‏إظهار الرسائل ذات التسميات تجارة العبيد. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات تجارة العبيد. إظهار كافة الرسائل

11/01/2023

نقاشات بلا فائدة


لا أرى فرصة للنقاش المفيد بين المدافعين عن النسخة التقليدية من الدين وبين دعاة التنوير/الحداثة. ينتمي كل من الفريقين الى نظام معرفي وقيمي ، مختلف تماما عن الآخر. يتمثل دعاة التنوير روح العصر وفلسفته ، وينفتحون على مصادر المعرفة فيه ، بل ربما وضعها بعضهم في مرتبة مساوية لمرتبة الوحي ، لأن العقل عندهم مصدر مستقل للقيم والتشريع. يعتقد هؤلاء ان المهمة الكبرى للاسلام المعاصر ، هي تقديم نموذج ايماني قادر على استيعاب حاجات الزمان وتحدياته ، نموذج قابل للحوار والتفاهم مع التيارات الروحية والايديولوجيات السائدة في عالم اليوم.

خلافا لهذا فان الفريق التقليدي يرفض كليا فكرة المساواة بين العقل والقرآن في التشريع وإنتاج القيم ، ويعطي المكانة الثانية للسنة النبوية. مكان العقل – عندهم - هو خدمة الكتاب والسنة ، ليس موازيا لهما ولا مستقلا عنهما. أما المهمة الكبرى للمجتمع الإسلامي المعاصر ، فهي حماية أبنائه من تأثير الحضارة الغربية الغالبة. هذا المنظور الدفاعي انعكس على شريحة واسعة جدا من النتاج الفكري والفقهي لهذا الفريق ، فبات ميالا بشدة الى التبرير والدفاع ، بدل النقد الذاتي الضروري للتطور.

هذه المنطلقات تعني ان كلا من الفريقين يفكر بطريقة مختلفة ، ويتحدث بلغة لا يمكن للفريق الآخر ان يتقبلها ، لأنها تعارض ما يعتبره بديهيا من بديهيات منهجه. الحقيقة ان الطرفين لا يديران نقاشا معمقا في المباديء الرئيسية والارضية الفلسفية التي يقف عليها كل منهما ، نقاش ربما أثمر عن تعديل في رؤيتهما العامة. تبدأ النقاشات دائما في التفاصيل والفروع ، وقد تصل الى المباديء العامة ، لكنها في الغالب تواصل الدوران حول الفروع.

تجري الأمور عادة على النحو التالي: يطرح التنويريون/الحداثيون فكرة صادمة للعرف السائد ، مثل تشكيك المرحوم د. محمد شحرور في مشروعية تعدد الزوجات وتفسيره الجديد لآيات الإرث. وكلا الفكرتين تعارض حديا الموروث الديني ، بما فيه أحاديث تنسب للنبي ، واجتهادات كبار الفقهاء ، من قدامى ومحدثين.

ردا على هذا ، يقدم المدافعون عن الموروث الديني مرافعات تعيد التذكير بأصول فكرتهم ، وتنفي سلامة الاجتهادات المذكورة ، كما تشكك في أهلية صاحب الفكرة للاستدلال والتوصل الى احكام أو حقائق شرعية.

لا تناقش هذه الردود أدلة التنويريين ، بل تستعين بنفس الأدلة التي سبق استعمالها في دعم الرؤية الموروثة. لكن التنويريين يعرفون هذه الرؤية وقد رفضوها سلفا. وهكذا نجد أنفسنا امام الحالة التي تسمى أحيانا حوار الطرشان: كلا الطرفين يطرح أدلة يرفضها الثاني من حيث المبدأ ، فلا يناقشها. فكان الطرفين يتحدثان في عالمين مختلفين ، لا احد منهما يسمع قول الآخر.

الواقع اننا نتحدث فعلا عن عالمين فكريين متمايزين ، لكل منهما ارضيته ومبرراته الفلسفية ومنطلقاته وفرضياته وأدوات نقده ، وهو مختلف تماما عن العالم الآخر. ولهذا لا توجد قاعدة معيارية واحدة او ميزان علمي مشترك ، يمكن الاعتماد عليه في الموازنة بين الرأيين أو أدلتهما. هذه يشبه المقارنة بين قصيدة عربية وأخرى انجليزية... هل تراه ممكنا؟. بالطبع لا ، لأن القصيدتين تنتميان الى عالمين مختلفين في الصور والتعبيرات والسياق ، بحيث لا نستطيع القول ان هذه افضل من تلك او اجمل او اصح.

-         هل ينبغي ان نأسف لاستحالة اطلاق حوار  يؤدي الى توحيد التيارين ، او تقليل الخلافات بينهما؟.

في رأيي ان الأمر لا يستدعي الأسف. من المفيد ان ننظر للجانب الحسن في الجدالات الساخنة. ان محاولة كل من الطرفين فرض رأيه ، سوف تدفع الطرف الآخر الى تقوية استدلالاته وتعميق الأفكار المطروحة للنقاش. لو سكت الجميع حفظا لوحدة الموقف ، فسوف لن يستفيد أحد. المناقشة هي التي تولد رؤى جديدة ، تعلم الناس وتوسع آفاق المعرفة.

الأربعاء - 18 جمادى الآخرة 1444 هـ - 11 يناير 2023 مـ رقم العدد [16115]

https://aawsat.com/home/article/4091671/

مقالات ذات علاقة

 

 الاستدلال العقلي كاساس للفتوى

تأملات في حدود الديني والعرفي

تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة

جدالات ما بعد شحرور

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

الحداثة تجديد الحياة

الحداثة كحاجة دينية

 الحداثة كحاجة دينية (النص الكامل للكتاب)

حول الفصل بين الدين والعلم

حول المسافة بين الدين والمؤمنين

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دور الراي العام في التشريع

سؤال الى البابا

في ذكرى محمد شحرور- اسئلة اليوم غير اسئلة الامس

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

كيف نتقدم.. سؤال المليون

ما الذي يجعل محمد شحرور مختلفا وبغيضا أيضا

ماذا يختفي وراء جدل العلاقة بين العلم والدين

مرة اخرى : جدل الدين والحداثة

المعنوية ، حيث تلتقي جميع الرسالات

المكنسة وما بعدها

من المناكفة الى النهضة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

النقد الأخلاقي للتراث: مجادلة أولى

هكذا تحدث محمد شحرور

هيروهيتو ام عصا موسى؟

الوحدة الاوربية "آية" من آيات الله

 


09/02/2022

النقد الأخلاقي للتراث: مجادلة أولى

 

ذكرت في مقال الاسبوع الماضي ان الأفعال قد تكون حسنة في زمن وقبيحة في زمن آخر. وضربت مثلا بفتوحات المسلمين القديمة. وقلت ان الفكرة نفسها قابلة للتطبيق على الروايات التي تحكي حياة تلك الحقبة ، بما فيها روايات عن النبي والصحابة.

ولم تجد هذي الفكرة هوى عند بعض القراء الأعزاء. فجادلوا بأن الحسن أو القبح لا يمكن ان يختلف. فهل يمكن وصف الظلم يوما بأنه حسن ، أو وصف العدل بأنه قبيح.. وهل يختلف حسن العدل وقبح الظلم بين الحاضر والماضي؟.

رسم تخيلي عن سوق الرقيق القديمة

جوابي على هذا ان للفعل حالتان: حالة ذهنية تصورية مجردة ، وحالة فعلية تطبيقية. فالعدل النظري المجرد لا خلاف فيه ، بل في تطبيقه على حدث بعينه. دعنا نأخذ مثالا بالعبودية التي تداولها اسلافنا كفعل عادي لا كظلم قبيح ، مع انها تعد الآن من اقبح التصرفات. فلو سألت شخصا ، من أي دين او بلد ، عن رأيه في استعباد الناس ، فهل سيجيبك بأنه فعل حسن وعادل ، وانه يتقبل ان يكون عبدا لشخص آخر ، وأن تكون زوجته أمة لذلك الشخص؟. اعلم ان احدا لن يرضى بهذا.

لكن تجارة العبيد واقتناءهم كانت متاحة ومباحة في الماضي ، في بلاد المسلمين وغيرها. وكانت قوافل السبايا جزءا ثابتا في غنائم الحروب. ويندر ان تجد بين السلف رجلا ذا مال ، وليس عنده عبيد وإماء ، بمن فيهم الخلفاء والائمة والعلماء ، فضلا عن سائر الناس. ولذا حوت اغلب كتب الفقه القديمة بابا خاصا بأحكام الرقيق ، احكام بيعهم وشرائهم واقتنائهم ، والاحكام الخاصة بهم والتي تختلف عن الاحكام الخاصة بالأحرار ، نظير حجاب الاناث وزواجهن ، ونظير دية القتيل وإرث الميت.. الخ.

فهل سنشجب فعل أسلافنا وصناع تراثنا ، أم نتهمهم بالجهل او ضعف المشاعر الإنسانية؟. واذا قررنا ان فعلهم خاطيء وذميم ، فهل سنقبل اجتهاداتهم ومروياتهم ، أي مساهمتهم في التراث وعلوم الشريعة التي نعتمدها حتى اليوم؟.

اعلم ان بعض القراء سيقول مثلا ان التشريعات الخاصة بالعبودية صيغت على نحو يقلصها حتى ينهيها. ويقال هذا عادة في سياق التبرير  لفعل الاسلاف. لكن الذي حدث في الواقع هو  ان الرق في بلاد المسلمين تلاشى نتيجة لتطور مفاهيم حقوق الانسان ، لاسيما عقيب الحرب العالمية الأولى. واذكر  "اتفاقية تحريم الرق" التي تبنتها "عصبة الأمم" سنة 1926. ومن ثمارها انك لا ترى رجلا او امرأة يباعون في السوق ، كما كان الحال قبل ذلك التاريخ.

لم تعد العبودية اذن فعلا عادلا او مقبولا عند الناس والقانون. وتبعا لهذا فلو صرح فقيه او زعيم سياسي بأنه يريد احياءها ، لان الشرع (كان) يقبلها في الماضي ، لهاج المسلمون وماجوا منكرين ، ولأفتى فقهاء آخرون ضد هذه الدعوة التي ، فوق قبحها ، مسيئة للمسلمين ودينهم.

لا نحتاج في الحقيقة الى ادانة فعل الاسلاف ، ولا القول بان الرق امر طيب. الرق كان منذ البدء فعلا قبيحا ، بل هو ناقض لحرية الاختيار الضرورية لتوحيد الخالق سبحانه. لكن هذا القول بذاته ، أي اعتبارنا ان الرق قبيح ، هو فكرة جديدة ، تبناها البشر بعدما تطورت معارفهم وشعورهم بذاتهم الفردية. وهذا كله ثمرة لهيمنة العلم على مجالات الحياة.

وقد تأثرنا بهذا الاتجاه بعد اندماجنا في اقتصاد العالم وثقافته. ولو كنا منعزلين مثل كوريا الشمالية ، فلربما تقبلنا ممارسات شبيهة بالرق. اندماجنا في اقتصاد العالم لا يغير معيشتنا فقط ، بل أيضا يطور فهمنا لذاتنا وتكويننا الثقافي وهويتنا الفردية. هذا التطوير ينعكس على شكل إعادة تقييم للافعال والاشياء ، وإعادة صياغة لمنظومات القيم والمعايير ، التي نستعملها في التعامل مع الأفكار والعناصر المادية ، في محيطنا الطبيعي والاجتماعي.

 الأربعاء - 8 رجب 1443 هـ - 09 فبراير 2022 مـ رقم العدد  [15779] https://aawsat.com/node/3463796       /

مقالات ذات صلة

 الاستدلال العقلي كاساس للفتوى

تأملات في حدود الديني والعرفي

جدل الدين والتراث ، بعد آخر

حول الفصل بين الدين والعلم

حول المسافة بين الدين والمؤمنين

حول تطوير الفهم الديني للعالم

في معنى "الدروشة" وتطبيقاتها

كيف نتقدم.. سؤال المليون

المكنسة وما بعدها

هيروهيتو ام عصا موسى؟

حول النقد الأخلاقي للتراث ‏

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...