يقول زميلي ان الصحف ترغب في نشر التحقيقات عن الظواهر الغريبة ، لأن هذا النوع من المواد يستقطب قراء كثيرين ، وقبل القراء يأتي المعلنون ، فالصحيفة تهتم بالقاريء لأنه طريق إلى المعلن ، وليس ، على اغلب الظن ، من أجل توسيع نطاق الثقافة أو تعميمها ، لكني لاحظت ان شبكات التلفزيون قد لحقت هذه الايام بالصحافة: تلفزيون عجمان مثلا بث ندوة مطولة حول الطب الروحاني (الاسبوع الاول من مايو 99) (ولا اريد استعمال الاسم المتداول الذي يعرفه الجميع (العلاج بالقرآن ) وقبله بثت قناة الجزيرة برنامجا ، مهدت له باعلانات مفصلة طيلة اسبوعين ، حول عالم الجن والعفاريت ، وقد فهمنا السر في الاهتمام بالبرنامجين ، من كثرة الاعلانات التي تخللت عرضهما ، رغم ان تقديرهما العلمي لا يرتفع عن الصفر ، حتى لو استعملت اقوى الرافعات
.في ذينك البرنامجين وفي الكثير مما تنشره الصحافة تسمع سؤالا مكررا ، يستتبع جوابا لا يقل عنه سذاجة ..-
سؤال : ما رأيك في الجن أو وجود الجن ؟
-
الجواب: الجن مذكور في القرآن .
-
سؤال : هل السحر حقيقي؟
-
الجواب : السحر مذكور في القرآن .
وواضح ان غرض الاشارة إلى القرآن هنا هو تسويق
مجموع الفكرة ، الصحيح منه والخرافي .
ولأن الموضوع حقل الغام ، لا يأمن الكاتب من
غضب من تخشى غضبته ، لو قال فيه بخلاف المقرر ، فسوف اتجاوز الحديث عن ذات الموضوع
ورايي في قيمة الآراء التي يطرحها هواة هذه النوع من الاحاديث ، إلى مسألة أخرى
بعيدة قليلا عن الموضوع وبعيدة أيضا عن حقول الالغام .
يهتم الناس عادة بالأمور التي لها تأثير خاص
على حياتهم اليومية ، لكنهم يهتمون أيضا بالأمور الغامضة والغريبة ، لا لأنها ذات
تأثير عليهم ، بل لنوع من الفضول وحب الاستطلاع ، يولد رغبة جامحة لكشف الاسرار ،
بغض النظر عن فائدة هذا الكشف .
وتتبع وسائل الاعلام أساليب معروفة في تجارة
الاستعراض ، غرضها استقطاب اهتمام المتلقي ، ومن بينها ابراز مظاهر الغموض ،
بالتوازي مع وعد بمساعدة المتلقي على كشف السر .
وإذا
كانت اهتمامات العرب قد تركزت حتى الان على السحر والجن والعين والعلاج الروحاني ،
فثمة في الغرب من وسع اهتمامه إلى ما هو أبعد ، وتنشط في بريطانيا والولايات
المتحدة جمعيات للقادمين من الفضاء الخارجي ، يقول أعضاؤها انهم ينتمون إلى أقوام
تسكن كواكب خارج مجموعتنا الشمسية ، أو انهم التقوا بمخلوقات فضائية جاءت في سفن
فضاء أو صحون طائرة .
وثمة
جمعيات تعتني بالظواهر الغريبة التي يصعب تفسيرها ، ويبدو ان كثيرا من الناس هناك
قد اقتنعوا بوجود عوالم تطل علينا ، دون ان نعرف عنها شيئا ، وينقل د. عبد المحسن
صالح في كتابه (الانسان الحائر بين العلم والخرافة) الذي صدر ضمن سلسلة عالم
المعرفة ، ان كاتبا اميركيا هو تشارلز بيرلتز باع من كتابه المسمى (مثلث برمودا)
خمسة ملايين نسخة ، مما شجعه على إصدار كتاب مماثل بعد أقل من سنتين ، عنوانه (من
دون أثر) ولا شك ان رقم الخمسة ملايين كبير بكل المقاييس ، رغم ان مادة الكتاب
ليست سوى صياغات روائية ، فيها الكثير من الخيال وفن التشويق ، عن حوادث جرت فعلا
وأمكن تفسيرها بالطرق العلمية المعروفة ، لكن الكاتب أضفى عليها كثيرا من الاثارة
، بادعاء انها بقيت دون تفسير ، أو انها تضمنت أو ترافقت مع ظواهر موازية من النوع
الخارق أو المستحيل التفسير ، مثل حديثه عن سفينتين غرقتا في مثلث برمودا الشهير
ولم يعثر لهما على أثر ، بينما تقول سجلات شركة التامين ان كلا السفينتين غرقتا في
مكان يبعد مئات الاميال ، وان اسباب غرقهما معروفة تماما .
وعلى النسق ذاته اشتهر في البرازيل والفلبين
وبعض الاقطار الاسلامية اطباء روحانيون، يدعون القدرة على شفاء البدن من الامراض
بدء من قشرة الرأس وانتهاء بالسرطان ، ويدعي بعضهم القدرة على شفاء الام الروح ،
بدء من الاكتئاب وانتهاء بانفصام الشخصية، أو ما يسميه البعض تلبس الجن .
ونستطيع ان نفهم السر في الاهتمام الشديد لدى
الانسان بهذه الامور إذا كان مكتفيا ومرتاحا ، فالاكتفاء يولد شعورا بالفراغ
الداخلي ، ورغبة في السيطرة ، ويولد الشعور بالفراغ رغبة في الانشغال بشيء جديد
غير مألوف ، اما حب السيطرة فيولد حاجة إلى معاندة ما يبدو مستحيلا ، ومن بينها
كشف الاسرار والغوامض ، سيما وان هذا النوع من الكشوف ، لا يستدعي بذل جهد ولا مصارعة
عقبات .
لكني تساءلت دائما عن علة اندفاع الناس الذين
تطحنهم دواليب الحياة بلا رحمة ، إلى بذل المال والجهد والوقت بحثا وراء الجن
والعفاريت والسحر والفناجين والفال وما إلى ذلك ، ولاحظت ان هذه الامور اكثر
انتشارا في الطبقات الاجتماعية الفقيرة ، فهل لهذا دلالة خاصة ، هل هو تعبير عن
اليأس من الحلول المادية والعقلانية؟.
ثم تساءلت عن السبب الذي يجعل لهذه الاشياء
ظهورا متزايدا في اوقات معينة ، ثم غيابها عن واجهة الاحداث في أوقات أخرى ، فهل
لها علاقة بظروف اقتصادية أو اجتماعية محددة؟ .
عكاظ 11مايو 99