‏إظهار الرسائل ذات التسميات قلق الهوية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات قلق الهوية. إظهار كافة الرسائل

21/03/2024

رحلة البحث عن الذات

 

قلت في الاسبوع الماضي ان كتاب الاستاذ اياد مدني "حكاية سعودية" ليس سيرة ذاتية بالمعنى الدقيق ، وان بدا هكذا. وسألت نفسي حينئذ: ان لم يكن سيرة ذاتية ، فما هو موضوعه اذن ، ما الذي يقوله الكتاب وما الذي اراده الكاتب؟.

بالنسبة لي فالكتاب اقرب الى دراسة في "تاريخ الافكار". وهذا - للمناسبة – حقل علمي لم ينل حظه من الاهتمام حتى اليوم. وأذكر مثلا ان أعمال الفيلسوف البريطاني ايزايا برلين (1909-1997) تصنف عادة ضمن هذا الحقل. لعل غيري من القراء صنفه كدراسة في تكوين الهوية. والحق ان هذا الوصف اقدر على الجمع بين فصول الكتاب.

المدينة المنورة التي انطلق منها الكاتب أحتلت جانبا محدودا من الفصل الاول. فقلت لنفسي: ان سيرة الشخص هي – في جانب رئيسي - تاريخ المكان الاجتماعي الذي ينتمي اليه ، فلماذا لا يبدو المكان بارزا هنا؟. وضعت بعض الاحتمالات ، لا استطيع الجزم بأي منها. احتمالات من قبيل ان المدينة منذ تلك الحقبة ، أي ستينات القرن العشرين ، لم تكن مجتمعا مستقرا  بل لعل الوصف الاقرب اليها انها مجتمع في حال سيولة ، يكثر الآتون اليها ويكثر الخارجون منها. وبالنظر لخصوصية الوضع الديني – العلمي للمدينة ، فهذه الحركة البشرية تجلب معها ثقافات متفاوتة واعراقا مختلفة ، تحتاج لوقت طويل كي تندمج فتشكل وحدة اجتماعية. وهو وقت لم يكن متاحا في غالب الاحوال.

لكن لو اعتمدنا تفسير الكاتب نفسه ، فهو يأخذنا سريعا الى رحلته المصرية ثم الامريكية ، وهما – فيما بدا لي – المرحلتان الاعمق اسهاما في تكوين الاسئلة التي شغلت ذهنه طيلة العقدين التاليين. المهم اذن هو ولادة الاسئلة التي ستحدد مسار الحياة.

في الفصل الثاني سنفهم العلاقة بين نكبة حزيران 1967 وبين اختياره للصحافة كمحور لحياته التالية. الواقع ان معاناته كطالب أجنبي في الولايات المتحدة في تلك السنوات ، قد عمقت شعوره بالحاجة لتصميم هوية "يختارها بنفسه" لا الهوية التي يفرضها المحيط. خلال هذه المكابدة ، كان قد لاحظ النقطة الغامضة التي نادرا ما التفت اليها أمثالنا ، اي عملية القولبة او التنميط القسري التي يفرضها عليك المحيط ، فتتقبلها بصورة عفوية لانك لا تعرف بديلا ، او تضطر لقبولها لانك لا تحتمل كلفة البديل. في الفصل 12 يقدم مدني معالجة عميقة ومفصلة الى حد ما عن هذه القصة ، ويذكرنا بمقولة شهيرة للمناضل الجنوب افريقي ستيف بيكو "ان اقوى سلاح في يد الجبابرة هو عقل المقهورين".

لقد رسمت المجتمعات الغربية صورة للعالم الاسلامي ، تجعله مستحقا للقهر ، لانه عاجز عن اكتشاف تخلفه ، وعاجز في الوقت نفسه عن تجاوز تلك المحنة ، او ربما غير راغب في التغيير. هذه الفكرة تقبلها كثير من المسلمين ، وباتت – وهذا هو الجانب المؤلم في القصة – مبررا للتعامل معهم تعاملا فوقيا ، او حتى تبرير اذلالهم. وضع العرب والمسلمون في موقف من يتوجب عليه تبرير قناعاته وسلوكياته ، والإجابة على كل سؤال يختاره الطرف الاخر. ان تقبل المسلم لهذا الموقف واعتياد الطرف الآخر عليه ، انشأ تعريفات ضيقة لما هو صحيح وما هو خطأ ، اي ما يسمح بقوله وما يجب السكوت عنه. وهذي هي المرحلة الحاسمة في توليف الهوية الفردية.

لم يقل اياد مدني صراحة انه اراد اصدار صحيفة باللغة الانكليزية ، كي تساهم في تصحيح هذه الصورة البائسة ، مع انه أشار الى ان صحيفة كهذه ، سوف تخبر العالم بان لدى هذه البلاد واهلها ما يستحق ان يقال وما يجب الاصغاء اليه. المرحلة الاخيرة في رحلة البحث عن الذات ، هي العودة الى المكان الذي خرج منه. المهمة الرئيسية الآن هي ان تختار هويتك بنفسك. ربما لا يرتاح الاخرون لرؤيتك على هذا النحو ، لكن المهم ان تقتنع بها أنت ، حينئذ سيعمل الزمن لصالحك وسيضطر الاخر الى قبولها في نهاية المطاف. هذا هو ملخص الحكاية السعودية.

الشرق الاوسط الخميس - 11 رَمضان 1445 هـ - 21 مارس 2024 م

https://aawsat.com/node/4923371

مقالات ذات صلة

 اشكالية الهوية والتضاد الداخلي

أن نفهم الآخرين كما هم لا كما نتصورهم

تأملات في حدود الفردانية

تكون الهوية الفردية

حكاية سعودية.. تحولات اياد مدني

حول الانقسام الاجتماعي

الخيار الحرج بين الهوية والتقدم

عن الهوية والمجتمع

القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كيف تولد الجماعة

مسيرة الهويات القاتلة

الهوية المتأزمة


03/05/2023

هل يمثل الذكاء الصناعي تهديدا للهوية؟

 

واجهت هذا السؤال في سياق النقاش المتعلق بكتاباتي الأخيرة. واكتشفت لاحقا انه مطروح على نطاق واسع في الولايات المتحدة وأوروبا ، وثمة مهنيون يجاهرون بالقلق على مكانتهم ووظائفهم ، مع تزايد الاعتماد على الأنظمة الذكية (انظر على سبيل المثال البحث الذي نشرته مجلة البحوث الطبية JMIR حول الميل لمقاومة الذكاء الصناعي بين الأطباء وطلبة كليات الطب).

بالمثل فان النقاش حول الموضوع قد بدأ بالفعل في مثل مجتمعنا. لكن يبدو لي انه يلامس جوانب أكثر حساسية ، تتعلق خصوصا بالهوية الموروثة ، الدينية والاثنية. ولعله سيزداد سخونة في الأشهر القادمة ، بعد تبلور التأثيرات الفعلية للوافد الجديد في السوق والمجتمع.

لابد من القول ابتداء ان هناك من لا يرى في الذكاء الصناعي خطرا داهما ، فهوية المجتمع لم تتأثر جديا بتوسع الانترنت ومن قبلها البث التلفزيوني الفضائي. وفقا لهذه الرؤية فان الهوية الموروثة قوية بما يكفي لاحتواء التحدي التقني أيا كان ، كما أن الذكاء الصناعي ليس من نوع التحولات العميقة ، التي تلامس جوهر تفكير الانسان او رؤيته لذاته والعالم ، أي ما نسميه هويته. هذا بالطبع جواب سهل ولا يثير القلق. غير ان مبرراته لا تبدو قوية او مقنعة.

لكن لو أردنا النظر للتهديد المذكور كاحتمال قائم ، بغض  النظر عن مستوى تأثيره النهائي ، فلعلنا نذهب الى سؤال آخر تحليلي ، يتناول المسارات المحتملة لتأثير الذكاء الصناعي على الهوية ، أي  كيف يؤثر وأين يظهر تأثيره؟.

استطيع الإشارة بايجاز الى ثلاث دوائر يتجلى فيها ذلك التأثير ، واترك التفصيل لمناسبات أخرى في المستقبل. في كل من هذه الدوائر سنرى انكماشا لقنوات التواصل بين الأجيال. وهي – كما نعرف – الأداة الرئيسية التي يستعملها المجتمع لتمرير هويته وثقافته الى الأجيال الجديدة.

الأولى: الذكاء الصناعي مرحلة ثقافية/تاريخية لها متطلبات تقنية ، تتجاوز المتطلبات الخاصة بتصفح الانترنت او الاتصالات الشبكية التي اعتدناها حتى الآن. ولهذا فان المستفيد الأول من أدوات الذكاء الصناعي ، هو جيل الشباب وعدد قليل من المحترفين الأكبر سنا. اما الغالبية العظمى ممن تجاوز سن الشباب ، فلن تستفيد منه ، لأنها لا تطيق تعلم فن جديد ، خاصة ان لم تكن في حاجة ماسة اليه. لقد رأينا حالة شبيهة في مطلع القرن الجاري ، حينما دخل العالم عصر الانترنت ، وبات معظم المعاملات الرسمية والاقتصادية رقميا. يومذاك وقف آلاف من كبار السن موقف الحائر ، ثم قرر غالبيتهم الانسحاب الى الهامش تاركا للشباب هذا العالم الجديد. ان شباب ذلك اليوم هم كهول اليوم ، ومن المرجح ان ينقسموا بين راغب في عالم الذكاء الصناعي وبين زاهد فيه.

الثانية: سوف تزداد قدرة الجيل الجديد على الوصول الى مصادر المعلومات. وبالتالي سوف ينكمش دور العوامل الداخلية في تشكيل الهوية. كما ان أهمية المكان سوف تنكمش جديا ، فلا يعود له تأثير حاسم على الوظيفة والمكانة ، ولا على الالتزامات ذات الطبيعة الثقافية.

الثالثة: الذكاء الصناعي يؤذن بظهور اقتصاد جديد ، لم يسبق ان جرى تعريفه ضمن الثقافة ومنظومات القيم الخاصة بالمجتمع. وبالتالي فهو لا ينضوي تحت المنظومة الأخلاقية والعرفية القائمة. في هذه الحالة ستكون اخلاقيات وتقاليد الاقتصاد الجديد متأثرة بالمجتمع الجديد ، مجتمع الشبكة حسب التصوير الذي اقترحه مانويل كاستلز ، والذي يتألف من كافة الأشخاص الذين نتواصل معه على نحو شخصي او ثقافي او اقتصادي ، بواسطة الشبكة وباستعمال منطقها وادواتها. نحن اذن بصدد مفاهيم جديدة لتعريف الذات واخلاقيات التعامل ومعنى الاختلاف بينك وبين الاخرين ، أي معنى الاخرية.

يشير كل من هذه المواقع الثلاثة الى نقطة اشتباك بين مكونات الهوية الموروثة ومؤثرات/تحديات العالم الجديد ، في مرحلة تواصل مكثف يقودها الذكاء الصناعي. لازلنا بحاجة الى دراسة اعمق لهذه المسالة. ولعلنا نعود لمراجعتها مرة أخرى في المستقبل القريب.

الشرق الاوسط الاربعاء - 11 شوّال 1444 هـ - 3 مايو 2023 م

    https://aawsat.com/node/4307296/

مقالات ذات صلة

عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي

على اعتاب الثورة الصناعية الرابعة

العولمة فرصة ام فخ ؟

ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء التقليديين ومحبوبا للشباب ؟

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

الذكاء الصناعي وعالمه المجهول

استمعوا لصوت التغيير

تجربة تستحق التكرار

غدا نتحرر من الخوف

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

 

22/09/2021

جدل اليوم وكل يوم

 

أكثر الجدالات سخونة في العالم العربي اليوم ، يتناول دور الدين في الحياة العامة ، وعلى الخصوص في ادارة الدولة وعملها اليومي.

لكل بلد عربي قائمته الخاصة من الازمات الصغيرة او الكبيرة ، من الفقر الى البطالة واضطراب الامن وتعثر النمو ، وضعف المشاركة السياسية وغياب الحريات المدنية..الخ. ومع كل هذه المشكلات فان ما يسمى "الاسلام السياسي" بشعاراته وشخوصه وجماعاته وتاريخه ، لازال مادة أثيرة للجدل ، بل لا أبالغ لو قلت انه يفوق كل الازمات الاخرى ، في جاذبيته لاهتمام الجمهور ونخبته على السواء. وان اردت التحقق من صدقية هذا القول ، فانظر مواقع التواصل الاجتماعي في أي قطر عربي ، او انظر صحافته ، وسترى انه نادرا ماتخلو صحيفة من اخبار او نقاشات تتصل ب "الاسلام السياسي".

تضخم اهتمام الناس على هذا النحو ، لايعني بالضرورة انهم يشبعون الموضوع بحثا وتحليلا ، بل على العكس تماما: فهذا نوع من القضايا التي كلما زاد الكلام فيها ، زاد غموضها واختفت معالمها ، وتعددت مذاهبها ، فلا يمكن لخبير طرقها ، دون ان يقابل من يعرقل سعيه او يستشكل عليه بما يصح وما لايصح ، فضلا عن اتهامه في مكنونات نفسه ونواياه. ومن هنا بات النقاش فيها اقرب الى السير على الشوك.

وقد لفت نظري هذا الاسبوع ماقاله الأستاذ يوسف ابا الخيل ، الكاتب السعودي المعروف (18-سبتمبر-2021) فقد كتب اولا على تويتر ، منصة التواصل الاجتماعي: "ما يهمك مني هو كيفية تعاملي معك ومدى التزامي بواجبات المواطنة ... اما مذهبي فهو بيني وبين خالقي". في اليوم التالي كتب ابا الخيل تعليقا على كثرة الردود المسيئة: "كمية الردود المتشنجة على هذه التغريدة ، توضح أنه لا يزال بيننا وبين معرفة واجبات المواطن في الدولة المدنية الحديثة ، مسافات ضوئية". ان معظم الردود المسيئة (والشتائم) جاءت من اشخاص يزعمون الدفاع عن الدين الحنيف ، مع ان التغريدة لا تمس الدين من قريب ولا بعيد.

ويظهر لي ان تضخم الموضوع المذكور لا ينبيء عن اهتمام معرفي ، بل هو انفعال عاطفي سلبي ، سببه فيما أظن ، هو انعكاس المسار وما تبعه من خيبة الأمل.

بيان ذلك: ان الجمهور العربي (في المجمل) كان يتطلع لنخبة جديدة تولد من رحم الربيع العربي. ومثل كل الحالمين ، تخيل الناس ان هذه النخبة ستكون عارفة بالحكم ، نظيفة الكف ، متواضعة النفس ، وزاهدة في السلطة. وحين نظروا للساحة ، اعتقدوا ان من يرفع شعار الاسلام ويلبس ثيابه هو الأجدر بحمل تلك الأوصاف. ولهذا حصل رموز الاسلام السياسي وقادته على دعم لا سابق له.

لكن سرعان ما انعكس المسار ، فقد ظهر ان النجوم الجدد لم يكونوا عارفين بالحكم ولا زاهدين في السلطان ، ولا قادرين على علاج مشكلات الانتقال الى نظام تشاركي. ونعرف ما حصل لاحقا في مصر وتونس والسودان والمغرب والعراق وغيرها ، حين انقلب الجمهور وذهب في الاتجاه العكسي.

تخلي الجمهور عن التيار الاسلامي مثل دعمه سابقا ، لم يكن ثمرة نقاش علمي أو واقعي ، بل هو – مثل سابقه – انفعال أملاه الشعور بالاحباط وخيبة الأمل. ولهذا السبب تحديدا ، فانه لم يؤد الى تفريغ مخزون القلق على المستقبل ولم يعزز اليقين في الذات الجمعية. ان استمرار الاضطراب الداخلي والهجرات الجماعية ، هو اوضح مؤشر على الارتياب العميق في مسارات السياسة القائمة.

حين يتناقش الناس في قضايا الاسلام اليوم (حتى في امور العقائد والعبادات بل حتى التاريخ) فانه سرعان ما ينفتح عليهم مخزون القلق ، الذي تحول الى قلق على الدين وعلى الهوية الجمعية ، مع انه كان في الاصل مجرد انعكاس لازمات سياسية ، لا علاقة لها بالدين.

الشرق الاوسط الأربعاء - 15 صفر 1443 هـ - 22 سبتمبر 2021 مـ رقم العدد [15639]

https://aawsat.com/node/3202221

مقالات ذات علاقة

 

اقامة الشريعة بالاختيار

ان تكون سياسيا يعني ان تكون واقعيا

التحدي الذي يواجه الاخوان المسلمين

توفيق السيف في مقابلة تلفزيونية حول الربيع العربي وصعود التيار الاسلامي

جدل السياسة من الشعارات الى البرامج

حاكمية الاسـلام … تحــولات المفـهــوم

الحد الفاصل بين الاسلام و الحركة

الحركة الاسلامية ، الجمهور والسياسة

الحركة الاسلامية: الصعــود السـر يـع و الا سئـلة الكبرى

الحل الاسلامي بديع .. لكن ما هو هذا الحل ؟

الديمقراطية والاسلام السياسي

سلع سريعة الفساد

الصعود السياسي للاسلاميين وعودة الدولة الشمولية

مباديء اهل السياسة ومصالحهم

مشروع للتطبيق لا تعويذة للبركـة

مصر ما زالت متدينة لكنها خائفة من التيار الديني

من الحلم الى السياسة

نقد المشروع طريق الى المعاصرة

 

 

 

 

 

 

 

 

 

08/09/2021

الاسئلة التي تزيدنا جهلا


قبل تسعين عاما اصدر الامير شكيب ارسلان كتابه الشهير "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم". ويذكر في قصة الكتاب انه جاء استجابة لنقاشات دارت في تلك الايام ، على خلفية التحدي الاوروبي للعالم الاسلامي ، في مجال العلم والاختراع والقوة العسكرية والاقتصادية وغيرها.

خلال ربع القرن الأخير ولدت أسئلة جديدة ، وتبين ان سؤال الامير شكيب أقام سياقا ، هو بذاته مشكل.  ولهذا لم نستفد منه في اثارة نقاش جاد ، بل تحول الى وسيلة تنفيس عن القهر.

شكيب ارسلان

بيان ذلك: ان سياق النقاش افترض مسبقا ان التأخر والتقدم مرتبط بالدين ، تبعا للدعوة الاوروبية الى العلمانية. وقد ردت النخبة المسلمة على هذا الادعاء ، بتنزيه الاسلام عن التخلف او التسبب فيه. وقد بدا لي من دراسة تلك النقاشات ، ان موضوع الجدل يومئذ هو "الهوية" وليس "الدين" ، اي الاسلام باعتباره عنوان انتماء ورابطة بين اتباعه. لم يكن لمسألة التقدم كبير شأن في تلك النقاشات ، فقد انحصرت في الرد على دعاوى الغرب ومساعيه للنفوذ في العالم الاسلامي. وتبعا لذلك تحول موضوع التقدم الى عنوان للجدل في موضوع مختلف تماما هو علاقة المسلمين بالغرب.

أدى الاختلاط بين هذين النقاشين ، الى اهمال تام لمسألة التقدم كموضوع مستقل ، له شروطه وحاجاته وسياقه الخاص. واظن ان هذا كان من اعظم الرزايا التي ابتلي بها العرب والمسلمون ، في حاضرهم وماضيهم. فحين تهمل مسألة التقدم ، فانك ستنصرف – شئت ام ابيت – الى تقديس الماضي ، وسيتحول حاضرك الى امتداد للماضي ، فتبقى متخشبا في موقعك من التاريخ ، بينما يتحرك البشر الى الأمام.

واضيف الى هذه الرزية ، ان العلاقة مع الغرب قد تلبست رداء الدين ، وفسرت في سياق الصراع بين الأديان ، كما استدعي التصوير الوارد في النص الديني ، كوصف نهائي لهذه العلاقة.

يعلم العقلاء ان علاقات الامم (حتى المتعادية منها) تتغير بين زمن وآخر ، تبعا لتغير الظروف والمصالح وموازين القوة. لكننا – للسبب الوارد اعلاه – جمدنا هذه العلاقة في صورة واحدة هي العداوة ، حتى ان فقهاء المسلمين اتفقوا قولا واحدا على حرمة السفر الى تلك البلاد الا لحاجة ماسة ، وليس للتعارف والتسالم والتعلم وعمران الارض ، كما  هو حكم العقل ، فضلا عما نعرفه من مقاصد الرسالة المقدسة.

حين اتطلع اليوم الى العالم من حولي ، أجد الغرب محيطا بنا من كل جانب. ولهذا تعددت صور العلاقة معه. وبسبب الفهم الموروث الذي القى عليها رداء الدين ، فقد انشغلنا بتصور اشكال العدوان الغربي ومؤامرات الغرب وخيانة الغرب ، وغير ذلك من التصويرات والتشبيهات البليغة ، التي لا تخبرنا عن واقع ولاتكشف مخفيا ، بقدر ما تعزز اوهامنا القديمة ، وتكرس عزلتنا الروحية عن عصرنا وعالمنا.

من يتشكك في صدقية هذه الدعوى ، أدعوه لمراجعة ردود فعل المسلمين على الانسحاب الامريكي من افغانستان ، وكيف تحول من موضوع للنقاش الجاد (هل هو جيد ام سيء ، هل كنا نريده ام نرفضه ، هل احسن الامريكان الى الافغان ام اساؤوا ، هل ينطوي على فرص ام تحديات.. الخ) تحول موضوعا للتندر والسخرية ، وجمع المعايب والمبالغة في تصويرها ، واستخدامها في بيان قبح الغرب عموما وامريكا خصوصا.

اليس هذا هو ما تعلمناه طيلة قرن من الزمان؟.

ترى من الذي تضرر من هذا الفهم الاعوج.... نحن الذين تجمدنا في نقطة قصية من تاريخ البشرية ، ام الغرب الذي يتحرك الى الامام بسرعة الطائرة؟.

الشرق الاوسط الأربعاء - 30 محرم 1443 هـ - 08 سبتمبر 2021 مـ رقم العدد [15625]

https://aawsat.com/home/article/3176371/

مقالات ذات علاقة

 

الاسئلة الباريسية

انقاذ النزعة الانسانية في الدين

تلميذ يتعلم وزبون يشتري

الحركة الاسلامية ، الغرب والسياسة -1

حول طبيعة السؤال الديني

 خلافة على منهاج نبوة

الديمقراطية والاسلام السياسي

ركاب الدرجة السياحية

الشيخ القرني في باريس

العولمة فرصة ام فخ ؟

قادة الغرب يقولون دمروا الاسلام ابيدوا اهله

كيف نتقدم.. سؤال المليون

مباديء اهل السياسة ومصالحهم

مشروع للتطبيق لا تعويذة للبركـة

نفوسنا المنقسمة بين عصرين

نقد المشروع طريق الى المعاصرة

وهم الصراع بين الحضارات

اليوم التالي لزوال الغرب

 


10/10/2018

الدين والهوية ، خيار التواصل والافتراق




 اشرت في مقال الاسبوع الماضي الى ظاهرة واسعة الانتشار ، فحواها ان الناس أميل للانفتاح على المختلفين معهم ، بل  ومشاركتهم ، حين يتعلق الامر بمصالح دنيوية. بعكس العلاقات التي تنطوي على مضمون ديني. وشهدنا في حالات كثيرة ، تفككا للعلاقات الطيبة ، حين ذكر الدين أو المذهب. فتحول الصفاء الى ارتياب والمحبة الى خصام. وفي سنوات سابقة كنت ارى في الاماكن العامة لافتات صغيرة ، تطالب الحضور بتجنب النقاش في أمور الدين والسياسة. كما قرأت نصائح مماثلة في منشورات ارشادية ، تقدمها شركات اوربية لموظفيها العاملين في الشرق الاوسط. ولعل بعض القراء قد رأى هذا أيضا. 
من حيث المبدأ ، لا تنحصر التأزمات المرتبطة بالهوية في الدين أو السياسة. كل هوية متمايزة ، قابلة للتأزم في حالات معينة. بينما تبقى محايدة او عديمة التأثير في حالات أخرى. لا تتمظهر الهوية كعامل نشط ، الا في ظرف التواصل مع الآخرين. ومن هنا فان طبيعة هذا التواصل وهويات المشاركين فيه ، تعمل كمحدد وموجه لدور الهوية ، من حيث القوة او الضعف ، ومن حيث الاتجاه للتوافق او التناقض.
في المجتمع الامريكي مثلا ، تشكل الهوية العرقية عامل التأزم الرئيس. خطوط الانقسام الاجتماعي تدور حول لون البشرة (اسود ، أبيض ، ملون) وبقدر أقل حول الاصول القومية (نوردي ، هيسبانك ، صيني.. الخ). المثال الاخر من الحرب الاهلية في باكستان عام 1971 التي ادت لانفصال قسمها الشرقي وقيام جمهورية بنغلادش.  كانت الهوية القومية محور التأزم بين الطرفين. ولم تلعب الهوية الدينية دورا يذكر. ويقدم العراق المعاصر مثالا عن التأزم المتعدد الابعاد ، فالصراع في المنطقة الشمالية يدور حول الهوية ا لقومية. بينما صراعات الوسط والجنوب محورها الهوية المذهبية.
يقول الناس عادة ان السياسة هي محرك التأزمات جميعا. وهي تستثمر الهوية الدينية في مكان ، والهوية القومية في مكان آخر ، والاقليمية او القبلية او الجندرية في مكان ثالث.. وهكذا.
هذا وصف صحيح ، لكنه لا يصلح تفسيرا للمشكلة. لأن جوهر المشكلة يندرج في أحد سؤالين:
الأول: لماذا تكون بعض الهويات اكثر قابلية للتأزم من غيرها. بمعنى هل تنطوي بعض الهويات على عوامل تأزم ذاتي؟.
الثاني: ماهي الظروف التي تسمح بتحول التنوع في الهوية الى خطوط افتراق. وبالتالي يسهل استثمارها في توليد أو تأجيج التأزمات المرتبطة بعوامل أخرى ، مختلفة عنها؟.
اهمية النقاش في الموضوع ، ترجع الى موقع الدين في النظام الاجتماعي: متى يكون عامل تواصل بين خلق الله ، ومتى يكون مبررا للخصام. بديهي ان كل انسان يود ان يكون الدين محركا للتعارف والتفاهم بين خلق الله. لكن هذا يبقى مجرد أمل ، ما لم نفهم على نحو كامل وعميق ، الاسباب التي تحول دون قيام الدين بهذا الدور.
وهنا يهمني الاشارة الى ضرورة التمييز بين مقاربتين للمسألة: مقاربة تستهدف فهم العوامل التي تجعل الدين عامل جمع او عامل تفريق ، بغض النظر عن راينا في صحة هذا المسار او ذاك. ومقاربة تنطلق من حكم مسبق على النتائج بانها مرغوبة او مرفوضة.
انا ممن يرى امكانية تقديم قراءة للدين تدعم دور التجسير والتواصل. بل أرى ان التواصل جزء من جوهر الايمان. لكني اعلم أيضا ان بعض الناس ، يرى استحالة التدين الحق ، دون حدود واضحة تميزه عن مخالفيه.
الشرق الاوسط الأربعاء - 30 محرم 1440 هـ - 10 أكتوبر 2018 مـ رقم العدد [14561]
https://aawsat.com/node/1421411

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...