‏إظهار الرسائل ذات التسميات الاجماع الوطني. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الاجماع الوطني. إظهار كافة الرسائل

06/06/2024

فكرة حاكمة وافكار محكومة

 "لكن فكرة الاجماع الوطني ، واختها الهوية الوطنية الجامعة ، ليستا منزهتين عن التاسيس الايديولوجي". هذه خلاصة اعتراض على مقالة الاسبوع الماضي ، الذي ختمته بالزعم انه لا ينبغي للدولة ان تتبنى خطابا ايديولوجيا متمايزا ، وان واجبها هو تعزيز الاجماع والهوية الجامعة.

ديفيد هيوم

في رايي ان هذا اعتراض غير وارد. فما يقال في المجال العام ، لا ينبغي ان يؤخذ حرفيا ، بل ضمن السياق العرفي للفكرة او بيئة التطبيق. فاذا ذكرت الأيديولوجيا في سياق النقد ، فالمقصود هو الوظيفة الابرز للايديولوجيا وهي حجب الحقيقة ، وليس انكارها كليا ، أو اعتبارها باطلا مطلقا. لقد قلت سابقا انه لا يوجد شخص واحد في العالم ، متحرر تماما من قيود الأيديولوجيا او تاثيرها. الأيديولوجيا أداة للتواصل مع الطبيعة وجمالياتها ، ومع البشر في مشاعرهم العميقة. وهذه وتلك ليست من الأشياء التي يمكن للعلم وصفه او تفسيره ، على نحو يستغرق تمام ما يظهر منها وما يختفي تحت سطحها الخارجي. هذه وظيفة تشبه وظيفة الفن ، حيث استعان الانسان بأنواع التعبير الفني ، كي يقتنص الجوانب التي لا يمكن التعبير عنها بالكلام المباشر. ولو تأملنا ما يقوله الشعراء وما يرسمه الفنانون والموسيقيون ، لوجدنا افضله هو المكرس لتصوير مشهد لايمكن شرحه او وصفه من دون التخييل الفني. عمل الفنان هو تصوير الفكرة التي لا يمكن اثباتها بالدليل المنطقي او التجريبي ، تصويرها للسامع او المشاهد حتى كأنه يراها ، فاذا رأى ما يظنه مشهد الفكرة ، فما الحاجة للتدليل عليها؟.

ولو سألت: لماذا نحتاج الى تصوير الافكار والتخيلات التي لا برهان علميا عليها ، لأجبتك بأن الافكار نوعان ، نوع يريده الانسان بما هو ، وبالكيفية التي يجده عليها ، ونوع يسعى لتفكيكه واعادة تركيبه. والأول اعمق أثرا ، حتى لو كان أضعف تاسيسا ، لأنه مرتبط بنظرة الانسان الى الحياة ، وهو سابق للممارسة الحياتية. اما الثاني فيواجه الانسان في سياق حياته اليومية ، في المهنة او المدرسة او في تعامله مع الناس. ولأن النوع الاول من الافكار سابق للممارسة ، وان الانسان يتبناه بارادته (التي قد تكون عقلانية – علمية او لا تكون) فانه سيكون – بالضرورة – حاكما على الثاني. بمعنى انه يحدد زاوية النظر الى الاشياء ، فيحدد – تبعا لهذا – طريقة فهمها والتعامل معها ، أو ربما يتعايش مع الافكار التي يحصل عليها الانسان في  تجربته الحياتية اليومية ، حتى لو تناقض الاثنان. وقد ذكرت في مقال قديم قصة جمع من اهل بلدنا يتعالجون في مستشفى اوروبي ، فصلوا الجمعة بامامة واحد منهم ، فدعا بأن يهلك الله اليهود والنصارى صغيرهم وكبيرهم ، فقام اليه احدهم قائلا: توقف يارجل .. فلو استجاب الله دعاءك الآن ، فمن يكمل علاجنا ومن يعيدنا الى بلادنا؟. وكانت هذه اشارة الى الفاعلية المتوازية لنوعي الثقافة: النوع الذي يدعوه للعلاج عند من يظنه عدوا ، والنوع الذي يدعوه للسعي في فنائه.

هذه الثقافة التي تتحكم في رؤية الانسان للحياة والاشياء ، هي – في غالب الاحيان – قناعات موروثة او مكتسبة ، لا يسندها دليل قطعي لا يقبل الشك والجدل. وهي تكوين ايديولوجي ، نريده وان دل الدليل على غيره. ان فكرة الهوية الوطنية الجامعة ، مثل اختها فكرة الاجماع الوطني ، من هذا النوع من الافكار التي لا يسهل اثباتها بأدلة لا تقبل الشك او النقض. لكننا نعرف مئات الشواهد على منافعها ، وما يترتب عليها من صلاح لعامة الناس ، ومئات الشواهد على المفاسد التي نتجت عن ضعفها او ضياعها ، في زماننا هذا ، في بلدان قريبة منا. ربما نذهب مع الفيلسوف المعاصر ديفيد هيوم في ان اقتران شيئين لايعني ان احدهما علة للثاني ، لكن الا يحكم عامة العقلاء بان الاقتران المتكرر مدعاة للاعتقاد بان بروز الأول سيأتي – غالبا – بالثاني؟.

الخميس - 30 ذو القِعدة 1445 هـ - 6 يونيو 2024 م  https://aawsat.com/node/5028103

30/05/2024

اصلحوا دنيانا ودعوا لنا الآخرة


في خطاب الى وزراء الاعلام العرب ، حدد الدكتور محمد الرميحي اربع مهمات ، ينبغي انجازها للنهوض بقطاع الاعلام. استطيع اختصار  هذه المهمات في: اعتماد استراتيجية واضحة متناسبة مع الرؤية المستقبلية للبلد ، التدريب العلمي والفني الذي يلبي التحديات الجديدة في قطاع الصحافة ، المحافظة على المصداقية وتجنب المعلومات المشكوكة او الكاذبة ، واخيرا اعتماد مبدأ حرية التعبير وتدفق المعلومات ، التي تجعل الاعلام مرآة للحياة الواقعية ومعبرا عن جميع المشارب والتوجهات الاجتماعية. (جريدة النهار 28 مايو 2024 ).

لا أظن احدا يجادل في اهمية النقاط الاربع ، وهي – بالتأكيد - اكثر اهمية للنشاطات ذات الطبيعة الثقافية ، كقطاعي الاعلام والتعليم. لكن ربما يجادل بعض الناس في تطبيقات الفكرة على واقعنا القائم. قد يرون مثلا ان لدينا سياسة اعلامية تحدد الاهداف الكبرى ، وهي استراتيجية مناسبة لظروف مجتمعنا وحاجاته. او قد يخشون ان توسيع حرية التعبير طريق الى الفوضى. واعتاد القائلون بهذا الرأي على ضرب المثل بما شهده لبنان من حريات صحفية واسعة ، يزعمون انها قادت الى الحرب الاهلية (لانهم لا يعرفون مثالا آخر). اما نقطة المعلومات الكاذبة او المنقوصة ، فالحق معهم ، فما دمت لا تسمح الا بالقليل من المعلومات ، فلابد ان الكذب فيه قليل جدا.

هذه اذن نقاط لا يعارضها احد من حيث المبدأ ، وان جادلوا في تطبيقاتها. والمجادلة الفرعية تؤكد الفكرة اكثر من دلالتها على المعارضة.

حسنا ، ماذا يعني ان تكون لدينا استراتيجية اعلامية؟

كان الرميحي قد أشار الى ممارسات للاعلام تتعارض مع التصور العام للدولة الحديثة. منها مثلا ترويج الثقافة الاسطورية وربما الخرافية ، من خلال اشخاص او برامج ترتدي لباس التوجيه والارشاد ، وهذا يتعارض مع تشديد الحكومة على تعزيز العقلانية واعتماد العلم في الحياة العامة والخاصة. كيف ندعو في مدارسنا للنقاش النقدي والعقل الناقد ، بينما يروج اعلامنا لمن يقول صراحة انه لا يصح الرجوع لاحكام العقل في هذا الحقل الحياتي او ذاك. وفي الوقت نفسه لا يفسح المجال للرد على تلك الاقاويل ، لأننا سلمنا بأن تلك الاشياء اللاعقلانية تنطوي على شيئ من القداسة.

واريد الانطلاق من هذه الفكرة ، اي ضرورة عدم التناقض في الخطاب الرسمي في المضمون وفي الصورة ، لوضع السؤال التالي:

هل ينبغي للدولة ان تتبنى خطابا ثقافيا او ايديولوجيا خاصا ، ثم تستعمل الاملاك العامة (الاعلام وجهاز التعليم مثلا) في الترويج لذلك الخطاب؟.

يبدو لي ان جواب السؤال هو احد نقاط التباين الكبرى بين الشرق والغرب. فالنخب الشرقية عموما تقول انه يحق للدولة ان تتبنى خطابا ايديولوجيا او ثقافيا ، وتدعو الناس الى اتباعه. بينما يذهب الرأي السائد في الغرب الى ان تبني اي خطاب ايديولوجي يؤدي – بالضرورة – الى اقصاء كل رأي مختلف او مخالف للخطاب الرسمي. وهم يقولون – على سبيل التمثيل فحسب – ان الدولة مسؤولة عن دنيا الناس. اما الاخرة فهي مسؤوليتهم الشخصية ، او في ادنى التقادير مسؤولية جهات اخرى لا تملك مصادر القوة الجبرية ، مثل الكنيسة والهيئات الدينية التي يقيمها الاهالي.

انني ممن يذهب الى هذا الرأي فيما يخص الدين ، اذ لا ارى مصلحة للدين او للدولة في فرض دينها على الناس.  لكني – بموازة هذا – اعتقد بعمق ان على الدولة واجبا حيويا ومحوريا ، هو تجديد وتعزيز الاجماع الوطني ، والدفاع عن الهوية الوطنية التي تجمع في ظلها الهويات الصغرى ، في مواجهة الساعين لهيمنة الهويات الصغرى على المشهد العام او المجتمع الوطني. ان اقوى وسيلة لتحقيق هاتين المهمتين هما الاعلام والتعليم. في ظني انه يتوجب على اصحاب المعالي وزراء الاعلام والتعليم العرب ، ان يضعوا امامهم في كل صباح سؤالا يوجهونه الى العاملين في هذين القطاعين: ما الذي فعلتم لتعزيز الاجماع الوطني والوحدة الوطنية الجامعة؟.

الخميس - 23 ذو القِعدة 1445 هـ - 30 مايو 2024 م  https://aawsat.news/bn6yz  

 مقالات ذات علاقة

انهيار الاجماع القديم

التفكير الامني في قضايا الوحدة الوطنية

دولة الاكثرية وهوية الاقلية

شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

شراكة التراب وجدل المذاهب

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

 من التوحيد القسري الى التنوع في اطار الوحدة

وطن الكتب القديمة

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات

الوطن شراكة في المغانم والمغارم

طريق الاقلية في دولة الاكثرية

حول الاجماع الوطني

الخلاص من الطائفية السياسية: إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة

 

04/08/2021

المساومة والتنازل والانتصار


لا أبالغ لو قلت ان معظم بلدان العالم ، قد واجه سؤال "الاجماع الوطني" ، لاسيما في الثلاثين عاما الاخيرة. ان تحديد هذا التاريخ يرجع لظاهرة "انفجار الهوية" التي شهدها العالم بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في 1991. لقد قيل الكثير حول اسباب هذه الظاهرة. لكن لو اغفلنا – مؤقتا – مسار تشكلها ، وركزنا على اجزاء وتفاصيل الظاهرة بذاتها ، فلربما نجد ما يكفي من المبررات التي تخبرنا عن التحولات التالية ، والتي لازال بعضها نشطا في بعض البلدان ، حتى اليوم.

برز عناصر الظاهرة المذكورة هو نهوض الهويات الصغرى او الفرعية ، ومزاحمتها في حالات عديدة للهوية الوطنية الجامعة. نعلم ان هذا التحول قد ادى الى استقلال معظم القوميات ، التي كانت منضوية في اطار "اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية". ثم تمدد في بلدان عديدة ، من آسيا الى اوربا وأفريقيا. ومن بين الأمثلة الحديثة عليها ، التمرد في اقليم التيغراي - اثيوبيا ، وقبله بفترة وجيزة ، التظاهرات المطالبة باحترام حياة السود في الولايات المتحدة الامريكية ، والتي كانت عاملا هاما في هزيمة الرئيس السابق دونالد ترمب.

ونستطيع القول (بكلام مجمل) ان هذه الظاهرة اتخذت مسارا لينا نسبيا في القارة الاوربية ، بينما اتسمت في المجتمعات الافريقية والآسيوية بطابع خشن ، وفي بعض الاحيان شديد العنف. واحتمل ان هذا يرجع لسببين ، اولهما سياسي يتمثل في تلبس الهويات الفرعية ببعضها ، وتحولها من تعارض احادي (عرقي على سبيل المثال) الى ثنائي او متعدد الابعاد ، تتداخل فيه العوامل المعيشية والدينية والطبقية والعرقية وربما غيرها (وهذا ما حصل لشعب الاويغور شمال غرب الصين ، وشعب الروهينغيا في غرب ميانمار).

اما السبب الثاني فهو بنيوي ، يتمثل في عجز اطراف المجتمع الوطني عن التفاوض والمساومة ، التي لاتنجح – كما نعلم – دون استعداد مسبق لتقديم تنازلات. اني اعتبر هذا العجز بنيويا ، لأنه مرتبط بالتراث الثقافي والمنظومة القيمية والاخلاقية ، التي ترجح الصراع حتى لو ادى الى الخسارة الكلية ، على المساومة ، ولو أدت الى المعادلة المعروفة رابح-رابح ، اي المعادلة التي لا تنتهي بالسقوط التام للطرف المقابل.

اعتقد ان الثقافة السائدة في عالمنا العربي (وغالب البلدان الاسلامية التي نعرفها) تنحو هذا المنحى. فهي تعلي من شأن الحرب والصراع العنيف وتدمير العدو ، وتقلل من قيمة التفاوض والمهادنة ، التي تنتهي باقتسام المكاسب مع العدو او تقليل الخسائر المنتظرة.

لدينا تجربة مزدوجة من بلدين افريقيين ، توضح الفرق بين المنهجين ، المساومة والتشدد. ان تجربة جمهورية جنوب افريقيا ملهمة بحق ، في مقابل التجربة المحزنة لجمهورية زمبابوي. في 1980 انتصرت جبهة تحرير زمبابوي بقيادة الرئيس موغابي ، فكان اول قراراته تفكيك قوة البيض الذين احتكروا حكم البلاد قبله ، فانتهى الامر بهذه البلاد الى الجوع والخوف والاضطراب ، وهرب الاف السكان الى دول الجوار بحثا عن لقمة العيش. اما في جنوب افريقيا ، فقد قرر زعيم السود نيلسون مانديلا اقتسام السلطة والثروة مع البيض ، بعدما انتصر عليهم في 1994. ان هذه الدولة هي اقوى الدول الافريقية اليوم ، واكثرها ثراء واحتراما على المستوى الدولي. وتظهر المقارنة بين التجربتين المتجاورتين ان نصف انتصار هؤلاء ، اعظم من الانتصار الكامل لاولئك ، واكثر انسانية ونفعا لكافة الاطراف.

هذه التجارب وامثالها تخبرنا ان الخطوة الأولى لترسيخ الاجماع الوطني هي بناء الثقة ، من خلال التاكيد على قيمة التراضي والتنازل والمساومة ، حتى لو كنت تملك الحق كله ، وحتى لو كنت تملك القوة كلها.

الأربعاء - 25 ذو الحجة 1442 هـ - 04 أغسطس 2021 مـ رقم العدد [15590]

https://aawsat.com/node/3113951

 

مقالات ذات صلة

اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

الاقليات والهوية : كيف تتحول عوامل التنوع الى خطوط انقسام في المجتمع الوطني

أمين معلوف... الهويات القاتلة

بين هويتين

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حزب الطائفة وحزب القبيلة

حول الانقسام الاجتماعي

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

من باريس الى التغراي .. العالم يواجه ازمة هوية

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

الهوية المتأزمة

 

28/07/2021

حول الاجماع الوطني

 جادلت في مقال الأسبوع الماضي ، بان معظم النزاعات الدائرة في محيطنا ، نتاج لأمراض في البنية الاجتماعية والسياسية ، فتحت الباب للايادي الاجنبية للتاثير في الشأن الوطني.

يهمني الإشارة أولا إلى ان المجتمعات والاوطان ، ليست كائنات مادية بحتة ، بل هي في المقام الأول كائنات اعتبارية ، بمعنى ان ما يعطيها صفة المجتمع او الوطن ليس الأرض او المباني ، بل اقرار البشر الذين يسكنونها بانها تحمل هذا الاسم وتنتمي لهذه الجماعة ، وان سكانها يعيشون معا في اطار اتفاق (ضمني او مكتوب) تضمن  استمراره ثقة متبادلة ، محورها ان جميع الاطراف يسعون لخيرهم المشترك ، ويلتزمون بالمسؤوليات التي يولدها ذلك الاتفاق.

ولعل القراء الأعزاء يذكرون الصور التي تنشرها الصحف أحيانا ، عن قرى يقسمها خط الحدود بين دولتين ، نظير قرية بارلي ناسو التي يقع نصفها في هولندا والنصف الاخر في بلجيكا ، ومثلها قرية لاكيور التي تقتسمها فرنسا وسويسرا. فهذه القرى وأمثالها تسكنها عائلات متقاربة في النسب وطريقة العيش ، لكن بعضها يتبع هذه الدولة ، والآخر يتبع الدولة الثانية. بل قد تجد في بعض بيوتها أخوة يحمل أحدهم جنسية هذا البلد تبعا لامه ، ويحمل الثاني جنسية البلد الآخر تبعا لابيه. فهذا المثال ونظائره يوضح بان المجتمعات والاوطان ، بل كل اجتماع بشري ، روابط اعتبارية (أي انها موجودة وثابتة بقدر ما يعتبرها الناس كذلك). ومن هنا فان قوة تلك الروابط وضعفها ، مشروطان بمدى ترسخ الثقة والايمان بالعلاقة الجامعة في نفوس أعضاء المجتمع او سكان البلد.

الايمان بالجماعة الوطنية والثقة في النظام الذي يربط الجميع ، هو ارضية ما اسميناه الاجماع الوطني ، الذي يتناول موضوعين رئيسيين: أ) القانون - او العرف - الذي يحدد ويضبط العلاقة بين كل طرف والآخر. ب) الطريقة المتفق عليها لحل الخلافات المحتملة بين الشركاء ، والتي يلتزم الجميع بالقبول المسبق لنتائجها.

لا يمكن ان يتعايش اناس مختلفون دون توافق على المصالح المشتر كة والحقوق المتقابلة ، التي اوجبت اجتماعهم ، واتفاق مواز على طريقة لعلاج خلافاتهم ، لتلافي الانشقاق والتنازع. هذا ببساطة هو جوهر "الاجماع الوطني".

تتسبب الازمات الكبرى في نشوء ارتياب متبادل ، بين الكتل التي يتألف منها المجتمع الوطني. وعندئذ تتلاشى القوة الجمعية التي تسند البناء السياسي والأمني والقانوني للبلاد ، أعني بها القوة التي تتجسد في الثقة المتبادلة التي ذكرناها ، وفي توافق كافة المواطنين على أن يعيشوا معا في ظل نظام قانوني واحد ، أسمه الوطن ، وانهم جميعا يتحملون المسؤولية عن صيانته.

انظر الى مثال أفغانستان أو ليبيا في الوقت الحاضر. سوف تجد ان المشكلة في كلتا الحالتين هي انعدام الثقة  المتبادلة بين اطراف النزاع. انعدام الثقة يعني - حسب تعبير البروفسور ديفيد ميلر - ان كل طرف يشعر في داخله بانه لو تخلى عن مصادر قوته الخاصة او تنازل للطرف الثاني ، فمن يضمن له ان يحصل على حقوقه المتفق عليها في القانون؟.

لا يوجد حل طويل الامد للمشكلات ، ولا سد يحمي البلد من تاثير القوى الاجنبية سوى بناء الثقة وتجديد الثقة باستمرار ، وهي مهمة سهلة بشرطين ، اولاهما ان لا ينظر للسلطة كغنيمة ، بل كوظيفة مؤقتة ، وثانيهما ان يكون كل طرف مستعدا لتقديم تنازلات ، تتناسب حجما وموضوعا مع الغاية المستهدفة ، حتى لو كانت مؤلمة.  

الشرق الاوسط الأربعاء - 18 ذو الحجة 1442 هـ - 28 يوليو 2021 مـ رقم العدد [15583]

https://aawsat.com/node/3102256/

 

مقالات ذات علاقة

 

احتواء التحدي وتحييده

استنهاض روح الجماعة

اعادة بناء الاجماع الوطني

انهيار الاجماع القديم

التفكير الامني في قضايا الوحدة الوطنية

الخلاص من الطائفية السياسية: إعادة بناء الهوية الوطنية الجامعة

دولة الاكثرية وهوية الاقلية

شراكة التراب وجدل المذاهب

شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن

طريق الاقلية في دولة الاكثرية

العراق: المهمة الكبرى بعد الموصل

كي نتحاشى امارات الطوائف

 من التوحيد القسري الى التنوع في اطار الوحدة

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات

وطن الكتب القديمة

الوطن شراكة في المغانم والمغارم

21/07/2021

البلاد بوصفها "مسرح العرائس"

 

اسهل الكلام هو اتهام الأفغان بانهم دمى تحركهم اياد اجنبية ، وان صراعاتهم كلها حروب بالوكالة. ومثله في السهولة اتهام السوريين والليبيين. اني لا انفي وجود اياد اجنبية في أي مكان. ولا أنفي انها تؤثر ، ولولا انها مؤثرة لما التفت اليها احد. لعل بعضنا يعرف ان القضاء الأمريكي لازال يحقق في "أياد روسية" حاولت التاثير في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. فاذا وصل الامر الى واشنطن فان كابل ايسر مؤونة.

رغم هذا فان اطلاق القول على هذا النحو مدعاة للسخرية. ولهذا يميز طلبة العلوم السياسية ، سيما الذين تدربوا على دراسة الحقل المشترك بين العلاقات الدولية وإدارة الازمات ، بين قيام الأجنبي ب"خلق ازمة" وقيام الأجنبي ب "استثمار أزمة ، نشطة او خاملة".

أعرف حالات قليلة جدا ، شهدت نجاح الايادي الأجنبية في خلق أزمات أدت الى صراع اهلي. لكن معظم حالات الصراع الأهلي تطور عن تأزمات داخلية ، فشل أطرافها في معالجتها على نحو سليم ، فنشأ فراغ أمني او فراغ سياسي ، مهد الطريق للتدخل الأجنبي.

ما الداعي لهذا الحديث اليوم؟

اعلم ان انسحاب القوات الامريكية من أفغانستان ، والتوسع المفاجيء لحركة طالبان ، سوف يجتذب اهتمام القراء. ولابد أنه سيحرك الكثير من النقاشات. فأردت استثمار المناسبة لكشف ما اظنه عيبا جوهريا ، في الثقافة السياسية السائدة بين العرب المعاصرين وبعض جيرانهم المسلمين. هذا العيب هو ببساطة احتقار الذات ، الذي يتغطى بعباءة تفخيم الذات او تبرئة الذات.

حين تقول ان كل الأطراف المتصارعة تقاتل بالوكالة عن قوى اجنبية ، فانت تشير ضمنيا الى ان الأطراف المحلية ، عاجزة عن اتخاذ القرار في أمور بلدها ، وحتى في تحديد دورها الخاص ومستقبلها ضمن هذا البلد. اذا قلت هذا الكلام ، فسوف تجد من يلقي الكرة في ملعبك سائلا: وهل انت واحد من هؤلاء العاجزين.. وهل قبيلتك او اهل ديانتك او قريتك ممن تحركهم الايادي الخارجية ، كما يفعلون في مسرح العرائس؟.

 يعلم الانسان بانه سيواجه هذا السؤال ، ولهذا فهو يستبق الأمور بتفخيم الذات وتنزيهها ، من خلال رمي المشكلة على الغير (الذي يكون في غالب الأحيان غائبا ، او غير قادر على المجادلة والرد). كمثال على هذا: يقول الليبيون انه لم يكن لديهم أي مشكلة قبل ان يأتي أناس من الخارج ، نفس الشيء قاله بعض العراقيين والافغان وربما غيرهم. بعبارة أخرى فان المسالة تتدرج على مرحلتين: الأولى الادعاء بان اهل الداخل أدوات تحركها قوى اجنبية (المضمون ان شعبنا عاجز عن القرار والفعل) ، الثانية: التحليل: لان اهل الداخل عاجزين فهم لن يرتكبوا خطأ (المضمون: طالما لم تتسبب في المشكلة فلا لوم عليك ، حتى لو انخرطت فيها لاحقا).

هذا كلام ينطوي على استهانة بالذات وبالمحيط الاجتماعي ، وان تلبس عباءة البراءة وتنزيه الذات. لانه حتى لو افترضنا جدلا انه صحيح ، فسوف يعود السؤال: هل كنتم مجرد قطيع يسوقكم راع هبط عليكم فجأة ، فاطعتموه من دون ان تعرفونه... اما كان الالاف منكم قادرين على التوقف لحظة والتفكير فيما يجري واكتشاف "المؤامرة" المدعاة؟.

الواقع ان معظم النزاعات الاهلية التي نعرفها ، في محيطنا العربي والإسلامي وصولا الى بقية قارات العالم تفجرت لوجود علل وأمراض في البنية الاجتماعية او السياسية. ان وجود هذه العلل في الاصل مؤشر على تقصير اهل البلاد ، وكان يتوجب عليهم المبادرة في علاجها يوم اكتشفت ، قبل ان يمسي العلاج مستحيلا ويصبح التفكك خيارا وحيدا ، كما جرى في السودان وقبلها في يوغوسلافيا السابقة.

يتعلق الموضوع في الجوهر بمسألة "الاجماع الوطني". ولهذا حديث آخر نعود اليه قريبا ان شاء الله.

الشرق الاوسط الأربعاء - 11 ذو الحجة 1442 هـ - 21 يوليو 2021 مـ رقم العدد [15576]

https://aawsat.com/home/article/3090701/

 

مقالات ذات صلة

المؤامرة والسياسة

حكومة العالم الخفية

تحولات التيار الديني – 5 السلام مع الذات والسلام مع العالم

الشيعة في زمن جديد

الحر كة الا سلامية ، الغرب والسيا سة ( 2 من 3 )

15/01/2020

حول التزاوج الشكلي بين الحداثة والتقاليد

|| توفي د. سعد الدين ابراهيم في 29 سبتمبر 2023. رحمه الله واحسن اليه وجعل آثاره العلمية صدقة جارية له الى يوم الدين||

اعتقد ان الدكتور سعد الدين ابراهيم هو أهم علماء الاجتماع العرب في الربع الاخير من القرن العشرين. يرجع هذا التقدير لعوامل عديدة مثل جودة الانتاج العلمي وغزارته ، ومثل طرقه لقضايا كانت تعتبر بين المسكوت عنه في الوسط الاكاديمي والاجتماعي. نشر د. ابراهيم نحو 40 كتابا بالعربية والانجليزية ، فضلا عن مئات من المقالات المثيرة للاهتمام ، يدور معظمها حول تحولات المجتمع العربي خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
تعرفت على هذا المفكر الفذ من خلال كتابه "النظام الاجتماعي العربي الجديد" الذي لفت الانظار الى التحولات الثقافية والقيمية المرافقة لتغير الاقتصاد العربي ، وكذلك انعكاسات الهجرة الواسعة لعمال الريف المصري الى دول الخليج النفطية.
نشر الكتاب في 1979 ، وتكرر طبعه ست مرات في السنوات التالية. في ذلك الوقت المبكر نسبيا ، التفت د. سعد الدين الى السلوكيات الجديدة التي تولدت عن التجاذب بين ضرورات الارتقاء المعيشي من ناحية ، وضغط التقاليد ، سيما الدينية ، من ناحية أخرى. تنطوي هذه السلوكيات على ازدواجية في المظهر الشخصي وفي الثقافة على السواء. فالافراد الذين تعرضوا لعواصف الاقتصاد الجديد ، ارادوا الاخذ بفرصتهم في الحياة والرفاهية المادية. لكنهم واجهوا في الوقت نفسه صعودا موازيا لموجة دينية ، تحذر من انسلاخ غير متبصر من قيود الدين وحدوده ، والاستسلام دون وعي لمخططات الغزو الثقافي الغربي.
ويبدو لي ان هذه الموجة كانت رد فعل طبيعيا على انهيار الاجماع القديم ، وتفكك المعايير الاخلاقية ونظم السلوك الموروثة التي حافظت على السيرورة المعتادة للمجتمع التقليدي.
كان سعد الدين ابراهيم متشائما تجاه ما يجري ، خلافا للاتجاه العام بين علماء الاجتماع الذين تبنوا نظريات التحديث الاكثر شهرة في الوسط الاكاديمي ، في الولايات المتحدة واوربا الغربية. وهي نظريات تتفق على ان الانتقال الى الحداثة في المعنى الثقافي والاجتماعي ، نتيجة حتمية ، حين يتعرض المجتمع التقليدي لموجات التحديث الاولى.
وبالنسبة للشرق الاوسط ، فقد ساد اعتقاد فحواه ان تغير مصادر الانتاج والمعيشة بشكل كامل تقريبا ، اضافة الى مشروعات التنمية الاقتصادية ، التي انطلقت في منتصف ستينات القرن العشرين ، واتسعت بشكل كبير جدا في بداية العقد السابع ، سوف يؤدي حتما الى انحسار الثقافة القديمة وتفكك التقاليد والاعراف ، سيما مع افتتاح المئات من المدارس وقدوم عشرات الالاف من المهاجرين الاجانب ، فضلا عن تزايد الحضور الثقافي للراديو والتلفزيون وبقية وسائل الاتصال الجمعي.
ان اتفاق عدد معتبر من العلماء على مقاربة نظرية محددة ، يولد ضغطا (نفسيا في الاساس) على الباحثين في نفس الحقل ، باتجاه الاخذ بما توافق عليه اولئك. رغم هذا فالواضح ان الدكتور سعد الدين ، لم يقتنع بان سيناريو التحول المشار اليه ، هو الذي يحدث فعلا او سيحدث في المجتمع العربي.
كان يلاحظ ان السلوكيات القديمة والثقافة القديمة ، تستعيد تأثيرها تحت مبررات مختلفة. بعض القيم القديمة يتراجع وبعضها يتقدم ، وتجرى عملية تبادل ادوار ، بحيث يحافظ الناس على الاطمئنان الذي توفره الاعراف والتقاليد الموروثة ، لكنهم في الوقت نفسه يتخلون عن مصادر الانتاج واساليب العيش المرتبطة بتلك الاعراف.
بعض الكتاب رأى ان هذه المزاوجة بين القديم والجديد كانت مفيدة. آخرون مثل سعد الدين ابراهيم اعتبروا الامر عبثيا ، اما ابراهيم البليهي فرآه تعبيرا عن الوثوقية الشديدة التي تتسم بها المجتمعات المتخلفة.  لكن هذا نقاش آخر سنعود اليه في وقت لاحق.

الشرق الاوسط الأربعاء - 19 جمادى الأولى 1441 هـ - 15 يناير 2020 مـ رقم العدد [15023]

مقالات ذات علاقة

انهيار الاجماع القديم

المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد ؟

من الحجاب الى "العباية"


اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...