واجهت هذا التعبير خلال قراءة سابقة حول التحولات الاجتماعية ، وما يرافقها من تهميش للمفاهيم والقيم المؤثرة في حياة الجماعة. نعلم ان التغير في نفوس الناس يجري بسرعات متفاوتة: فالشباب اسرع تغيرا ، وأبناء الطبقة الوسطى المدينية أكثر عرضة للتغيير ، كما ان ثبات الهويات الموروثة او انحسارها ، رهن بسعة العوالم التي يطرقها الشباب ، حين يبحرون في فضاء الانترنت.
سالت نفسي عن معنى ان تكون الهوية سائلة؟ فتخيلت
هاتفا يقول لي: كيف تصورت عالما كاملا ليس له اي واقع مادي ، اسميته "الواقع
الافتراضي" ، ثم تستغرب سيولة الهوية؟. سمها ان شئت بالهوية الافتراضية ، اي
ذلك الوجود الذي لا يمكن تحديده في هيئة خاصة ، مع ان آثاره وتمثلاته تؤكد اهميته
وامتلاكه لكل ما تتصف به الحقائق المادية.
- ما الذي أثار هذا السؤال؟
- لقد كنت أتأمل في مايقوله الطلبة وآباؤهم عن تجربة التعليم عن بعد ، وكيف أصبح العمل على الانترنت روتينا يوميا لمئات الآلاف من الشبان والشابات. هذه التجربة فرصة نادرة للتامل في تحول ثقافي واجتماعي ، يجري امام اعيننا ، وربما تترتب عليه آثار مدهشة.
المدرسة هي محور التجربة ، لأنها الرمز الابرز للنظام الاجتماعي السائد ، بما فيه من ضوابط وتراتب وتصور عن الذات والحياة. كان يفترض ان تلعب المدرسة دور عامل التغيير للاجيال الجديدة ، لكن لاسباب مختلفة ، تحولت على يد آبائنا الى قناة لتثبيت التقاليد والقيم الموروثة ، أي نقل الثقافة السائدة في الفضاء الاجتماعي الى الاجيال الجديدة ، كي يواصلوا المسار الذي ورثه الآباء عن الاجداد.
نحن نحاول جعل ابنائنا صورا مكررة عنا. ولهذا نشعر
بالسخط اذا وجدنا سلوكهم مفارقا لما الفناه. ولعل بعض القراء يتذكر غضب المعلمين من
الملابس غير المألوفة وقصات الشعر الغريبة عند الطلبة ، في السنين الماضية. نعلم
ان هذه قد انتهت تقريبا ، لكنها لاتزال جديرة بالتحليل.
** لماذا كان بامكان المعلم ان يصرخ في وجه التلميذ
اذا رأى شعره طويلا ، ولماذا يشعر الطلبة بالرهبة من المعلم والمدير والنظام
المدرسي؟.
** الجواب ان ذلك النظام وما يحيط به من معان
وتقديرات ، مصمم لتعزيز مفهوم مركزي واحد ، هو تفاوت القوة بين التلميذ والمعلم.
يمكن للمعلم ان يصرخ في وجه الطالب ، لأنه يملك نوعا من السلطة ، ويصمت الطالب مخزيا
لان موقعه في هذا الترتيب يحدد له هذا السلوك وليس غيره. ان حضور المعلم وهيئته ، وجدران
المدرسة وابوابها المغلقة ، كلها مصممة كي تخدم فكرة "تفاوت القوة" بين
التلميذ والمعلم.
اما الغرض من هذا الترتيب ، فهو جعل التلميذ مفتوحا
ومهيئا كي تمارس المدرسة دورها في نقل الثقافة السائدة للجيل الجديد.
نحن الآن في واقع مختلف. ابرز ملامحه غياب فارق
القوة الصريح بين المعلم والتلميذ ، وغياب
ما يحيط بالعلاقة بين الاثنين من ترتيبات ورموز السلطة. جدران المدرسة تركت مكانها
لعالم لامتناه ، يجيد التلميذ الابحار فيه ، ويملك الادوات اللازمة للرحلة ، كل
يوم ، بل كل ساعة لو شاء.
لهذا السبب فان المدرسة لم تعد قناة وحيدة لنقل
الثقافة ، بل مجرد قناة بين عشرات ، بل مئات من القنوات الاخرى ، الاكثر لينا وربما
الاكثر امتاعا وترحيبا. بعبارة اخرى ، فلن تقدر المدرسة على توليف هوية ابنائنا
بعد اليوم ، وبالتالي فلن يكونوا على الصورة التي الفناها. ولا اعلم – وهم
بالتاكيد لا يعلمون ايضا – ماهي الهوية او الهويات البديلة التي نتوقع ان يحملوها.
ربما تكون هوية متحولة ، او حتى سائلة ، تتبدل بين حين وآخر ولا تستقر على حال.
الشرق الاوسط الأربعاء - 27 صفر 1442 هـ - 14 أكتوبر 2020 مـ
رقم العدد
[15296]
https://aawsat.com/node/2563231/