الثقافة هي الأداة التي
يتوسل بها المجتمع لتبرير حاجاته ، وبعض حاجات المجتمع لها طابع الثبات ، لكن
معظمها متغير ، بحسب تغير حياة الجماعة واتجاهات حركتها ، الحاجات الاجتماعية
الثابتة تقابلها مفاهيم ثابتة في الثقافة نسميها القيم أو الثوابت ، وثمة جدل لا
ينتهي حول اخضاع متغيرات الحياة الاجتماعية للثوابت والقيم أو تحريرها منها ، وتدل
التجربة على ان الانسان يميل بطبعه إلى توسيع نطاق الثوابت وبسط حاكميتها على
المتغيرات ، ولديه على هذا الميل حجة قوية ، فحواها ان اشتغال المتغيرات في إطار
الثوابت ، لا يعيق حركتها ولا يمنعها من التجدد والتغير ، لكنه يضمن استمرارية
المسار في خط مستقيم
.
ان الشرط الاول لتثبيت قيمة
معينة ، هو تجردها وتعاليها عن الموضوعات ذات الطبيعة الشخصية ، أو تلك التي هي
محل خلاف ، لكن القبول بالتثبيت ينطوي على مخاطرة ، ولا سيما في المجتمعات التي
تفتقر إلى الحياة الثقافية النشطة ، أو تلك التي تحولت فيها الثقافة إلى حرفة ،
تمارسها طبقة محدودة العدد دون بقية الناس ، ذلك ان محترفي الثقافة يرغبون في
تسويد القيم التي يتوصلون اليها ، ويميلون إلى تبنيها في وقت من الاوقات ،
باعتبارها عامة وثابتة ، في غفلة عن حقيقة ان الثقافة وقيمها _ مثل كل منتج بشري
آخر _ ذات طبيعة زمنية ومؤقتة ، ربما يطول بها الامد أو يقصر ، لكنها في كل
الاحوال واصلة إلى نقطة ينتهي عندها مفعولها أو فائدتها . ان استمرار تسويد قيمة
معينة بعد انتهاء زمنها أو نفاذ وقودها ، يعادل إلى حد كبير حكم الاموات على
الاحياء .
ويبدو لي ان جميع محترفي
الثقافة يعرفون هذه الحقيقة ، لكنهم في الوقت ذاته يخشون من تأثيرها السلبي على
قيمة منتجاتهم ، فتحديد زمن نهاية لفاعلية المنتج ، يفرض تحديد القيمة المادية أو
الاجتماعية لمن انتجه ، بينما يرغب المنتجون ، وبينهم منتجو الثقافة ، الحصول على
أكبر عائد ممكن من وراء عملهم ، وهنا يأتي دور التدعيم الخارجي ، حيث يستورد صانع
الثقافة رباطا من قيمة ثقافية أخرى متفق على تثبيتها ، فيربط بينها وبين ما ينتج ،
فتتحول القيمة الجديدة المحدودة زمانا ومكانا وفاعلية ، إلى فرع للقيمة العابرة
للزمان والمكان ، المتجردة عن التأثير الانعكاسي للفعل والتفاعل مع موضوعاتها .
وبالنسبة للمجتمعات المسلمة
فان القيم الدينية المطلقة هي المقصد الرئيسي لصانعي الثقافة ، ذلك ان هذه القيم
المتعالية تتمتع بالقبول العام والديمومة ، فضلا عن كونها جزء لا يمكن فصله من
الهوية الثقافية للمجتمع ، والذي يجري فعلا هو اختلاق خيط يربط المنتج الثقافي إلى
واحدة من القيم الدينية ، بغرض استثمار خصوصيات القيمة الدينية في تعزيز مكانة القيمة
الثقافية الجديدة ، وتحويلها من منتج علمي إلى منظور ايديولوجي . ونجد المثال
الواضح على هذا الربط المتكلف في التقاليد وبعض الخرافات ، التي تحولت إلى عناصر
ثابتة في ثقافة المجتمع ، بعد ان جرى وصلها بقيمة ما من القيم الدينية في أزمان
مختلفة ، وهو الأمر الذي أثار غضب الاصلاحيين والمجددين في مختلف الاوقات .
مثل هذا الربط المفتعل يجري
في كل المجتمعات ، ويشعر الذين يقومون به انه مبرر تماما ، ولعل الامر كذلك فعلا ،
لكن الذي لا يمكن تبريره هو استيراد خصوصية التعالي وعبور الحدود من القيمة
الدينية وضخها في خزان المنتج الثقافي ، هذه العملية قد تؤدي ، وهي قد أدت بالفعل
إلى تفريغ القيمة الدينية من مخزونها المعنوي الخاص ، وحولته إلى المنتج البشري في
بعض الاحيان ، ولدينا في العالم الإسلامي كثير من الناس حرفتهم الوحيدة هي بيع
الخرافة والتفريع عليها وتمديدها في كل اتجاه ، بعد ان ملأ خزانها بوقود ، يوهم
الناظر من بعد ، بأن ما ينظر اليه دين أو جزء من الدين ، وبالنسبة لهؤلاء فان ما
يهمهم حقا هو تسويق منتجهم الخاص وليس القيم الدينية كما هي في الاصل .
وفي المجتمعات المسيحية كان
أحد الاسباب للصراع بين العلماء والكنيسة ، هو محاولة رجال الكنيسة منع العلماء من
الاعلان عن نظريات علمية تخالف ما سبق تثبيته من جانبهم ، نحن نعلم ان الانجيل لم
يتضمن نصوصا حول كروية الارض ودورانها على سبيل المثال ، لكن اناسا قرروا ان الارض
مسطحة وثابتة ، وربطوا هذه النظرية بالانجيل ، فامتصت الوقود الايديولوجي والميزات
المعنوية للكتاب المقدس ، فأصبح المنتج البشري متمتعا بنفس خصوصياته ، فهو محمي ، مقدس ، متعال ، وعابر للزمان
والمكان .
عكاظ 2 يونيو 1999
مقالات ذات علاقة
-------------------