لاسباب شتى انضم تطبيق الشريعة الى
قائمة المواد التي يتصارع حولها السياسيون في العالم العربي ، شأنها في ذلك شأن
قضايا كثيرة ، بعضها مصنف كضرورة يومية ، مثل توفير الخبز والكرامة ، وبعضها اقرب
الى الاحلام منه الى الاهداف العملية ،
مثل الوحدة الشاملة والنهوض الحضاري .
ويبدو
لي ان الاطراف التي تتصارع حول تطبيق الشريعة ، مستفيدة كلها بصورة او باخرى من
اعلان مواقفها ، بغض النظر عن مقدار ما يبذله هذا الطرف في العمل لتطبيق الشريعة ،
او ما يبذله ذاك لاعاقتها ، ولذلك فلا ينبغي لنا ان نتوقع انتهاء هذا الجدل بحوار
بين الطرفين ، او بجولة مساع حميدة يبذلها اهل الخير من المصلحين ، كما لا ينبغي
ان نتوقع هزيمة احد الطرفين بالضربة القاضية ، فلا انتصار الذين يسعون الى تطبيق
الشريعة ، سيوقف الطرف الاخر عن المعارضة ، ولا معارضة هذا الطرف سيثني الاسلاميين
عن هدفهم .
في ايران مثلا التي اقامت نظامها السياسي على هذه القاعدة
، لا يزال الجدل محتدما حول معاني التطبيق المستهدف ، وثمة بين الايرانيين ـ ومنهم
علماء بارزون ـ من يشكك في اسلامية بعض التطبيقات ، ومثل ذلك ماوجدناه في السودان
التي تتبنى حكومتها رسميا تطبيق الشريعة ،
والتي نالت بعض سياساتها نقدا من جانب قادة حركات اسلامية وعلماء في الشريعة .
وعلى الجانب الثاني وجدنا
الاقطار التي شنت حكوماتها حربا على الاسلاميين ، قد ابتليت اكثر من غيرها
بالفتن ، وتحول الجدل اللفظي الى حوار بالرصاص ، فلا انتصار الاسلاميين هناك اخرج
منافسيهم من الحلبة ، ولا قمعهم هنا عاد على هؤلاء بالاستقرار والسلامة ، واستحضر هنا اشارة الامام علي بن
ابي طالب الى هذا المعنى ، حين اقترح بعض اصحابه تصفية الخوارج الذين تمردوا عليه
في معركة صفين ، فوبخه الامام قائلا (انهم ـ الخوارج ـ لا يفنون ، انهم لفي اصلاب الرجال وارحام
الامهات الى يوم القيامة) (ابن ابي الحديد ، شرح نهج البلاغة 3/128) وقد اظهرت
تجارب البشرية على امتداد تاريخها الطويل ، ان الصراع ـ ولاسيما صراع الافكار ـ لا
يتوقف ، بل يستبدل العناوين بحسب اختلاف المراحل ، واختلاف توجهات الناس في ميدانه .
الهروب
من التفصيل
يتضح من مجريات الجدل حول تطبيق
الشريعة ان اطرافه يدورون ـ غالبا ـ حول العناوين العامة والكليات ، ومن المهم ـ
لتصحيح مسار الجدل ـ نقل الجدل حول
الموضوع المطروح للنقاش الى تفاصيله ،
فالذين يدعون الى تطبيق الشريعة مطالبون ببيان مواقفهم التفصيلية ، كاطراف
سياسية ، من كل قضية راهنة ، وعرض البدائل التي يقترحونها ، كما ينبغي للذين
يعارضون هذا الطرح عرض الادلة على اضراره وفائدة الطروحات التي يقترحونها .
وتظهر اهمية الخروج من مقام الكليات
الى مقام التفصيل ، في علاقة الجمهور بكل من طرفي الصراع ، فالاقتصار على العناوين
العامة يستثير حماسة الشارع مع هذا الطرف او ذاك ، لكنه ـ الى جانب الحماسة ـ
يغتال الوعي او يحجّمه على الاقل ، ويحول الاستقطاب من محور الافكار والبرامج الى
محور الشخص والجماعة ، وفي احيان قليلة الى الشعار الغامض المعاني والانعكاسات ،
وهو بهذه الممارسة يعزز اسلوبا من الاحتيال السياسي ، اشتهر في العالم العربي وادى
الى سرقة طموحات الناس ، او تزييف اهتماماتهم ، بابعادها عن حقوقهم العاجلة الى
امانيهم القابلة للتاجيل ، ولازلنا نتذكر ان شعارات مثل (كل شيء من اجل المعركة) و
( ... من المحيط الهادر الى الخليج الثائر) قد ساعدت في تطبيع ـ ومن ثم تشريع ـ
سيطرة العساكر على الحياة السياسية في العالم العربي كله ، كما ان شعار (حماية
البوابة الشرقية للوطن العربي ) كان تمهيدا لقرار تدمير العراق والكويت معا ، قرار
التدمير الذي جرف في طريقه ايضا الكثير من الثوابت والمفاهيم والمشاعر ، التي
طالما كانت رهانا للعرب ورأسمال يعتدون به ، وقد جرى في كل الاحوال الغاء الشعب
وحقوقه ودوره ، تحت مبررات مماثلة ، او تحت شعار اولوية الامن والاستقرار .
ولهذه الاسباب وغيرها فان يصعب بناء
علاقة تفاعل ايجابي بين الجمهور والنخبة السياسية ، احزابا او شخصيات ، اذا كانت
دعوة هذه النخبة ستقتصر على الشعارات العامة في عملها السياسي .
اذا كان الحزب الفلاني يريد اقامة الديمقراطية
من اجل الناس وليس من اجل نفسه ، واذا كان الحزب العلاني يريد تطبيق الشريعة من
اجل الدين وليس التسلط ، فانه ينبغي لكل منهما ان يخبر الناس بالتفصيل عن السياسات
التي يسعى لتحقيقها ، وعن الحلول التي يريد يريد تطبيقها ، واذا كان غيرهم يعارض تطبيق الشريعة لسبب ما ، او يرى في
الديمقراطية والشورى عبئا على اقتصاد البلاد او خطرا على استقرارها ، فليعرض
بدائله ، وليعلن عن تفاصيل برنامجه ومعالجاته المقترحة للمشاكل التي يدعي القدرة
على حلها ، وليبين تميزها عن تلك التي يعارضها
، بدلا من فرض صورته
الشخصية او اشغال الناس بالعناوين العامة والشعارات .
الراي العام 25 اكتوبر1996