‏إظهار الرسائل ذات التسميات الوعي التاريخي. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الوعي التاريخي. إظهار كافة الرسائل

09/08/2023

لماذا تركنا مقامات الحريري؟


ثمة عامل معطل لعقلانية التفكير ، احتمل انه موجود - بقدر او بآخر - في كل مجتمع على وجه الكوكب ، أعني به اعتبار الماضي مصدرا للقيم العليا ومعايير العلم. هذا العامل مثير للحيرة بعض الشيء ، فهو يبدو عقلانيا من جانب ، ومعطلا للعقلانية من جانب آخر.

دعنا نأخذ مثالا بسيطا كي تتضح المسألة: قبل 2400 عام رأى افلاطون ، الفيلسوف اليوناني ، ان الناس يتفاضلون بحسب طينتهم ، او جيناتهم كما نقول اليوم. ثمة اشخاص يولدون وهم مهيأون للجندية ، واخرون يولدون حكماء ومعلمين ، ويولد صنف ثالث ليحكم البلاد ، واخرون ليعملوا حدادين وفلاحين.. الخ. وعلى نفس النسق ثمة من يولد بعقل كامل ، مهيئا لاكتساب الفضائل ، وثمة من يولد ناقص العقل ، فلا يحظى من اسباب الفضيلة الا بقدره. وهذا التباين والتفاضل ضروري كي يستقر نظام العالم.

سادت هذه الرؤية طوال العصور الماضية ، وأخذت بها الكنيسة في عهد الدولة البيزنطية ثم الامبراطورية الرومانية المقدسة ، وأخذت بها الدولة الاسلامية منذ عهودها المبكرة ، واعتبرها علماء المسلمين من قبيل المسلمات. وهذا ظاهر في تمييزهم بين الاحرار والعبيد ، وبين النساء والرجال ، وبين العرب وغيرهم ، وبين قريش وغيرها.

حسنا.. ماذا يقول انسان اليوم عن هذه الرؤية العميقة الجذور في ثقافة العالم وتاريخه؟.

بناء على معرفتي المحدودة ، أفترض أن معظم الناس سيرفضونها. وربما جادلوا بان تحولات العلوم والتقنية في السنين الأخيرة ، قضت على اي دليل ربما يدعم الرؤية القديمة. لكن بعض الناس ربما يحاجج قائلا: هذا شيء آمن به آلاف العلماء طيلة قرون ، فهل كانوا جميعا جهلة او غافلين؟. لعل لديهم حجة من نوع ما ، أو دليل لم نعثر عليه. المهم انهم لم يتبنوا تلك الرؤية عبثا ولا جهلا بمعناها.

هذه حجة لا يمكن ردها. فلو رمينا أولئك الناس بالجهل ، لمجرد قبولهم فكرة نراها خاطئة ، فعلينا ان نعيد النظر في كل فكرة نتبناها اليوم ، فما من نظرية معاصرة إلا ولها جذور ممتدة في علوم الماضين. وقد أشرت في مقال الاسبوع المنصرم الى ان فكرة اليوم هي نتاج العبور من فكرة الأمس ، وفكرة الأمس مرتبطة بما قبلها وهكذا. ترى هل كان البرت اينشتاين ، أبرز علماء هذا العصر ، قادرا على انشاء نظريته التي غيرت مسار العلم ، لولا تراث جيمس ماكسويل واسحاق نيوتن. وهل كان نيوتن قادرا على وضع نظريته في الفيزياء ، لولا النتاج العلمي الباهر لغاليليو غاليلي ويوهان كبلر. وهل يمكن فصل هؤلاء عن نتاج كوبرنيكوس؟. وهكذا تتواصل السلسلة الى ابن الهيثم وبطليموس وارخميدس الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد.

هذا وجه من العملة. دعنا ننظر في الوجه الآخر: لماذا نعتمد الطب الحديث بدل علاجات ابن سينا ، لماذا نهتم بالرواية الحديثة وليس مقامات الحريري ، ولماذا نصفق للشعراء المعاصرين ولدينا تراث امرؤ القيس وعنترة بن شداد وطرفة بن العبد والنابغة الذبياني وعمرو بن كلثوم ، وسائر شعراء المعلقات وفحول شعراء العرب السابقين؟. ولماذا لا نكتفي بفيزياء نيوتن وغاليليو وبطليموس ، بدل العلماء المعاصرين ، ولماذا لا نكتفي بفقه الامام جعفر الصادق او ابي حنيفة او مالك او احمد او الشافعي ، بدل عشرات الآلاف من الفقهاء الذين جاؤوا بعدهم حتى يومنا هذا؟.

أعلم اننا جميعا نعرف الجواب: النظرية العلمية بنت زمانها ، ثم تذهب للارشيف. حسنا دعنا نسأل انفسنا: هل ينطبق المبدأ ذاته على العلوم المتصلة بالهوية والايمان؟. اظن ان الامر لا يستدعي مناقشة ، بل تأملا ذاتيا ومراجعة لمحتويات الذهن ، وربما مساءلة النفس عن مكان تلك المحتويات على خارطة الزمان.

الأربعاء - 23 مُحرَّم 1445 هـ - 9 أغسطس 2023 م    https://aawsat.news/pbpdx   

مقالات ذات علاقة 

الحداثة تجديد الحياة

حلم العودة الى منبع النهر

حول اشكالية الثابت والمتغير

الخروج من قفص التاريخ

سجناء التاريخ

طريق التجديد: الحوار النقدي مع النص

 عـلم الوقـوف على الاطـلال

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

العيش في ثياب الماضين

الفكــرة وزمن الفكـرة

في علاقة الزمن بالفكرة

في مبررات العودة الى التاريخ

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر

المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

12/10/2022

الخوف من التغيير

ربما تسألني: ما السر في حرص المجتمع التقليدي على اختلاق القيود والضوابط ، التي تفرغ الحرية من أي مضمون؟.

السر في رايي هو ادراك الجميع لحقيقة ان الحرية تسهل التغيير في الثقافة والقيم الاجتماعية. الخوف من التغير هو الدافع الأقوى لمقاومة الأفكار الجديدة. هذا ليس السبب الوحيد بطبيعة الحال ، فهناك أيضا حالة الكسل الذهني التي تجسدها المقولة الشهيرة "ليس في الإمكان ابدع مما كان". وللمناسبة فهذا القول المنسوب لابي حامد الغزالي أثار جدلا واسعا. والمفهوم انه استهدف التأكيد على كمال النظام الكوني وعجيب صنع الله. لكن معارضيه اعتبروه تحديدا لقدرة الله وتعطيلا. وصدرت رسائل عديدة بين مؤيد للغزالي ومعارض.

أما استشهادنا بذلك القول ، فبعيد عن هذا الاطار ، وناظر الى ما يقوله عامة الناس ، من أن الانسان قد وصل غاية العلم ، وأن ما سيأتي لن يكون اختراقا جديدا ، بل مجرد تكميل لما يعرفه الناس فعلا. كانت هذه الفكرة قوية في القرنين الماضيين. وينقل في هذا الصدد ان هنري ايلزورث ، المفوض الرسمي لتسجيل براءات الاختراع في الولايات المتحدة ، قد كتب للكونغرس عام 1843 بأن العلم والفن يواصلان التقدم عاما بعد عام ، بحيث يبدو اننا نقترب فعليا من نهاية الطريق. وقد تم تداول هذه الفكرة لاحقا في صيغة ان "كل ما يمكن اختراعه قد اخترع فعلا".

الخوف من التغيير يولد عادة في البيئات الثقافية التي ترى الماضي حصنا يحمي هويتها ، وتشرط قبول الفكرة الجديدة ، بكونها منسجمة مع فكرة حالية او قديمة. وعلى العكس من ذلك فان الرغبة في التغيير ، تنطلق من ذهنية تميل لتجاوز المألوف ، والبحث الدائم عن الجديد والمجهول. وهي تنمو – عادة – في البيئات التي تربي أعضاءها على حب المغامرة وكشف حجب الغيب. دعنا نأخذ مثالا من الفتوحات الكبرى في الجغرافيا مثل اكتشاف القارات والطرق البحرية والغابات الكبرى والصحارى.. الخ ، فمعظم هذه الكشوف حققها افراد مغامرون ، انطلقوا من دون علم دقيق بما سيصلون اليه ، لكنهم آمنوا بأن وراء حدود المعرفة القائمة ، ثمة عوالم أوسع تستحق ان نحاول كشفها. نفس المثال صحيح بالنسبة للكشوف في مجالات العلوم الطبيعية والاختراعات ، فقد انطلق جميعها من قناعة أصحابها بأن ما يعرفونه ليس كاملا ولا نهائيا ، وان عالمهم ليس سوى واحد من الممكنات ، وثمة ممكنات كثيرة غيره لاتزال غير مكشوفة. لولا ثقافة المغامرة لما عرف الانسان أمريكا ، ولا الطريق البحري الذي يلتف حول القارة الافريقية ، ولا حفرت قناة السويس. ولولا ثقافة المغامرة ما صنعت الطائرة وأنواع الادوية والأجهزة والأدوات ، التي جعلت انسان العصر حاكما في الكون ، بعدما كان محكوما بالظواهر الطبيعية وما نسج حولها من أساطير.

عودا على ما بدأنا به ، نقول ان شعور الناس بانهم أحرار في حياتهم ، احرار في تفكيرهم وفي تعبيرهم عن تلك الأفكار ، هو العامل الأعظم للتقدم ، لأنه ببساطة يجعل جميع الناس شركاء في صناعته. ثمة رأي مشهور يتفق فيه المحافظون والليبراليون ، فحواه ان الأمان والاستقرار شرط للنهوض الاقتصادي والعلمي. دعنا نفهم هذا على ضوء رؤية نيقولو مكيافيلي ، المفكر الإيطالي الشهير ، الذي يقول ان الناس لا يسعون للحرية من اجل الاستيلاء على السلطة ، فهم يدركون ان مقاعدها محدودة العدد ، وغالبا ما تكون محجوزة لآخرين. انما يسعى الناس الى الحرية لانها توفر لهم الأمان حين يتكلمون وحين يعملون.

لدينا دليل متين يثبت هذه الدعوى ، وهو المقارنة بين الدول التي توفر الحرية وتلك التي تحجبها كليا او جزئيا. ما نتح عن هذه السياسة في قرن او نصف قرن او ربع قرن ، برهان ساطع على ثمرة الحرية وعكسها.

 

الأربعاء - 17 شهر ربيع الأول 1444 هـ - 12 أكتوبر 2022 مـ رقم العدد [16024]

https://aawsat.com/node/3925741

مقالات ذات صلة

ابتكار المستقبل

اختيار التقدم

الأمل الآن وليس في آخر الطريق

بقية من ظلال الماضين

التقدم اختيار.. ولكن

 تلميذ يتعلم وزبون يشتري

 التمكين من خلال التعليم

الحداثة تجديد الحياة

خطباء وعلماء وحدادون

ركاب الدرجة السياحية

شكوك في العلاقة بين الثقافة والتقدم

فكرة التقدم باختصار

الفكرة القائدة ، مثال الواتس اب

كيف نتقدم.. سؤال المليون

ماذا تفعل لو كنت غنيا ؟

المكنسة وما بعدها

هيروهيتو ام عصا موسى؟

27/10/2021

تراثيات حسن حنفي

 

فقدنا في الأسبوع الماضي (21-اكتوبر-2021) العلامة الدكتور حسن حنفي ، المفكر البارز الذي كرس حياته لاحياء دور العقل وتجديد الثقافة العربية.

سوف اخصص هذه المساحة للتعريف بمحور رئيس في مشروعه الفكري ، وهو دعوته للحداثة من دون القطيعة التامة مع التراث. فهو يرى ان نهوض العالم الإسلامي ، مشروط بتحول "الحداثة" الى مضمون جوهري لثقافة المسلم المعاصر وحياته وتفكيره في المستقبل. أول معاني الحداثة هو ان يكون الانسان سيد حياته وصانعها.

د. حسن حنفي

ماذا تعني هذه الفكرة بالنسبة لعلاقة المسلمين بتراثهم؟

يتبنى حنفي رؤية الفيلسوف الالماني فريدريك هيجل ، في معنى الوعي التاريخي ، وخلاصتها ان التجربة التاريخية تؤثر بعمق في تشكيل وعي الانسان وذهنيته. هذه حقيقة لا يسع الانسان الحديث إنكارها. الاقرار بدور التجربة التاريخية في تشكيل أذهاننا ضروري لبدء المرحلة التالية ، اي استعادة الزمام ، بالانتقال من حالة الانفعال الكلي بتلك التجربة ، الى التحكم في حدود تأثيرها علينا.

يختلف انسان التقاليد عن انسان الحداثة ، بأنه مستغرق في الماضي بكليته ، مسلم بما فيه ولمن كان فيه ، وهو يفضل ان يصف نفسه كتابع ، خشية ان يتهم بالابتداع او المروق عن حدود الموروث.

أما انسان الحداثة فطبعه المروق والتمرد. وهو واع بأن تاريخه يؤثر فيه سلبيا وايجابيا. ولذا فهو مهتم بكشف العوامل المؤثرة على ذهنه ، سواء كانت قادمة من التاريخ او من الحاضر. الانسان الحديث واع بأن ما يفكر فيه وما يفعله ، ليس نتاج لحظته الراهنة بشكل كلي ، بل هو توليفة من مؤثرات شتى ، قديمة وجديدة ، عقلانية وعاطفية.

في نهاية المطاف يريد حنفي ان يسأل المسلم المعاصر نفسه: لماذا أهتم بتراث الاسلاف.. هل لأنه علم يقودني للحقيقة ، ام لأنه حبل يربطني بأسلافي؟. واذا كان الأول هو الجواب ، فلماذا نرجح علما قديما على علم جديد ، وإذا كان الثاني هو الجواب ، فما الذي يدفعني للارتباط بالاسلاف ، والى أي حد اريد الارتباط بهم؟.

لكن لماذا لا نترك هذا التراث تماما ، بدل ان نأخذ بعضه او نتحكم في تأثيره؟

يعتقد حنفي ان النهوض الحضاري لن يتحقق ، لو اكتفينا بمسايرة الحضارة القائمة والتعلم منها. كما لن نستطيع المساهمة في هذه الحضارة لمجرد التعلم منها.

نحن الان نتعلم الكثير من الغرب. لكننا لا نساهم جديا في مسارات الاختراع والاكتشاف والتطوير ، لاننا داخل الاطار التقني لحضارة الغرب ، لكننا خارج اطارها الثقافي. لعلنا خدعنا انفسنا حين تصورنا ان مئات الآلاف من الأطباء والباحثين الذين درسوا في الغرب ، او اتبعوا المنهج الغربي في البحث العلمي ، سوف يشكلون ، في نهاية المطاف ، مجتمعا لعلم الطب ، شبيه بذلك القائم في الغرب ، مجتمع ينتج العلم ويساهم في البحث والابتكار مثلما تساهم الاكاديميا ومراكز الابحاث الغربية.

لكننا نعلم ان هذا لم يحدث ، رغم مرور قرن من الزمن على اتصالنا بالغرب ، في هذا المجال العلمي ، وفي غيره. ما تحقق فعليا هو ان اولئك الباحثين والعلماء اقاموا "توصيلة" لعالم الطب الغربي ، يشبه توصيلة التلفون ، اما السنترال ، فلازال هناك ، وسيبقى هناك.

الطريق  السليم هو "عصرنة" الثقافة العامة ، أي إعادة وصلها بعالم اليوم وما فيه من تيارات وعلوم وهموم. وهذا يتطلب – بالضرورة –  التحرر من الارتباط القسري بالموروث ، وتحويله الى موضوع يتحكم فيه الانسان ولا يسلم له او يخضع لاملاءاته. سيطرة الانسان على حياته وخياراته هي الخطوة الأولى لاعادة بناء ثقافة تمد جذورها في أعماق الماضي ، وتتشابك في الوقت نفسه مع تيارات الحاضر.

التراث المفيد - وفقا للمرحوم حسن حنفي – هو التراث الذي يؤسس لرؤية عميقة متينة ، تساعدك في فهم العالم ، وليس التراث الذي يحبسك في حياة الاسلاف ، او يحول حياتك كلها الى تجوال بين القبور أو المتاحف.

الشرق الاوسط الأربعاء - 21 شهر ربيع الأول 1443 هـ - 27 أكتوبر 2021 مـ رقم العدد [15674]

https://aawsat.com/node/3268601/

مقالات ذات علاقة 

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

الخروج من قفص التاريخ

سجناء التاريخ

سياسة الامس وتاريخ اليوم

 عـلم الوقـوف على الاطـلال

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

 فضائل القـرية وحقائق المدينة

 في مبررات العودة الى التاريخ

 الكراهية

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر

المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد

 

رحلة البحث عن الذات

  قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني " حكاية سعودية " ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ...