|| معيار التمييز بين العلمي وغير العلمي عند بوبر هو القابلية للتفنيد. ما لا يمكن دحضه او تفنيده فليس علما||
"منطق البحث العلمي"
للفيلسوف البريطاني – النمساوي كارل
بوبر هو كتاب اخر وجدته في معرض الرياض للكتاب ، واظنه يستحق الاقتناء
والقراءة . افترض ان قراء الفلسفة قليلون ، لكني مع ذلك انصح به الكتاب والدعاة
واي مثقف يرغب في عصف ذهني يجادل من خلاله ذاته ومتبنياته.
يعتبر
بوبر واحدا من ابرز فلاسفة العصر . وقد خلفت بحوثه اثارا عميقة على التفكير الفلسفي
والنقدي وعلى الفلسفة السياسية في العالم المعاصر. ورغم ان كثيرا من كتبه قد ترجم
الى العربية ، الا اني وجدت الاهتمام به بين المثقفين العرب محدودا . ولعل مرجع
ذلك هو قلة اهتمامنا بالفلسفة وتياراتها الجديدة ، رغم انها ضرورية ليس فقط
للمختصين ، بل لكل باحث يريد التحول من مستهلك للمعلومات والآراء التي ينتجها
الاخرون الى ناقد لتلك الآراء ثم الى منتج للفكر والعلم.
قدم بوبر نظرية هامة في فلسفة العلم تبدأ بنقد منهج
الاستقراء الذي يقوم في صورته المبسطة على ملاحظة العناصر المشتركة بين الامثلة
الواقعية وصياغة قاعدة عامة وصفية بناء على تلك المشتركات . رأى بوبر ان ملاحظة
الواقع ليست بسيطة : حين ترى شيئا فانك لا تستعمل عينك فقط ، العين هي مجرد اداة
لنقل المشهد الخارجي الى منصة فرز وتصنيف في داخل عقلك.
هذه المنصة هي اداة فهم للاشياء تتشكل على ضوء ثقافتك
السابقة وتوقعاتك وفهمك لنفسك ولمحيطك. ولهذا فان الوصف الذي تعطيه لذلك الشيء
يتضمن – بصورة صريحة او ضمنية – حكما عليه. ومن هنا فان ما قرر الباحث انه عنصر
اشتراك بين الاشياء هو في حقيقة الامر حكمه الخاص عليها ، وهو حكم قد يحكي الواقع
وقد يجافيه.
يعتقد بوبر ان البحث العلمي في كل مراحله هو سلسلة من
المشكلات الذهنية او الواقعية التي يجري تجريب الحلول عليها بشكل تدريجي . ما
نسميه حلا او تفسيرا او نظرية هو في واقع الامر تجربة او مرحلة من مراحل تطور
الفكرة وليس نهايتها. الباحثون في العلوم لا يختلفون في عملهم عن سائر الناس.
اولئك مثل هؤلاء يتبعون نفس الطريق التجريبي في
التعامل مع المشكلات التي يواجهونها . تبدأ العملية بتحديد المشكلة ، وهذا يقود
الى بروز العديد من الحلول المحتملة ، التي تخضع للمقارنة بغرض استبعاد الاحتمالات
الاضعف . ما ينتج عن هذه العملية هو احتمال اقوى وليس حلا نهائيا او حقيقة صريحة .
سياتي اشخاص اخرون ويكتشفون بعض العيوب في تلك النتيجة ، ويقترحون حلا ارقى ، اي
اقل عيوبا. وهكذا تستمر العملية ولا تتوقف ابدا. من هنا فان البحث العلمي لا
يستهدف اثبات حقائق نهائية ، وهو على اي حال لا يستطيع بلوغ هذه المرتبة مهما حاول
. هدف البحث العلمي هو تقديم حلول مؤقتة كل منها يمثل احتمالا افضل في وقته.
وضع بوبر معيارا للتمييز بين ما يعتبره علميا او غير علمي ،
اثار الكثير من الجدل ، فحواه ان القابلية للتفنيد هي ما يميز العلمي عن غير
العلمي. النظريات التي لا يمكن دحضها او تفنيدها ليست علمية . كلما ازدادت العناصر
القابلة للتفنيد في النظرية كانت اقرب الى العلمية والعكس بالعكس. بناء على هذا
المعيار قرر بوبر ان المادية التاريخية التي تعتبر من اعمدة النظرية الماركسية
ليست علما لانها لا تحوي عناصر قابلة للتفنيد.
كذلك الامر بالنسبة لنظرية فرويد المشهورة في التحليل
النفسي. غير العلمي يمكن ان يكون ايديولوجيا او ايمانا او ميتافيزيقا او انطباعا
شخصيا ، اي – في العموم- شيء تؤمن به لأنك تريد ذلك ، بغض النظر عن قابليته
للاثبات والتجربة او عدمها. هذا المعيار ، الذي يبدو غريبا بعض الشيء ، ينطلق من
اعتقاد بوبر بان العلم ليس اكتشافا واحدا ، بل هو سلسلة من الكشوف التي لا تتوقف .
يتوقف العلم اذا توصلنا الى الحقيقة النهائية ، لكن هذا مستحيل بالنسبة للانسان .
نحن نسعى للتعلم والبحث لا ننا لا نعرف الحقيقة الكاملة والنهائية ، ولو وصلنا الى
هذه الغاية لما عاد الانسان محتاجا الى العلم ، وهذا من الاحتمالات المستحيلة.