17/11/2021

عالم افتراضي يصنع العالم الواقعي

 

يرجع اهتمامي بعالم الاجتماع الامريكي مانويل كاستلز الى تحليله البارع لمفهوم "الشبكة" ، ودورها المحوري في تشكيل عالم اليوم. وقد تعرفت عليه خلال دراستي لتحولات الهوية الفردية ، ودور انظمة الاتصال الجديدة والصراعات السياسية ، في تفكيك الهويات الموروثة.

يمتاز المفكرون الأذكياء بهذه القدرة الباهرة على التقاط الافكار العميقة ، واستخدامها مفتاحا لمسار او نسق فكري جديد. اميل الى الاعتقاد بأن كاستلز التقط فكرة "الشبكة" من كتابات كارل ماركس. فهي تمثل عنصرا محوريا في تحليل ماركس لنشوء الراسمالية ، ولا سيما في شرحه لدور التواصل الفعال بين قوى الانتاج ، في تكوين فائض القيمة ، ومن ثم اعادة تكوين راس المال ، وهي المعادلة التي اعتبرها مفتاحا لفهم الاقتصاد الرأسمالي.

كارل ماركس

التقط كاستلز فكرة الشبكة ، واتخذها مدخلا لنقاش مبتكر ، حول الصيغ والاشكال الجديدة لقوى الانتاج (التكنولوجيا) ، لاسيما مع حلول الاجهزة الالكترونية محل نظيرتها الميكانيكية في الصناعة والسوق ، خلال الربع الأخير من القرن العشرين.

 احد الاسئلة المحورية التي طرحها كاستلز يتناول العلاقة بين قوى الانتاج والمكان. فقد لاحظ ان موقع الانتاج ، سواء كان مصنعا او مزرعة او سوقا تجارية ، يمثل قيدا على حجم ومستوى التواصل بين أطراف العملية الانتاجية. إذا كنت (في اوائل القرن العشرين) تصنع المحركات في وسط انجلترا على سبيل المثال ، فان وصولها الى اي نقطة في العالم خارج الجزر البريطانية ، مشروط بحجم الناقل (السفينة) وزمن الوصول ، فضلا عن القيود المرتبطة بالأمن والسلامة.

اختلف الامر تماما في أواخر القرن العشرين. حيث باتت الاجهزة "الالكترونية" قاطرة التطور التقني على مستوى العالم. هذه الاجهزة الصغيرة الحجم الخفيفة الوزن ، تعمل بشكل رئيسي في معالجة البيانات ، وليس الحركة الميكانيكية للاجزاء. ومع وصولنا الى عصر الانترنت ، فقد أمست البرامج والتطبيقات "البيانات/السوفتوير"  قوة الانتاج الرئيسية في كل أجزاء الاقتصاد ، من المصارف والمؤسسات المالية الى المصانع الى انظمة الاتصال والنقل ، الى التعليم والصحة والاعلام والترفيه.. الخ.

لاحظ كاستلز ان قوة الانتاج الجديدة (البيانات) ليست مشروطة بالمكان ولا تحتاجه ، مثلما كان الحال في عهد الاجهزة الميكانيكية. كل ما تحتاجه قوة الانتاج هذه هو "مساحة" للتدفق ، مساحة يمكن صناعتها أو تطويرها في العالم الافتراضي. ومن هنا فان المسافات لم تعد ذات اهمية أو تأثير. اذا كنت تستطيع الدخول على شبكة الانترنت في الرياض مثلا ، فانت قادر على التواصل مع اي شخص لديه حساب على الشبكة في ساوباولو او لوس انجلس او نيودلهي ، حتى أصغر مدينة في قلب سيبريا. المسألة لا تنحصر في التواصل الشخصي ، بل بات بالامكان القيام بعمل كامل في عالم يسمونه افتراضيا ، لكنه يصنع العالم الواقعي. الشبكة تحولت الى نسيج هائل الحجم ، يماثل العالم الحقيقي. كما ان قوى الانتاج لم تعد محصورة في اطراف السوق ، بل بات كل شخص في العالم جزء من شبكة المعلومات ، فاعلا او متفاعلا او منفعلا.

على هذه الارضية ، تساءل كاستلز: كيف يؤثر هذا التحول على مفهوم الدولة ، وعلى الرابطة الاجتماعية وهوية الفرد؟.

انتبهت اليوم الى سؤال لم اجده عند كاستلز ، يتناول العلاقة بين اتساع الاعتماد على سلاسل البيانات المشفرة (البلوكشين) ، وبين الضمور المتوقع لدور الدولة كضامن للملكية الخاصة. البلوكشين يلغي الحاجة الى "كاتب العدل/الشهر العقاري" وسجلاته ,، فهل سيؤثر هذا على مفهوم الدولة وادوارها؟.

الشرق الأوسط الأربعاء - 12 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 17 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [15695]

https://aawsat.com/home/article/3307956/

مقالات ذات صلة

النقلة الحتمية : يوما ما ستنظر الى نفسك فتراها غير ما عرفت

هل تعرف "تصفير العداد"؟

ما الذي يجعل الانترنت مخيفا للزعماء التقليديين ومحبوبا للشباب ؟

حان الوقت كي يتوقف الحجب الاعتباطي لمصادر المعلومات

استمعوا لصوت التغيير

على اعتاب الثورة الصناعية الرابعة

معنى ان يكون التعليم العام واسع الافق

العولمة فرصة ام فخ ؟

التعليم كما لم نعرفه في الماضي

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...