بعضنا يلح على ان
الدين شرط لنهضة العرب. وبعضنا يقول بعكس هذا: ان ترك الدين شرط للالتحاق بركب الحضارة.
ثمة فريق ثالث – وانا منهم – ينفي وجود علاقة سببية بين الدين والتقدم. بمعنى ان
الدين يمكن ان يحفز المؤمنين للنهوض العلمي ، ويمكن ان يثبطهم. يمكن للدين ان
يتعايش مع التخلف او مع التقدم من دون فرق تقريبا.
عمر البشير ايام قوته |
كان المرحوم مالك
بن نبي بين المفكرين الذين أكدوا على علاقة الدين بالنهضة. لكنه في التحليل
النهائي جعل تلك العلاقة مشروطة بعوامل خارج اطار الدين. وهو يقول ان الدين لم
يخرج من النفوس ، لكنه فقد فاعليته (مالك بن نبي: وجهة
العالم الاسلامي ، ص 32). ويستشهد بمثال في غاية البساطة: كانت امهاتنا
يعانين من الم الظهر يوميا حين يستعملن المكنسة القصيرة ، لكن ايا منهن لم تفكر في
اضافة عصا طويلة كي تواصل التنظيف من دون ان تنحني. لقد انتظرن عشرات السنين ، حتى
جاء الاوروبيون بالمكنسة ذات العصا الطويلة ، التي خلصتهن من الالم (مالك بن نبي: وجهة
العالم الاسلامي، ص 141).
لم يكن الدين
حاجزا لهن عن التفكير في هذه المشكلة الصغيرة وحلها. لكن الدين لم يكن محفزا ايضا
، رغم ان مالك كان يراه عامل ربط مناسبا بين العناصر الثلاثة التي تحتاجها الحضارة
، اي الانسان والتراب (الطبيعة) والزمن.
وفي تجارب البشر أمثلة
عديدة عن مجتمعات متدينة وأخرى غير متدينة ، نهضت او تخلفت. فلا الدين منع الذين
ارادوا النهوض ولا هو الذي حفز الخائبين. وأما ما يقال من نهوض العالم الاسلامي في
عصره القديم ، فلاشك ان الاسلام كان له دور ايجابي ، لكن هذا لا يثبت كون الدين
علة للنهضة ، انما يثبت ان الدين لايمنع النهوض. ولهذه المناسبة أود تنبيه القاريء
العزيز ، الى رؤية الفيلسوف ديفيد هيوم القائلة بالتمييز بين اقتران شيئين مع بعض
، زمنيا أو مكانيا ، وبين كون أحدهما سببا أو علة للآخر. انني لا اذهب مذهب هيوم
في انكار مبدأ السببية في غالب حالاته.
لكن فيما يخص موضوع نقاشنا ، فان تكرار التجارب يؤكد ان علاقة الدين بالنهضة ، لم تصل
حتى الى مرتبة التقارن او التزامن ، فضلا عن السببية.
ان غرضي من
التأكيد على هذه المسألة ، هو تفكيك التداخلات المفتعلة بين الدين والظواهر
الحياتية الأخرى. وأتذكر في هذه اللحظة ، خطبة للرئيس السوداني السابق عمر البشير ، بعيد استيلائه على
الحكم في 1993 افتتحها بالآية المباركة "ولو ان اهل القرى آمنوا واتقوا
لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض". فقد لاحظت ان الصحافة الإسلامية احتفت
بهذا الكلام ايما احتفاء ، ورأيت كثيرا من اشقائنا السودانيين في غاية التفاؤل ، بأن
البلد واقتصاده يتهيأ لنهضة واسعة. لكنا نعلم ان السنوات التالية شهدت تدهور
اقتصاد السودان ، وخسارة نصفه الغني بالنفط والثروات الطبيعية الأخرى.
كان مالك بن نبي قد حذر من هذا الربط
اللاعقلاني ، واعتبره نوعا من "الانقياد الاعمى الى الدروشة[1]". اني أرى كثيرا من المؤمنين اليوم ،
يظن ان مجرد التدين سيؤدي الى التقدم والحضارة ، وان عدم بلوغنا هذه المرتبة سببه
قلة إيماننا. لكن هذا مجرد وهم او "دروشة". ولو كان صحيحا لكانت قندهار هي
عاصمة العلم والمال في العالم وليست واشنطن.
ثمة من يظن ان نفي
العلاقة المذكورة تهوين من شأن الدين الحنيف ، وان تبجيله يقتضي نسبة كل محبوب
اليه. واقع الامر ان كل شيء في هذه الحياة له دور يؤديه وغاية يصل اليها ، فما الداعي
لربط التبر بالطين؟.
الشرق الاوسط الأربعاء - 8 صفر 1443 هـ - 15 سبتمبر 2021 مـ
رقم العدد
[15632]
https://aawsat.com/node/3189656/
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق