‏إظهار الرسائل ذات التسميات احياء علوم الدين. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات احياء علوم الدين. إظهار كافة الرسائل

28/08/2019

من دين الآخرة الى دين الدنيا


 بعض القراء الاعزاء الذين جادلوا مقال الاسبوع الماضي ، استغربوا ما ظنوه انكارا لاهتمام الاسلام بالحياة الدنيا ، مع كثرة التعاليم الدينية التي تؤكد على الموازنة بين الدنيا والاخرة ، وبين المادي والروحي في حياة البشر.
والحق ان هذا لم يكن محل اهتمام المقال ، بل كان غرضه التأكيد على المصلحة العقلائية كمعيار لاختبار سلامة الخطاب الديني ، بكل مافيه من أحكام فقهية او تفسير للنص او توجيه عام.
يهمني هنا ايضاح الفارق بين مانسميه "الدين" أي ما اراده الله لعباده ، وما نسميه "المعرفة الدينية" ، اي فهم الناس لمراد الخالق. ان حديثنا يتناول فهم الناس وليس مراد الخالق سبحانه. وهذا يشمل – للمناسبة – الآيات والروايات التي يعرضها بعض المحتجين كدليل على رأيهم. لأن الفكرة التي تتضمنها الآية او الرواية ، قد تطابق المعنى الذي يحتجون له ، وربما تختلف عنه. ان تماثل الالفاظ لايدل دائما على اتحاد المعنى. ودلالة اللفظ وحدودها وقيودها ، موضوع لبحث عميق ومطول ، يشكل الجزء الاكبر من جدالات أصول الفقه ، وهي اكثرها تعقيدا.
اطار النقاش اذن هو اجتهاد البشر ومحاولاتهم لفهم الامر الالهي ، وليس مراد الخالق ذاته.
اود الاشارة ايضا الى ان موقف كل طرف في هذا النقاش ، مسبوق بموقف فلسفي اجمالي ، يتلخص في السؤال الآتي: هل جاء أمر الله لاصلاح الدنيا ام الآخرة؟. فمن يرى ان غرض الدين هو اصلاح الدنيا ، يعتبر النجاح الاخروي بديهيا لمن أحسن العمل في دنياه ، حتى لو لم يكن الفوز الاخروي غرضه الوحيد او الرئيس.
وبعكس هؤلاء ، فان الذين اعتبروا غاية الدين هي الفوز الاخروي ، قرروا أيضا ان الدنيا ممر مؤقت. فنسبتها الى الاخرة نسبة الوسيلة الى الغاية ، او نسبة الظل الى الأصل. وحسب تعبير الامام ابو حامد الغزالي (ت - 1111م) فان " أكثر القرآن مشتمل على ذم الدنيا وصرف الخلق عنها ، ودعوتهم إلى الآخرة. بل هو مقصود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ولم يبعثوا إلا لذلك". (الغزالي: احياء علوم الدين 3/202)
الفرضية المسبقة لهذه المقالة هي الموقف الأول ، اي القول بان غاية الشريعة صلاح الدنيا ، وان النجاح الأخروي تابع لها ، وهو – كما يتضح - نقيض رأي الغزالي رضوان الله عليه.
سوف استعرض في مقالة قادمة أمثلة توضح انعكاس كل من الرأيين. لكني اكتفي هنا بالاشارة الى تاثير كل منهما على منهج البحث والنظر. وامامي مثال الجدل حول التبرع بالاعضاء وزرعها. وهو نقاش مضى عليه عقدان ولازال قائما. فقد لاحظت ان الداعين لتجويزه ، استخدموا أدلة عقلائية بسيطة ، هي مصالح دنيوية ، كالقول بان العضو الذي تهديه في حياتك او بعد مماتك ، سيمنح حياة جديدة لمريض مهدد بالموت ، وان الانسان يملك جسده ، فله حق التبرع ببعضه.
أما الفريق الثاني فقد بنى موقفه الرافض او المتردد ، على أحاديث نبوية ، يدل مضمونها على حرمة التبرع بالاعضاء (لأن المتبرع لا يملك جسده)، او حرمة مقدماتها (مثل التقطيع الذي يعتبرونه مصداقا للمثلة المحرمة).
بعبارة اخرى فان الفقهاء لا يجادلون ادلة الفريق الاول ، بل يعرضون أدلة تنتمي الى عالم مفهومي وقيمي مختلف (غير دنيوي). وبالمثل فان الفريق الاول لا يرتاح لأدلة الفقهاء ، رغم انها مدعومة بروايات منسوبة للنبي (ص). هذا يكشف عن الفجوة الفاصلة بين الخطاب الديني التقليدي وحاجات زمنه. ولنا عودة الى الموضوع في مقال قادم بعون الله.
الشرق الاوسط الأربعاء - 27 ذو الحجة 1440 هـ - 28 أغسطس 2019 مـ رقم العدد [14883]

مقالات ذات علاقة


17/04/2019

عقل الاولين وعقل الاخرين

الذين يعارضون اعتماد العقل مصدرا للتشريع والمعرفة الدينية ، يقيمون موقفهم على منظومة استدلال  ، يرونها مناسبة لحمل تلك الدعوى.

لكن التأمل في هذه الادلة يكشف عن نقاط ضعف اساسية ، أبرزها في ظني هو ان الاطار الذي يدرس فيه الموضوع ، ليس محددا على نحو دقيق. ولهذا دخلت فيه قضايا واستدلالات لا علاقة لها به ، كما اختلطت في سياقه العبارات الوصفية والتفسيرية ، بتلك التي تنطوي على احكام وقيم. بل وجرى استعمال هذه في موقع تلك وبالعكس. 

ومن ذلك مثلا القول الشائع ، بأن ابليس تحول من ملك الى شيطان رجيم ، حين اتبع عقله فعصى أمر ربه. ونعلم ان هذا ليس دليلا في هذا الموضع ، واستعماله فيه نوع من الحشو والقصص لا العلم.

ولعل الفوضى المهيمنة على النقاش سببها اتخاذه صفة المساجلة بين خصمين ، لا يريد احدهما معرفة حجج الآخر ، الا لغرض وحيد هو تثبيت موقفه. ولهذا ايضا لا أرى امكانية لتوصلهما الى رؤية موحدة. فكلاهما يعبر عن موقف فكري مرتبط بدائرة مصالح اجتماعية ، على النحو الذي أسماه توماس كون بالبرادايم ، او ما نسميه أحيانا بالنسق. ذلك الموقف اذن امتداد لمنظومة متبنيات ثقافية وانحياز اجتماعي ، لن تنفك اجزاؤه عن بعضها البعض ، بمجرد النقاش.

في زاوية ثانية نلاحظ ان النقاش حول دور العقل ، يعاني – كمعظم النقاشات المماثلة في الفكر الاسلامي – من ضعف واضح في تحديد المفاهيم المحورية ، التي يتوجب الاتفاق على تعريفها  كي يكون النقاش متصلا. مبرر هذه الحاجة هو ان بعض المفاهيم ، مثل "العقل" ، "النص" ، "الشريعة" و"الجماعة" الخ .. تحولت بشكل عميق ، لاسيما خلال القرن العشرين ، عن التركيب الذي كان معهودا حين بدأ هذا الجدل ، مع اشتهار منهج الامام ابو حنيفة في الاجتهاد ، قبيل منتصف القرن الثاني الهجري.

لابأس بالتذكير هنا بأن مفهوم "العقل" الذي عرفه الاسلاف ، كان اقرب للمفهوم الذي اشتهر عند فلاسفة اليونان ، اي اعتباره اداة مستقلة قادرة بمفردها على ادراك الكمالات ومواضع الجمال ، وبالتالي تمييز  الحقائق والفضائل والحكم على موضوعاتها.

اما "العقل" الذي نناقشه اليوم  فهو مختلف في تعريفه وفي تقييم عمله. ولعل أقرب المفاهيم القديمة اليه ، هو ما كان يطلق عليه "بناء العقلاء" ، الذي تشبه صورته الاصلية مفهوم العرف العام. جدير بالذكر ان الامام الغزالي كان قد اشار في ذيل كتاب العلم من "احياء علوم الدين" الى ان الخلاف على المفاهيم وحدودها ، كان واسعا حتى في زمنه (450-505ه) ، وحسب تعبيره فان أكثر "التخبيطات إنما ثارت من جهل أقوام طلبوا الحقائق من الألفاظ فتخبطوا فيها لتخبط اصطلاحات الناس في الألفاظ".

كذلك الحال في مفهوم "النص" الذي كان ينظر اليه في السابق كتعبير منفرد ونهائي عن الحقيقة ، بينما ينظر اليه اليوم كوعاء للحقيقة ، وفي بعض الحالات قيدا عليها. ولذا نحتاج أحيانا لتجاوزه ، من اجل تحرير الحقيقة او الرسالة المنطوية فيه ، من قيود التاريخ وانعكاسات الظرف عليه وعلى فهمه.

زبدة القول ان العقل الذي يدور حوله الجدل الذي استعرضناه في الاسبوعين الماضيين ، ليس واحدا او محددا. ان ما يقال عنه وعن دوره ، تأييدا او رفضا ، قد يتعلق بعقل متخيل ، تتعدد صوره ومفهوماته بقدر ما يتعدد المشاركون في الجدل حوله.  ولذا فلعل الأجدى ان يبدأ الناس بتحديد مفهوم العقل الذي يعنونه.

 


الشرق الاوسط الأربعاء - 11 شعبان 1440 هـ - 17 أبريل 2019 مـ رقم العدد [14750]

مقالات ذات علاقة

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...