غرض هذه المقالة هو توضيح المقصود بالتفكير الاخلاقي. أي كيف يضبط الناس علاقاتهم كي لا يتحول الاختلاف الى عداوة او طغيان.
والمتوقع في الغالب ان يلتزم الناس بشكل طوعي بالاحسان في تعاملهم مع بعضهم. لكن هذا لا يحصل دائما. لهذا تقوم المجتمعات بتحويل بعض القواعد الاخلاقية الى انظمة ملزمة (ومن الامثلة عليها تحريم الكلام العلني عن الفواحش ، ومنع الاساءة اللفظية والتهديد ، ومنع الاهمال المؤدي الى الضرر ، وغير ذلك) فهذه في الأصل قواعد اخلاقية ، كان المفروض ان يلتزم الافراد بها طوعا ، أي دون خوف العقاب او الطمع في الثواب. لكن الأمور لا تجري دائما على هذا النحو ، لهذا تحولت الى قانون.
رغم ذلك ، فان غالبية القواعد الاخلاقية بقيت اعرافا عاما ،
يلتزم الناس بها عن طيب خاطر. وينبغي القول للمناسبة ان اسوأ المجتمعات حالا ، هي
تلك التي تركت الالتزام الطوعي بالمعروف ، وحولت معظم اعرافها وقواعدها الاخلاقية
الى قوانين ملزمة ، فباتت حياة الافراد مقيدة ومحدودة ، لا يتحركون الا بامر ولا
يتوقفون الا بأمر ، وبات الخوف من العقاب والغرامة والسجن ، هاجسا يسيطر على نفوس
الناس طوال يومهم. وأذكر لهذه المناسبة حادثا شهدته في منتصف ثمانينات القرن
العشرين ، حين لقيت استاذا جامعيا في ديار بكر ، جنوب تركيا ، فتحدثنا في مسائل
شتى ، وحين سألته عن تاثير الحكم العسكري – الذي كان قائما وقتها – على الجامعات ،
التفت يمينا وشمالا ، ثم نهض وودعني من دون كلام. وفي اليوم التالي ابلغني صديق
مشترك ان الرجل يأسف ، لأنه شعر بخوف شديد لمجرد وصول الكلام الى الوضع السياسي
القائم.
لا يوجد مجتمع من دون اخطاء او مشكلات ، صغيرة أو كبيرة. المجتمع
الذي يعاقب افراده على كل خطأ ، والمجتمع
الذي يمتنع أفراده اختيارا عن ارتكاب "أي" خطأ ، سيتحول الى سجن للروح ،
سيكون اقرب الى حظيرة دواجن ضخمة وليس مجتمعا للناس. لا اعلم ان كان احد القراء قد
زار حظائر الدواجن الحديثة ، فالدجاج الذي فيها يقضي معظم وقته ذليلا ناعسا صامتا ،
يأكل ثم يتراجع ، ليبقى من دون حركة طوال ساعات. هذا هو المثال الاقرب الى المجتمع
الشديد الانضباط.
اما المجتمع الاعتيادي فهو
مجال حيوي مفتوح للخطأ والصواب ، يتصارع الناس فيه من اجل مساحة او مكانة او مال
او فكرة ، او غير ذلك. التكاثر غريزة طبيعية في البشر ، وهي – في اعتقادي – من
اسرار تقدم الانسان. الاختلاف ثم الصراع نتيجة طبيعية لنشاط تلك الغريزة. وهذا هو
الذي حمل البشر على تطوير المثل والقواعد الاخلاقية ، التي تساعدهم على تقليل الاحتكاكات
الضارة فيما بينهم ، وحل المشكلات اذا وقعت.
التفكير في الاخلاق إذن ، هو الفحص المنتظم للعلائق التي تربط
البشر الى بعضهم ، والقواعد التي يتبعونها في فهم الاشياء وادراكها ، واختبار المصالح
والمثل التي تشكلت على ضوئها أساليب العيش والتعاملات العامة ، وانظمة القيم التي تحدد
اغراض حياتهم. منظومات القيم هذه عبارة عن اعتقادات حول الكيفية التي ينبغي للحياة
ان تعاش ، كيف ينبغي للرجال والنساء ان يكونوا ، وماذا ينبغي لهم ان يفعلوا.
نحن بحاجة الى الاخلاق لاننا بشر خطاؤون ، ولو لم يكن ارتكاب
الخطأ طبعا لازما لحياتنا ، لما كان ثمة حاجة لأي من القيم الاخلاقية او آداب
السلوك.
الشرق الاوسط الأربعاء - 20 صفر 1442 هـ - 07 أكتوبر 2020
مـ رقم العدد
[15289]
https://aawsat.com/home/article/2550031
مقالات ذات علاقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق