لكن يجب ان لا ينخدع المخططون بفاعلية
السوق ، فهي بطبعها مؤقتة ، تدوم فترة ثم يتلاشى تاثيرها في اطار الحراك الطبيعي
بين الاجيال المتعاقبة . يساعد انتعاش السوق على امتصاص او تحييد جانب المنازعة في
النفس البشرية ، لكنه يغذي في الوقت نفسه الرغبة في تحقيق الذات . فبعد ان يحصل
الانسان على حد معقول من الكفاية المادية ، فانه يسعى وراء الكفاية النفسية ، التي
تتراوح بين اعادة صياغة الانتماء الاجتماعي في حدها الادنى وصناعة البيئة
الاجتماعية التي يراها مناسبة في حدها الاعلى . وفي كلا الحالتين ، فان الفرد في
هذه المرحلة ، يبحث عن دور يلعبه في النظام الاجتماعي ، دور يحقق من خلاله طموحه
الطبيعي في الارتقاء من مجرد رقم بين ملايين الارقام الى فاعل يشار اليه بالبنان.
تاثير المعيشة ، نوعيتها ومصادرها
ومستواها ، على روحية الانسان وميوله الثقافية وخياراته الاجتماعية اصبح اليوم من
المسلمات في دراسات التنمية . وتدل التجارب المسجلة لمجتمعات عديدة على ان تبلور
الطبقة الوسطى – في تعريفها الاقتصادي على اقل التقادير – قد ادى فعليا الى تغيير
المقومات الاساسية للنظام الاجتماعي ، اي قيمه المعيارية ، ونظام العلاقات السائد
، وتعريف المصالح الخاصة والمشتركة بين اعضائه . في الحقيقة فان ابرز علامات ذلك
التغيير هو ظهور قوى اجتماعية جديدة مختلفة – بل ومعارضة في اكثر الاحيان للقوى
القديمة السائدة - في ثقافتها وقيمها والاساس الذي تقوم عليه العلاقات بين اطرافها
. ويوجب هذا التغير ، تغييرا موازيا في الاطارات القانونية والاجتماعية كي تستوعب
الوافدين الجدد كي لا يتحول وجودهم الى عامل ازمة في النظام الاجتماعي .
ينظر علماء الاجتماع الى الطبقة الوسطى
باعتبارها وسيط التغيير الاجتماعي . تتمايز الطبقة الوسطى عن غيرها بعاملين
متعارضين : فهي من ناحية تملك القدرة الثقافية على نقد الوضع الراهن والتفكير في
البدائل ، وهي من ناحية اخرى تواجه ضيقا في الخيارات المتاحة لتحقيق رغباتها ،
واخص بالذكر الرغبات التي لا تتعلق حصرا بالجانب المعيشي . تتحول هذه الرغبات الى
عوامل ازمة في حال كانت اطارات التعبير عن الاراء والافكار ضيقة ، وكان النفوذ
الاجتماعي محتكرا من جانب الطبقات الاجتماعية التقليدية . في هذا الاطار فان
النشاط الاقتصادي يلعب دورا معاكسا لدوره الاول المشار اليه ، فهو يعزز من ايمان
الطبقة الوسطى بقدراتها ، ويوفر لها الادوات المادية على صناعة دورها البديل عن
ادوار الطبقات التقليدية .
لا يمكن في الحقيقة الحيلولة دون تحول
الطبقة الوسطى الى عامل تفكيك للنظام الاجتماعي . الشيء الوحيد الممكن هو ادارة
هذا التفكيك ، اي السماح بتغيير ضمن اطارات محددة ومسيطر عليها . وقد التفت الى
هذا المعنى المفكر الامريكي المعروف صمويل هنتينجتون ، الذي وجد ان تجاهل التغيير
الناتج عن التغير الاقتصادي ، مثل تركه من دون ادارة ، هو سبيل حتمي الى ما يصفه
بالتعفن السياسي او الفوضى .
خلاصة الموضوع ، ان تحسن الاحوال
المعيشية بسبب النشاط الذي تشهده السوق ، هو عامل هام في امتصاص مصادر التوتر الذي
شهدته البلاد في اوقات سابقة . من هذه الزاوية ، فان امامنا فرصة لاستثمار هذا
الارتخاء في اصلاح النظام الاجتماعي ، ولا سيما توسيع قنوات النشاط والتعبير عن
الراي والتعبير عن الذات . هذا الارتخاء مؤقت بطبعه ، فكما ان الاقتصاد يلعب في
مرحلة معينة دور المثبط لجانب المنازعة ، فانه يلعب في مرحلة اخرى دور المحرك
لارادة المشاركة في الحياة العامة عند الافراد . ينبغي ان نوفر الوسائل المناسبة
لتاطير وتنظيم هذه المشاركة كي لا تتحول المطالبة بها الى عامل ازمة جديد. لا مفر
من التغيير ، والاولى حينئذ ان نجعله تغييرا نوعيا في اطار النظام ، والا فان
تجاهل هذه الضرورة ، عاقبته فوضى لا نعلم اين تنتهي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق