12/09/2018

حول المسافة بين الدين والمؤمنين

د. مسفر القحطاني
د. مسفر القحطاني
الصديق د. مسفر القحطاني من أكثر علماء السعودية اهتماما بفقه المقاصد. وله في هذا الباب عدة كتب وعشرات المقالات ، التي تؤكد اهتمامه العميق بتجديد الفكر الديني ، وتمرسه في البحث والاستدلال.
وقد لفت نظري في مقالته المعنونة "المتحدثون باسم الدين وهيبة الاوهام (الحياة 1سبتمبر 2018) ما ظننته الحاحا على الفصل بين الدين والتدين ، بين النص المقدس وتطبيقاته في حياة المؤمنين. ركز القحطاني نقده على ما أسماه "المتاجرة بالمقدسات". وقال ان كل الاديان عانت من هذا. لكنه ميز بين الاديان القديمة التي ضاعت نصوصها الاصلية او تغيرت ، بسبب اجتهادات مفرطة ،  أدت لاستثمار المقدس في قضايا دنيوية بحتة ، وبين الاسلام الذي احتفظ بنصه الاصلي ، رغم ان الافهام والاجتهادات التي قامت حوله ، قد ذهبت به كل مذهب.
المؤكد ان كلا منا قد قرأ او سمع يوما ، القول الذي فحواه ان الاسلام ليس مسؤولا عن اخطاء المسلمين ، وأن ما يعاب عليه ، ينصرف الى فهم المسلمين له وتطبيقهم الناقص لتعاليمه.
لاخلاف من حيث المبدأ على وجود مسافة بين النص الديني ، وبين فهم الناس له. هذا الفهم هو خلاصة العوامل المؤثرة في تفكير البشر في لحظته. وتتضمن مستخلصات تجربتهم الثقافية ، ظرفهم السياسي والاقتصادي ، توقعاتهم ورغباتهم ومخاوفهم. وهي تندرج جميعا تحت ما اسماه  الفيلسوف المعاصر هانس جورج غادامر بالافق التاريخي.
نحن إذن نتفهم حقيقة وجود مستويين: نص مجرد وسابق على كل فهم ، ونص تحول الى مفهوم وتطبيق في الحياة اليومية للمؤمنين ، ونسميه عادة "التدين" لتمييزه عن "الدين" ، الذي ننسبه الى المستوى الاول.
لطالما سألت نفسي عن صحة الربط بين هذه الحقيقة ، وبين الالحاح على اتخاذها مبررا لكل عيب ، كلما اثير نقاش حول حكم شرعي ، او صحة رواية ، أو ملاءمة اجتهاد ما لمعايير العقل أو مستخلصات العلم. هذا التبرير ينطوي ضمنيا على ادعائين ، كلاهما مشكل: الأول ان فهم وتطبيق التعاليم الدينية جانب الصواب في احيان كثيرة ، بل ربما وصل في بعض الاحيان الى المتاجرة بالمقدس ، كما أشار د. مسفر. أما الادعاء الثاني فهو ان كثرة الخطأ في فهم الدين وتطبيقه ، ربما يشير الى انه في الاساس غير قابل للفهم والتطبيق الكامل.
أقول ان كلا الادعائين مشكل. لأن القبول بالاول يجرد حياة المؤمنين من أي قيمة ، ويضعهم على الدوام في الطرف المقابل لدينهم. اما القبول بالثاني فيجرد الدين من دوره كدليل لحياة اتباعه ، ويحوله الى يوتوبيا يستحيل انجازها في الحياة الدنيا مهما اجتهدنا.
ليس لدي حل معقول لهذا الاشكال. لكني لاحظت ان دعوى الفصل بين الدين والمتدينين ، تتكرر غالبا في سياق الانكار على من جادل نصا او أنكر صحته او اعترض على فهمه او سلامة الاعتماد عليه في وضع احكام شرعية. ونعلم ان لدينا الكثير من النصوص التي تعارض عرف العقلاء او نتائج العلم او نتائج التجربة التاريخية.
والذي أرى ان علينا تقبل النقاش في النص ، بدل الافراط في احالة المشكلات الى اخطاء المؤمنين او فهمهم الناقص. مجادلة النص لاتعني بالضرورة نقضه او رفضه. فقد يكون من ثمارها استنباط مفهوم جديد او رؤية مختلفة ، لم تتضح سابقا. وفي كل الاحوال فان آراء الناس وافهامهم محترمة كرأي علمي مرهون بزمنه. لكن احترامها لا يرفعها الى مستوى المقدس أو اليقيني.
الشرق الاوسط الأربعاء - 2 محرم 1440 هـ - 12 سبتمبر 2018 مـ رقم العدد [14533]
http://aawsat.com/node/1392606

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...