27/10/2021

تراثيات حسن حنفي

 

فقدنا في الأسبوع الماضي (21-اكتوبر-2021) العلامة الدكتور حسن حنفي ، المفكر البارز الذي كرس حياته لاحياء دور العقل وتجديد الثقافة العربية.

سوف اخصص هذه المساحة للتعريف بمحور رئيس في مشروعه الفكري ، وهو دعوته للحداثة من دون القطيعة التامة مع التراث. فهو يرى ان نهوض العالم الإسلامي ، مشروط بتحول "الحداثة" الى مضمون جوهري لثقافة المسلم المعاصر وحياته وتفكيره في المستقبل. أول معاني الحداثة هو ان يكون الانسان سيد حياته وصانعها.

د. حسن حنفي

ماذا تعني هذه الفكرة بالنسبة لعلاقة المسلمين بتراثهم؟

يتبنى حنفي رؤية الفيلسوف الالماني فريدريك هيجل ، في معنى الوعي التاريخي ، وخلاصتها ان التجربة التاريخية تؤثر بعمق في تشكيل وعي الانسان وذهنيته. هذه حقيقة لا يسع الانسان الحديث إنكارها. الاقرار بدور التجربة التاريخية في تشكيل أذهاننا ضروري لبدء المرحلة التالية ، اي استعادة الزمام ، بالانتقال من حالة الانفعال الكلي بتلك التجربة ، الى التحكم في حدود تأثيرها علينا.

يختلف انسان التقاليد عن انسان الحداثة ، بأنه مستغرق في الماضي بكليته ، مسلم بما فيه ولمن كان فيه ، وهو يفضل ان يصف نفسه كتابع ، خشية ان يتهم بالابتداع او المروق عن حدود الموروث.

أما انسان الحداثة فطبعه المروق والتمرد. وهو واع بأن تاريخه يؤثر فيه سلبيا وايجابيا. ولذا فهو مهتم بكشف العوامل المؤثرة على ذهنه ، سواء كانت قادمة من التاريخ او من الحاضر. الانسان الحديث واع بأن ما يفكر فيه وما يفعله ، ليس نتاج لحظته الراهنة بشكل كلي ، بل هو توليفة من مؤثرات شتى ، قديمة وجديدة ، عقلانية وعاطفية.

في نهاية المطاف يريد حنفي ان يسأل المسلم المعاصر نفسه: لماذا أهتم بتراث الاسلاف.. هل لأنه علم يقودني للحقيقة ، ام لأنه حبل يربطني بأسلافي؟. واذا كان الأول هو الجواب ، فلماذا نرجح علما قديما على علم جديد ، وإذا كان الثاني هو الجواب ، فما الذي يدفعني للارتباط بالاسلاف ، والى أي حد اريد الارتباط بهم؟.

لكن لماذا لا نترك هذا التراث تماما ، بدل ان نأخذ بعضه او نتحكم في تأثيره؟

يعتقد حنفي ان النهوض الحضاري لن يتحقق ، لو اكتفينا بمسايرة الحضارة القائمة والتعلم منها. كما لن نستطيع المساهمة في هذه الحضارة لمجرد التعلم منها.

نحن الان نتعلم الكثير من الغرب. لكننا لا نساهم جديا في مسارات الاختراع والاكتشاف والتطوير ، لاننا داخل الاطار التقني لحضارة الغرب ، لكننا خارج اطارها الثقافي. لعلنا خدعنا انفسنا حين تصورنا ان مئات الآلاف من الأطباء والباحثين الذين درسوا في الغرب ، او اتبعوا المنهج الغربي في البحث العلمي ، سوف يشكلون ، في نهاية المطاف ، مجتمعا لعلم الطب ، شبيه بذلك القائم في الغرب ، مجتمع ينتج العلم ويساهم في البحث والابتكار مثلما تساهم الاكاديميا ومراكز الابحاث الغربية.

لكننا نعلم ان هذا لم يحدث ، رغم مرور قرن من الزمن على اتصالنا بالغرب ، في هذا المجال العلمي ، وفي غيره. ما تحقق فعليا هو ان اولئك الباحثين والعلماء اقاموا "توصيلة" لعالم الطب الغربي ، يشبه توصيلة التلفون ، اما السنترال ، فلازال هناك ، وسيبقى هناك.

الطريق  السليم هو "عصرنة" الثقافة العامة ، أي إعادة وصلها بعالم اليوم وما فيه من تيارات وعلوم وهموم. وهذا يتطلب – بالضرورة –  التحرر من الارتباط القسري بالموروث ، وتحويله الى موضوع يتحكم فيه الانسان ولا يسلم له او يخضع لاملاءاته. سيطرة الانسان على حياته وخياراته هي الخطوة الأولى لاعادة بناء ثقافة تمد جذورها في أعماق الماضي ، وتتشابك في الوقت نفسه مع تيارات الحاضر.

التراث المفيد - وفقا للمرحوم حسن حنفي – هو التراث الذي يؤسس لرؤية عميقة متينة ، تساعدك في فهم العالم ، وليس التراث الذي يحبسك في حياة الاسلاف ، او يحول حياتك كلها الى تجوال بين القبور أو المتاحف.

الشرق الاوسط الأربعاء - 21 شهر ربيع الأول 1443 هـ - 27 أكتوبر 2021 مـ رقم العدد [15674]

https://aawsat.com/node/3268601/

مقالات ذات علاقة 

اعادة بناء القرية .. وسط المدينة

الاموات الذين يعيشون في بيوتنا

الخروج من قفص التاريخ

سجناء التاريخ

سياسة الامس وتاريخ اليوم

 عـلم الوقـوف على الاطـلال

العودة إلى ثقافة الزمن المنقضي

 فضائل القـرية وحقائق المدينة

 في مبررات العودة الى التاريخ

 الكراهية

كيف تكون رجعيا.. دليل مختصر

المحافظة على التقاليد .. اي تقاليد

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...