، وتعريف المصالح الخاصة والمشتركة بين اعضائه . في الحقيقة فان ابرز علامات ذلك التغيير هو ظهور قوى اجتماعية جديدة مختلفة – بل ومعارضة في اكثر الاحيان للقوى القديمة السائدة - في ثقافتها وقيمها والاساس الذي تقوم عليه العلاقات بين اطرافها . ويوجب هذا التغير ، تغييرا موازيا في الاطارات القانونية والاجتماعية كي تستوعب الوافدين الجدد كي لا يتحول وجودهم الى عامل ازمة في النظام الاجتماعي

ينظر علماء الاجتماع الى الطبقة الوسطى باعتبارها وسيط التغيير الاجتماعي . تتمايز الطبقة الوسطى عن غيرها بعاملين متعارضين : فهي من ناحية تملك القدرة الثقافية على نقد الوضع الراهن والتفكير في البدائل ، وهي من ناحية اخرى تواجه ضيقا في الخيارات المتاحة لتحقيق رغباتها ، واخص بالذكر الرغبات التي لا تتعلق حصرا بالجانب المعيشي . تتحول هذه الرغبات الى عوامل ازمة في حال كانت اطارات التعبير عن الاراء والافكار ضيقة ، وكان النفوذ الاجتماعي محتكرا من جانب الطبقات الاجتماعية التقليدية . في هذا الاطار فان النشاط الاقتصادي يلعب دورا معاكسا لدوره الاول المشار اليه ، فهو يعزز من ايمان الطبقة الوسطى بقدراتها ، ويوفر لها الادوات المادية على صناعة دورها البديل عن ادوار الطبقات التقليدية .
لا يمكن في الحقيقة الحيلولة دون تحول الطبقة الوسطى الى عامل تفكيك للنظام الاجتماعي . الشيء الوحيد الممكن هو ادارة هذا التفكيك ، اي السماح بتغيير ضمن اطارات محددة ومسيطر عليها . وقد التفت الى هذا المعنى المفكر الامريكي المعروف صمويل هنتينجتون ، الذي وجد ان تجاهل التغيير الناتج عن التغير الاقتصادي ، مثل تركه من دون ادارة ، هو سبيل حتمي الى ما يصفه بالتعفن السياسي او الفوضى .

خلاصة الموضوع ، ان تحسن الاحوال المعيشية بسبب النشاط الذي تشهده السوق ، هو عامل هام في امتصاص مصادر التوتر الذي شهدته البلاد في اوقات سابقة . من هذه الزاوية ، فان امامنا فرصة لاستثمار هذا الارتخاء في اصلاح النظام الاجتماعي ، ولا سيما توسيع قنوات النشاط والتعبير عن الراي والتعبير عن الذات . هذا الارتخاء مؤقت بطبعه ، فكما ان الاقتصاد يلعب في مرحلة معينة دور المثبط لجانب المنازعة ، فانه يلعب في مرحلة اخرى دور المحرك لارادة المشاركة في الحياة العامة عند الافراد . ينبغي ان نوفر الوسائل المناسبة لتاطير وتنظيم هذه المشاركة كي لا تتحول المطالبة بها الى عامل ازمة جديد. لا مفر من التغيير ، والاولى حينئذ ان نجعله تغييرا نوعيا في اطار النظام ، والا فان تجاهل هذه الضرورة ، عاقبته فوضى لا نعلم اين تنتهي.

 12 ديسمبر 2005



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...