لكانما كانت هذه التدوينة بمثابة وداع للاستاذ جودت. فقد رحل عنا يوم 30 يناير 2022. رحمه الله وغفر له.
لطالما استمتعت بقراءة مؤلفات الاستاذ جودت سعيد ، المفكر السوري الذي اعتبر امتدادا لمدرسة المرحوم مالك بن نبي ، ومن قبله محمد اقبال ، المفكر والشاعر الهندي. يتناول الاستاذ جودت قضايا معقدة ، بلغة بسيطة مباشرة ، لا تهتم بالمسافة الفاصلة بين شرح الحالة والحكم عليها ، لغة موجعة بنقدها الصريح لحال عرب اليوم ، وعدم اكتراثها بتبريراتهم.
جودت سعيد |
ركز جودت على التفسير "المادي" للتاريخ
وتحولاته. كما اهتم بالقيمة الفعلية التي يولدها عمل الانسان في الطبيعة. اهتمامه
بهذا الجانب ، قاده للتأمل في العوامل الثقافية والروحية ، التي تجعل شخصا ما متفاعلا
مع الطبيعة ، مؤثرا في عالمه ، أو تجعله خائبا متواكلا ، منفعلا بما يفعله
الآخرون. اطلق جودت سعيد على هذه العوامل اسم "سنن
الله".
وتظهر الأمثلة التي يشرح من خلالها فكرة
"السنن" أنه يقترب كثيرا من مفهوم "قانون الطبيعة" الذي تحدث
عنه أرسطو ، ثم القانوني الروماني شيشرون ، وغيرهم من قدامى الفلاسفة ، وشكل
منطلقا لمحاولاتهم وضع "رؤية كونية" تتضمن تصورا عن الطبيعة وعلاقة
الانسان بها ، ونظاما للمجتمع والدولة ، متلائما مع النظام الكوني.
وللحق فقد أدهشني اهمال جودت سعيد (بل انكاره احيانا)
للعوامل غير المادية في تحولات المجتمع والتاريخ. واقصد بالعوامل غير المادية ، ذلك
الميل الشائع بين الكتاب الاسلاميين ، الذي يرجع الحركة التاريخية او التحولات
الاجتماعية ، الى اسباب غير قابلة للتقدير العرفي او الادراك العقلائي ، من قبيل
نسبة الكوارث الطبيعية الى ذنوب البشر ، او نسبة الانتصار للايمان والهزيمة للفسق
والعصيان.
في هذا السياق يعتقد سعيد ان معرفة "سنن الله"
والعمل بها ليست مسألة دينية ، فكل مخلوق قادر على فهمها واتباعها. فاذا استوعبها
، أمسك بمفاتيح الحياة وقوى الطبيعة. ليس ثمة علاقة بين هذا وبين الايمان والكفر.
ولهذا يقول ان المسلمين باتوا خاضعين لغيرهم ، لأن هؤلاء اخذوا بسنن الله ، ومن
بينها العلم والبحث عن مصادر القوة ، بينما انشغل المسلمون بالجدل في مدح انفسهم
وانكار تأخرهم. ولن يستطيع المسلم المعاصر الاقلاع من هذا المستنقع الآسن ، ما لم يعترف
بانه ما عاد قادرا على الانتفاع بشيء مما في
الكتاب والسنة ، لأنه فقد القوة العلمية الضرورية للنفاذ الى جوهر القرآن ، و –
تبعا لهذا – فقد القدرة على إيقاظ عقله من سباته الطويل.
ما هي تلك السنن؟.
يجيب سعيد بانها مجموعة القواعد التي يتشكل منها نظام
الكون وتعمل وفقها اجزاؤه ، والتي نتعرف عليها بالتدريج من خلال الانضمام الى تيار
العلم في مختلف عصوره. علم الاجتماع يوضح لنا "سنن الله" في الحراك
والتحول الاجتماعي ، علم الاقتصاد يعرفنا بسنن الله في تحسين المعايش والاستقواء
المادي ، علم الفلك والفيزياء يخبرنا عن سنن الله في الطبيعة والمادة .. الخ.
ان استيعاب هذه العلوم وغيرها ، ضروري كي يكتمل الخط
الواصل بين الكون والعقل وخطاب الخالق للخلق.
هل يجب ان تكون مسلما كي تحقق هذا الوصل؟.
ليس بالضرورة. يرى سعيد ان نجاح الاوربيين في الانتقال من
التقاتل الى الوحدة "آية"
من آيات الله ، انها دليل على ان العقلاء الذين يسعون لفهم السنن
واتباعها ، سيجنون ثمرات هذا السعي. لقد جرت سنة الله في الذين خلوا من قبل على ان
الاتحاد واجتماع القوة من دون قهر ولا قسر
، طريق سريع الى الارتقاء والثروة والكرامة بين الشعوب.
الشرق الاوسط الأربعاء - 5 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 10 نوفمبر 2021 مـ رقم
العدد
[15688]
https://aawsat.com/home/article/3295231/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق