أنا ممن يدعي ان النهوض الاجتماعي يتطلب تجديدا في فهمنا لمعنى وفلسفة الحياة والدين والثقافة. وأعلم ان التاثير العميق للموروث الديني في الحياة والثقافة ، يستدعي على الدوام جدلا حول تجديد الدين ، وما إذا كان في الاصل ، قابلا للتجديد ام لا ، وما اذا كان التجديد يتناول الأصول ام الفروع ام الأدوات والمظاهر.
ومن
هنا فاني ادعو القاريء العزيز الى تقبل نقطتين ، أوجز الأولى في "ان لكل جيل
من اجيال المسلمين حق ثابت في اعادة صياغة مفهوم الحياة الدينية ، وانتاج نموذج
التدين المناسب لزمنه ، دون التزام بما انتجته الاجيال السابقة". اما النقطة
الثانية فخلاصتها اننا بحاجة للتمييز بين دائرتين في حياتنا: دائرة يمكن ان نسميها
دينية ، وهي مجال اشتغال احكام الشريعة ، ودائرة خارج الدين ، فهي مجال لأحكام العقل النظرية والعملية والاخلاقية.
كلا
النقطتين مورد جدل بين التيار الديني التقليدي ونظيره الاصلاحي. يقول التقليديون بان
كل ما عرفه البشر في العصور الحديثة ، موجود على شكل حكم مفصل او قاعدة مجملة في
التراث الإسلامي. وبالتالي فلا مبرر لقيام الجيل الجديد باي دور او تصرف في
المنظومة الشرعية.
وأصل
هذه الفكرة هو القول بان الشريعة الإسلامية تحوي كل شيء في الحياة ، او انها قادرة
على تنظيم أي جانب من جوانب الحياة. ويتعامل الناس مع هذه الفكرة كأمر بديهي لا يقبل
الجدل. ولعل بعض القراء الاعزاء قد صادف كتبا تحمل عنوانا مثل "البديل
الإسلامي" ، "قال الإسلام قبل ذلك" ، "هذا الدين للقرن الواحد
والعشرين".. الخ.
يعتقد
أكثر الناس ان هذه حقيقة ثابتة. فاذا قلت لهم ان هذا غير صحيح ، حسبوك تتهم
الإسلام بالنقص والعيب ، وجادلوك دفاعا عن الدين ، وليس نقاشا في الفكرة.
وكنت
فيما مضى اذهب نفس المذهب. ثم اكتشفت ان بعض العلوم لم تكن موجودة اصلا في زمن
التشريع ولا الأزمان المقاربة له. فكيف تضع أحكاما لشيء لا يمكن تصوره ، فضلا عن
معرفته. وخلال بحثي عن الموضوع طرحت هذا السؤال على فقيه بارز ، فأجابني بالجواب
المعروف ، وهو ان ما لم يرد حكمه في الكتاب والسنة ، فان حكمه يستمد من اقرب
القواعد العامة المتعلقة بموضوعه. فسألته عن حكم لبس الساعة ، فلاحظ في لهجتي شيئا
من السخرية ، فتمالك نفسه واجاب انها مباحة ، فجادلته بان الاباحة ليست حكما ، لان
القول بان الاباحة حكم ، تكلف من غير داع ، ولا طائل تحته ، وان القول الصحيح هو
ان لبس الساعة ليس من قضايا الشريعة ، فان وافقتني ، فان القول بشمولية الشريعة لا
يصح.
وفي
وقت لاحق وقعت على نقاش بين اثنين من الفقهاء البارزين ، اولهما الشيخ يوسف البحراني الذي قال بان آيات مثل "ما فرطنا في الكتاب من شيء" و "ﺗﺒﻴﺎﻧﺎ
ﻟﻜﻞ ﺷﻲء" وأمثالها تدل على ان كل شيء في الحياة له حكم في الكتاب او السنة ، حتى
ارش الخدش (التعويض عن الجرح الطفيف). وقد رد عليه الشيخ احمد النراقي قائلا: ان سياق
الايات يدل على ان في الكتاب تبيين لكل شيء يجب بيانه ولا يصح السكوت عنه ، لا انه
يبين كل شيء على الاطلاق. والدليل هو ما نراه فعلا من الاف الموضوعات والمسائل
التي لم يخبرنا الشارع عن حكمها ، وهي تتزايد يوما بعد يوم. والى هذه الناحية اشار
ابو الفتح الشهرستاني في "الملل والنحل" حين قال ان النص محدود والحوادث
غير محدودة ، فكيف يستوعب المحدود ما لاحد له ولا حصر؟.
الشرق الاوسط 21
صفَر 1443 هـ -
29 سبتمبر 2021 م
https://aawsat.com/node/3215266/
مقالات ذات علاقة
تأملات في حدود الديني والعرفي
تجديد الخطاب الديني: رؤية مختلفة
ثوب فقهي لمعركة سياسية
حول الحاجة الى فقه سياسي جديد
حول تطوير الفهم الديني للعالم
دعوة لمقاربة فقهية جديدة
دور الفقيه ، وجدلية العلم والحكم
عن الحاجة إلى تجديد الفقه الإسلامي
فتاوى متغيرة : جدل المعاصرة في التيار الديني
فتوى الجمهور لا فتوى الفقيه
فقه جــديد لعصر جـديد
نظرة على علم اصول الفقه
نفوسنا المنقسمة بين عصرين
نقد التجربة الدينية
هيمنة الاتجاه الاخباري على الفقه
هيمنة النهج الفقهي على التفكير الديني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق