انعقاد
المجلس النيابي هو الخطوة الاولى
الضرورية لمأسسة وترسيخ العملية الديمقراطية. لكنه
بكل تأكيد ليس خلاصة التحول الديمقراطي، لا
سيما في الديمقراطيات الجديدة
والناشئة. وكما في
تجربة البحرين والكثير من التجارب المماثلة في
دول عربية ونامية أخرى، فان
انجاز هذه الخطوة يتحقق
بعد الكثير من الصعوبات والمماحكات، هي
وسيلة كل طرف من اطراف المجتمع السياسي
لتحقيق مراداته وتطلعاته من دون تقديم ما
يقابلها من تنازلات.
من
هذه الزاوية فهي تشبه الى حد كبير صفقة
ضخمة يجريها تجار في
السوق، يحاول
كل منهم الحصول على اكبر قدر من المكاسب مقابل اقل قدر من الالتزامات.
ونعلم ان افضل الصفقات هي تلك
التي يحصل التاجر من ورائها على
الغنيمة كلها من دون غرم.
لكننا نعلم ايضا ان هذه
الصفقة مستحيلة، بل انها لا تجري
في الواقع
ابدا. يمكن بطبيعة الحال لرجل قوي
ان يستعمل
قوته في فرض ما
يريد فيحصل عليه لأن الاخرين يهابون
قهره او يخشون سطوته.
لكن هذا لا يسمى
توافقا، نحن لا نتحدث عن حالات
مثل هذه، لان الديمقراطية هي
في الجوهر
عملية مساومة وغرضها التوصل الى عمل يقوم
على التفاهم والتوافق، وهذا
يتطلب تنازلا من كل طرف عن بعض ما يريد
كي يحصل على
غيره. واذا
لم يقبل اي
طرف بالتنازل عن شيء فلن تحصل صفقة.
واذا لم تحصل صفقة فلن تكون ديمقراطية بل حكم جبري
يقوم على الاستبداد والاستعباد، او
فشل كلي يقود الى الاعتزال
والتباعد والانقسام.
قبل قرن ونصف تقريبا وضع
الفيلسوف الفرنسي جان
جاك روسو قاعدة بسيطة توضح اهمية التوافق في الحياة
السياسية. هذه القاعدة نسميها
اليوم »الشرعية السياسية«.
كل عمل انساني ينبغي
ان يستند
الى مبرر صحيح او مقبول عند العقلاء والا عد عبثا. في
هذا السياق فان العمل السياسي ينبغي
ان يستند
الى قاعدة »الشرعية السياسية«
والا عد باطلا او غير
عقلائي.
التوافق ضروري
للسياسة لانه يوفر
شرعية العمل السياسي، وحسب
تعبير روسو فان »الاقوى ليس قويا تماما
حتى يتقبل الاخرون سلطته
باعتبارها حقا وطاعتهم اياه كواجب«. من
المفهوم ان هذا الزمان لم يترك
فرصة لأحد كي يملي
على الناس قناعاتهم او يفرض
عليهم الطريقة التي يفكرون
بها ويصنعون اراءهم. الطريقة
الوحيدة للحصول على تأييد الغير هو الاقناع او التوافق. وكلا
الامرين مستحيل من دون مساومة تنطوي على
تنازلات.
يجب ان لا ننكر حقيقة ان
تأخير الديمقراطية في بلادنا
قد تسبب في تعميق الانقسامات
الاجتماعية والسياسية، واثمر
عن تحويل التنوع الطبيعي في
الثقافات والمصالح والهموم الى مطبخ
يغذي التنافر
والارتياب. والارتياب هو مكمن
المرض في التجربة الديمقراطية،
ولا سيما في بداياتها.
ينبغي
ان لا نتوهم بان جلسة او اثنتين او اكثر سوف تنهي
حالة الارتياب، مهما
بالغنا في كشف الاوراق والتصارح.
فالريبة من الجينات الوراثية الاساسية في
السياسة، كل سياسة
بلا استثناء، ولهذا قال علماء
السياسة بان العلاقة بين الحكومة والمعارضة، محكومة
اساسا بالشك وليس بالثقة، بل
ان العلاقة بين اطراف الحكومة نفسها، سواء
بين السلطات الثلاث، او
بين مراتب البيروقراطية المختلفة لا تخلو من قدر من الشك، يزيد
او ينقص بحسب درجة التفاهم
واختلاف الظروف والاحوال.
ما ينبغي
السعي اليه
اذن ليس التناغم القلبي والانسجام
الكامل، فهو ليس من الامور
الضرورية في السياسة.
ما نحتاجه على وجه التحديد
هو درجة متقدمة من التفاهم والتوافق على الخطوط الاساسية للسياسة،
اي قبول
كل من اطراف اللعبة الديمقراطية ببعض مرادات الآخرين كي نتوصل
الى صفقة تحقق حدا وسطا بين توازنات القوى الواقعية وحاجات المجتمع السياسي.
هذا التوافق يتطلب
انفتاحا متبادلا كما يتطلب
وضع اوراق اللعبة جميعها فوق الطاولة وليس تحتها، اي
جعل السياسة المشتركة شفافة ومكشوفة لجميع اطرافها.
نفهم ان كشف اوراق السياسة
ليس من التقاليد الراسخة في مجتمعنا
العربي، ونفهم ان التكتم هو
صفة ملازمة للعمل السياسي في
المجتمعات التقليدية، ولهذا
فان دعوتنا هذه لا ترمي الى
القفز على الواقع القائم او انكاره، بل
التأكيد على الحاجة الى علاج تدريجي يقوم
على تفهم كل طرف من اطراف العملية الديمقراطية لحاجات الآخر،
كمقدمة لا بد منها للتوصل الى توافقات على السياسة
المشتركة التي تحظى بالمشروعية ودعم
الجميع.
ليس من الصحيح مطالبة طرف
واحد بتقديم تنازلات كاملة دون مقابل، وليس
من الصحيح دعوته للانقلاع الفوري من
تقاليد مترسخة، بل ان مثل هذه
المطالبات قد تعزز الارتياب الذي نطمح
الى الخلاص منه. الصحيح في
اعتقادنا هو الاقرار بالمشكلة والعمل على تفكيكها تدريجيا،
خطوة مقابل خطوة، وتنازلا
مقابل تنازل. من نافل القول ان
الوصول الى حياة ديمقراطية كاملة ليس قرارا ينفذ
بين يوم وليلة،
بل عملية طويلة يحتاج
اولها الى قرار، لكنها في
جميع المراحل تحتاج الى عزم كما تحتاج الى صبر.
صحيفة الأيام البحرينية 23 / 1 / 2007م