‏إظهار الرسائل ذات التسميات النسق. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات النسق. إظهار كافة الرسائل

04/05/2022

لغة ضيقة


اود أولا تهنئة القراء الأعزاء بعيد الفطر المبارك. أعاده الله عليكم جميعا في خير وسلام. اريد في هذه الكتابة تسليط الضوء على مشكلة ، ظننتها معيقا للنقاش في قضايا الثقافة العامة ، بل كل قضية تطرح للنقاش العام.

لدي مثال من تجربة واقعية ، توضح واحدا من أبعاد المسألة: لنفترض انك – مثلي – تعارض عقوبة الإعدام في هذا الزمن ، لأسباب علمية وتجريبية. ولنفترض انك صرحت بهذا في مجلس فعلي او افتراضي (تويتر او فيسبوك مثلا). فماذا تتوقع من ردود فعل؟.

لو كنت رجل دين مشهورا ، فسوف يدعمك 20% من القراء ويعارضك 50% بينما يعتصم البقية بالصمت انتظارا لنتيجة الجدل. اما لو كنت شخصا عاديا ، فسوف يدعمك 10% ويعارضك 60%. بعض المعارضين سيقول: كيف يتبنى مسلم رأيا كهذا.. لابد انه علماني او مأجور  ، او باحث عن الشهرة!. أي انهم لا يضعون في اعتبارهم احتمال كونك صاحب راي او استدلال مختلف.

عدا هذا ، ستحظى بخمسة اشخاص او عشرة ، يناقشون الفكرة ويسألونك عن الدليل ، وعن الفوائد المحتملة لتطبيق الفكرة او العكس. وهؤلاء القلة هم زبدة المجتمع كما نعلم.

-         لماذا تزيد مساحة القبول حين يكون المتحدث رجل دين؟

الجواب معروف. لكني سأطرق زاوية أخرى ، هي محور هذه الكتابة. وخلاصتها ان اللغة تسمح بمستويات متعددة للمعنى ، وقد تنصرف أحيانا الى معان غير مألوفة. دعنا نمثل بكلمة "عين" التي تعني بئر الماء وأداة الابصار والوجيه في قومه وقلب الشيء او ذاته. ولها تصريفات كثيرة ، جمعها ابن منظور صاحب "لسان العرب" في نحو ثلاث صحائف. وهكذا كلمة "ضرب" و "قصاص" و "قتل" و "ردع" وأمثالها. لكل من هذه الالفاظ طبقات ومستويات من المعنى ، تذهب أحيانا الى معان غير مطروقة.

اللغة – مثل أي عنصر ثقافي أو أداة تواصل – تتطور عبر الزمن ، بتأثير التحولات الاقتصادية والسياسية في المجتمع الذي يستعملها ، وارتفاع مستوى الثقافة والعلم  ، إضافة للتواصل مع الأقوام والثقافات المباينة.

تمتاز اللغة العربية بان لديها خزانا مرجعيا ، هو القرآن والسنة والعلوم التي نشأت حولهما. هذا تراث متنوع. (أسميه تراثا او موروثا ، لأنه غير مصطنع حديثا ، بل انتقل الينا من الاسلاف ، بنصه وفصه وقضه وقضيضه). لكن رغم تنوع العلوم فيه ، فان لعلم الفقه والكلام (العقيدة) هيمنة لا تنازع. أما سائر العلوم التراثية فخادمة للفقه والكلام. ومنذ البدء قرر حملة علم الدين انه علم للعمل ، فغايته توضيح التكاليف للمؤمنين. وتبعا لهذا اجتهدوا في تحديد "معنى وحيد" لكل لفظ في النص او حوله. وتعرفنا على قواعد جديدة لهذا الغرض ، مثل تمييزهم بين الحقيقة اللغوية والحقيقة الشرعية ، ومرادهم تحديد مراتب وانساق تحدد معاني الالفاظ.

بعبارة أخرى فان علوم الدين تدور في محيط لغوي ضيق نسبيا. وحين يأتي عالم او مبتكر او فيلسوف ، فيشير الى معان محتملة ، غير ما ورد في "التراث الكبير" ، فسوف يرفض اقتراحه بدعوى كونه "خارج دائرة الدين" لأنه - ببساطة - غير مألوف عند حملة العلم الديني وقرائهم.

يظهر ضيق المحيط اللغوي لعلم الدين ، في محدودية النقاشات التي تدور حول أي قضية. في النقاش حول الغاء عقوبة الإعدام مثلا ، سيرد عليك جميع المعارضين تقريبا بنفس الآية ونفس الحديث ونفس القول الفقهي (المتعلق بعقوبة القتل). أي ان النقاش سينحصر بكليته في نطاق محدود ، لا جديد فيه ، بل كله منقول ويمكن ان يقال في أي عصر.

لقد اتضح الآن لماذا يقبل الناس من رجل الدين وليس من غيره. وخلاصته ان رجل الدين يكرر عليهم ما يعرفونه فعلا وما كان يعرفه آباؤهم ، وهو محدد المعنى لا يحتمل النقاش والتفسير. لكن حين تأتي باستدلالات من خارج هذا النسق ، او حين تستعمل لغة غير لغة التراث ، فسوف تبدو كمن "يؤذن في مالطا".

الأربعاء - 3 شوال 1443 هـ - 04 مايو 2022 مـ رقم العدد [15863]

https://aawsat.com/node/3626411

مقالات ذات علاقة

 

أصنام الحياة

التشريع بين المحلي والكوني

حول تطوير الفهم الديني للعالم

دعوة لمقاربة فقهية جديدة

دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم

الـدين والمعـرفة الدينـية

عن الدين والخرافة والخوف من مجادلة المسلمات

فقه جــديد لعصر جـديد

الفكــرة وزمن الفكـرة

من اللغة الى الرؤية الكونية

من عقلية القطيع الى تصلب الشخصية

نسبية المعرفة الدينية

نقد التجربة الدينية

08/01/2013

"اخبرني من اثق به..."


نحن لا نتفق في افكارنا ورؤيتنا للعالم ، لاننا ننظر الى الشيء الواحد بخلفيات متباينة ، فيفهمه كل منا على نحو مختلف. ولهذا السبب ايضا ، فان النقاش بين المنتمين الى تيارات مختلفة ، لايؤدي غالبا الى الاتفاق على نتيجة واحدة ، او تسليم احدهما برأي الاخر مهما قويت ادلته. هذه خلاصة الرؤية التي قدمها المفكر الامريكي توماس كون في نقده للقائلين بان التجربة العملية برهان على سلامة الفكرة او خطئها.

خصص كون كتابه الشهير "بنية الثورات العلمية" لشرح مفهوم النسق=paradigm ، وكيف تتقاطع في داخله القضايا العلمية البحتة مع المصالح الاجتماعية ، التي تحكمها في معظم الاحوال تصورات انطباعية وغير علمية بالمعنى الدقيق.

 

النسق او الباراديم - كما صاغه كون - نظام اطاري شبه مغلق ، يمنح اتباعه هوية جمعية تميزهم عن غيرهم. يتضمن هذا الاطار نظريات ومناهج تفكير وعمل ، وهيكل علاقات وتراتب، يتعامل معها الاعضاء كمسلمات. مجموع هذه الاعتبارات هي اشبه بايديولوجيا ، تقدم نفسها كصورة حقيقية للعالم. كل شيء داخل النسق يعتبره الاعضاء – او الاتباع - صحيحا ومعياريا، وليس موضوعا للنقاش. وبالعكس من ذلك فكل شيء خارج النسق مرفوض، او على الاقل مشكوك وموضع مساءلة.

يستريح الانسان – غريزيا – الى الاشخاص الذين يالفهم ويشاركونه اراءه وميوله ولغته وطريقة عيشه. ويستريح اكثر الى من يتبعونه ويقدرونه ويخدمونه. ولهذا فهو يتعامل مع المعلومات التي ينقلونها اليه بقدر كبير من الثقة ، ويقبلها من دون نقاش. كما يميل الى قول الاراء التي تستجيب لرغباتهم ، وتلبي تطلعاتهم ، وتعزز علاقتهم به. مقولة "اخبرني من اثق به..." مثال واحد على هذا السلوك.

  تقوم هذه العلاقة بين المنتمين الى نسق واحد. وهي اكثر تركيزا بين الاشخاص الذين يطورون رابطة اعمق فيما بينهم ، مثل الانتماء الى تيار سياسي او فكري واحد ، او جماعة نشاط واحدة. حيث يضاف الى الالفة والقرب الاجتماعي ، وحدة الافكار والاهداف والمواقف والهموم. ويصل التوحد الى اعلى درجاته في مرحلة "التنميط"، حين يتفق اولئك الاشخاص على صفة او بصمة تعبر عن مجموعتهم ، واخرى تعبر عن كل فريق من المجموعات  المنافسة.

صراعات الطوائف والاحزاب والمجموعات الدينية ، النشطة حاليا في بلادنا وحولها ، تكشف عن قوة تاثير النسق في سلوك الافراد ، القادة واتباعهم على حد سواء ، الا ما قل وندر.

 تزداد اهمية النسق في ظروف التازم. وتلعب الثقافة دورا جديدا يتمثل في حراسة الجماعة ، حزبا كانت او تيارا او مذهبا. وفي ظرف كهذا ، يصبح الصراع عاملا مؤثرا في فهم المصادر الثقافية ، وبينها الدين.  ولذا نجد اللغة الدينية مستعملة بكثافة في الصراع بين الفرقاء الذين ينتمون جميعا الى دين واحد ، لكنهم يستعملون مصادره بطرق متباينة ، ولاغراض متعارضة .

 الاقتصادية 8 يناير 2013    http://www.aleqt.com/2013/01/08/article_723228.html

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...