‏إظهار الرسائل ذات التسميات جان جاك روسو. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات جان جاك روسو. إظهار كافة الرسائل

27/02/2025

الإرادة العامة كخلفية للقانون

ذكرت في المقال السابق ان "الدين المدني" يستهدف وفقا لشروحات جان جاك روسو ، توفير مبرر أخلاقي يسند القانون العام. وقد جادل بعض الزملاء قائلين: اذا كان هذا هو المقصود حقا ، فانه متوفر في كل الأديان. فلماذا نبتدع دينا آخر؟.

هذا النوع من النقاشات ينتهي عادة الى حالة فوضوية. ففيها يختلط التدليل العلمي بالدفاع العاطفي ، وتختلط المخاوف بالتوقعات والرغبات. ولهذا السبب ، على الأرجح ، لا يشهد المجتمع العربي مناقشات معمقة ومستمرة ، حول العلاقة المناسبة بين الدين والسياسة ، مع انه أكثر مجتمعات العالم ابتلاء بالنتائج المريرة لذلك الخلط. ان الجدل في المسألة متواصل بشكل يومي. لكنه ليس نقاشا من أجل العلم ولا يلتزم بمعايير العلم ، ولذا لا يعين على تفكيك العقد التي تملأ هذا الموضوع. بل لا أغامر لو قلت ان ما يحدث هو العكس تماما. فالجدالات الكثيرة بين الداعين لانخراط الدين في الحياة السياسية ، وبين معارضي هذا الاتجاه ، تحولت الى نزاع سياسي- اجتماعي فيه القليل جدا من العلم ، والكثير جدا من العداوة والانفعال.

كان روسو يطالع مشهدا شبيها بهذا في أوربا الغربية ، منتصف القرن الثامن عشر. ولهذا اقترح فكرة "الدين المدني" الذي يمكنه ان يلعب دورا مماثلا لأي دين آخر في إطار الممارسة السياسية ، من دون ان ينخرط في جدل العلاقة بين الدين والسياسة ، على نحو ما شهدت أوربا يومذاك ، وما نراه في العالم العربي اليوم.

-         ما الذي أثار القلق عند روسو؟

كان روسو مقتنعا بأن القانون بطبعه ، قيد على الحريات الفردية. مجرد الزام الناس بفعل أشياء والامتناع عن أشياء أخرى ، هو – في الجوهر – تقييد لحرياتهم. وهذا يثير أسئلة متضاربة ، مثل: هل يمكن ان نعيش حياة اجتماعية طيبة ، من دون قانون ينظم العلاقة بيننا. لكن – من ناحية أخرى – هل يصح ان نضحي بحريتنا الخاصة ، في سبيل العيش الجمعي. واذا فرضنا ان القانون ضروري للحياة الطيبة ، فما هو الأساس الذي يستند عليه القانون كي يلتزم الناس به ، هل هو مجرد التهديد بالعقاب من جانب الدولة. واذا كان التزام الناس بالقانون نوعا من القسر ، فما هو المبرر الذي يسمح لرجال الدولة بوضع تلك الالزامات ، وتهديد المواطنين بالعقاب ان لم يطيعوا.

هذه الأسئلة كانت تدور بقوة ، في المحيط الاجتماعي الذي شهد كتابات روسو الأولى. وبعضها لازال محورا لنقاشات الفلسفة السياسية حتى اليوم.

قرر روسو ان القانون ملزم ، لأنه مستند الى الإرادة العامة ، أي إرادة مجموع المواطنين في العيش المشترك وتنظيم علاقتهم الداخلية في قانون مكتوب. القانون أشبه بخطاب من كل فرد لكل فرد آخر ، يؤكد التزامه باحترام حقوقه ، باعتبارهما عضوين في مجتمع واحد. وبالتالي فالقانون اعلان التزام من جانب مجموع المواطنين ، لكل واحد منهم ، بأن حقوقه مصونة ومضمونة ، وأن من يخرقها فهو مذنب امامهم جميعا. إذن فالإرادة العامة ، وما يقوم عليها او يتفرع منها ، أشبه بالجدار الذي يستند اليه القانون.

هذا التوضيح الذكي ، لم يمنع احدهم من التساؤل: لكن ما الذي يضمن ان تبقى الإرادة العامة موحدة ، كي تواصل اسنادها للقانون ، أي كي يبقى المجتمع موحدا في التزاماته.

وفقا لروسو فان إرادة كل فرد للعيش المشترك الآمن ، ومن ثم ، قبولهم بالقانون الذي ينظم علاقتهم ببعضهم ، يمثل بذاته تمظهرا لجوهر الانسان ، ككائن خير وعقلاني ، انها تعبير عن طبيعته التي أفاضها الله عليه حين خلقه. ومن هنا فهي تعبير عن روح الله وارادته التي نفخها في هذا المخلوق. ولهذا اعتبرها متعالية ، فلا تحتاج الى تدليل او اسناد.

هل هذا يكفي للقبول بفكرة "الدين المدني"؟ . اظن تحليله صحيحا ، لكن لا أرى استنتاجه ضروريا. ولعل في وسعنا التدليل عليه بطريقة أيسر.

الشرق الأوسط الخميس - 28 شَعبان 1446 هـ - 27 فبراير 2025 م  https://aawsat.com/node/5116582-

مقالات ذات صلة

  

ايديولوجيا الدولة كعامل انقسام: كيف يحدث التفارق الآيديولوجي والثقافي؟

الايديولوجيا والسياسة

جدل الدولة المدنية ، ام جدل الحرية

حدود الحرية .. حدود القانون

حكومة اليوم وحكومة الأمس

دعوة للخروج من قطار الكارثة

الدين المدني ، دين الدولة

السعادة الجبرية: البس ثوبنا أو انتظر رصاصنا

سؤال التسامح الساذج

الصعود السياسي للاسلاميين وعودة الدولة الشمولية

صنم الوحدة

فرصة لتطبيق ما ندعو اليه: فوائد التسامح

فلان المتشدد

في التسامح الحر والتسامح المشروط

في ان الخلاف هو الاصل وان الوحدة استثناء

في بغض الكافر

ماذا تفعل لو كنت صاحب القرار في بلدك؟

 مجتمع الاحرار

مجتمع الأحرار.. ومفهوم الحرية

مجتمع العبيد

مجتمع العقلاء

مدينة الفضائل

نافذة على مفهوم "البراغماتية"

نموذج لشرعية سياسية وسيطة

 

13/02/2025

الدين المدني ، دين الدولة

خصص جان جاك روسو الفصل الأخير من كتابه "العقد الاجتماعي" لاقتراح غريب نوعا ما ، وهو "الدين المدني". كان مقدرا لروسو (1712-1778) ان يصبح قسيسا ، لكن اقداره ساقته نحو الفلسفة السياسية ، فدون واحدا من أهم النصوص في تاريخ العالم الحديث ، اعني "العقد الاجتماعي" الذي أطلق مدرسة في علم السياسة ، كتب فيها وحولها مئات الدراسات ، بمختلف اللغات.

في أول الأمر ، اجمع الكل على رفض الفكرة: الكنيسة اعتبرتها حيلة لالغائها كليا ، من خلال اقصائها عن مبرر وجودها الوحيد. العلمانيون اعتبروها مناورة لترسيخ هيمنة الكنيسة على المجتمع ، من خلال تبني الدولة للدين (ولو بنسخة مخففة). أما عامة الناس فتساءلوا: ما الداعي لدين جديد ، طالما لاتزال الكاثوليكية على قيد الحياة؟.

في المقابل ، قال روسو  انه لا يتحدث عن دين الكنيسة. ثمة أربعة مستويات للايمان: أولها دين الكهنة ، الذي يجهز الانسان لما بعد الموت ، وهذا ليس موضع نقاش في حقل السياسة ، لأنه – من حيث المبدأ – لا يتعلق بالدنيا. الثاني هو دين الانسان الذي يركز على الفضائل الأخلاقية وتزكية النفس. وهذا ما تسعى اليه كافة الأديان ، في مختلف البلدان والازمان. الثالث هو دين المواطن ، وهو قريب جدا من فكرة القانون التي تفرضه الحكومة على الناس ، فهو محدد جغرافيا بمدى سلطة الدولة ، وليس له وجود خارجها. هذا الدين تحرسه الدولة وتفرضه على مواطنيها بقوة القانون. أما الرابع فهو "الدين المدني" الذي يمثل خلفية يرجع اليها المشرع حين يدعو المواطنين للالتزام بالقانون. هذه الفكرة تشابه كما اظن مفهوم "نظام الملة" الذي يذكر أحيانا في سياق الحديث عن التجربة التاريخية الإسلامية. وهو يشير الى مجموعة الأعراف والنظم التي جاء بها الدين او التي ابتكرها المجتمع وطبقها لتنظيم حياته اليومية ، واعتبرت جزء من النظام الذي يجب على كل الناس رعايته ، كي لا ينفرط الجمع او يتضرر المجتمع.

السؤال الذي كان يشغل بال روسو حين كتب عن "الدين المدني" هو: اذا قالت الدولة للناس بانهم احرار في التفكير والتعبير عن آرائهم ، احرار في الاعتقاد وممارسة العبادة ، فما الذي يحملهم على الالتزام بالقانون الذي يقيدهم؟.

كان روسو قد قال أولا ان الانسان ميال بطبعه نحو فعل الخير ، وأنه سيلتزم – بمحض ارادته - بالقانون الذي اختار ان يشارك في انشائه من خلال "العقد الاجتماعي". لكن يبدو انه شعر لاحقا بأن المجتمع لن يخلو من خلاف ، ربما ينال تفسير القانون او مقاصده. وبالتالي فقد لا يكون القانون سلاحا حاسما ، الا اذا سمحنا للدولة بأن تفرض سلطانها على الجميع ، حتى لو كانت هي طرفا في الخلاف ، بمعنى ان تكون الخصم والحكم في آن.

لحل هذا الاشكال ، وضع روسو فكرة الدين المدني ، الذي يشكل خلفية تدعم القانون من جهة ، وتشجع الناس على المشاركة في الحياة السياسية من جهة أخرى. ان مشاركة عامة الناس في الحياة العامة ، سوف تضمن قدرا معتبرا من الالتزام بالقانون وتطويره أيضا.

إذا اخذنا هذا المعنى بعين الاعتبار ، فان "الدين المدني" الذي تحدث عنه روسو ليس نظيرا للدين الذي نعرفه ، ليس شبيها ولا مزاحما له. انه اقرب ما يكون الى تبرير أخلاقي للقانون ، يستلهم الروحية العامة للدين ، أي كونه دعوة للفضيلة وسمو النفس ومحبة الغير وعدم الاستئثار بالمنافع. ومن هنا قال روسو ان دينا كهذا ، ينبغي ان يكون بسيطا ، مرتبطا بالقيم الأساسية التي يعرفها المجتمع ويرغب فيها ، غير قابل للاحتكار ولا مزاحمة الانتماءات الدينية الأخرى.

لا بد ان بعض القراء يبتسمون الآن في سرهم ، ويتساءلون: هل يمكن لدين كهذا ان يوجد في واقع الحياة؟.

لعل روسو سيجيبهم لو كان حيا. لكنه – للأسف – لم يعد معنا.

الخميس - 14 شَعبان 1446 هـ - 13 فبراير 2025 م     https://aawsat.com/node/5111640

 

 


مقالات ذات صلة

15/08/2024

في مسألة الجبر والاختيار: هل حقا نملك اراداتنا؟


بعض القراء مطلع – بالتأكيد - على الجدل القديم ، حول كون الانسان مسيرا او مخيرا. وهو جدل أثاره سؤال بسيط: إذا كان الانسان يفعل ما يفعل بارادة الله وعلمه المسبق ، فانه ليس مسؤولا عن افعاله ، وبالتالي لايصح عقابه. فكيف يقدر الله شيئا ويريده ، ثم يعاقب عبده اذا فعل ما أراده؟.

أقول هذه مسألة معروفة في التاريخ الاسلامي. وقد حسمت في القرون الأخيرة ، لصالح فهم موسع ، يربط الاثم بكون الفاعل قاصدا متعمدا ، وكونه عارفا بحقيقة ما يفعل. وتوصل الناس الى هذا الفهم بعدما فصلوا بين مرحلتين: القدرة على الفعل وارادة القيام بالفعل. فانت قادر على العيش في الغابة مثلا ، وانت قادر على التبرع بكل أموالك ، لكن القليل من الناس سيفعل هذا. أما الأكثرية الساحقة فهي "تريد" خيارات بديلة. هذا يعني انك تستطيع فعل أشياء ، لكنك لا تريدها ، فلا تفعلها. وهذا بالضبط معنى ان تكون مختارا وصاحب إرادة. وبناء عليه قيل ان الانسان مخير في الاعم الاغلب من افعاله.

يبدو هذا الكلام معقولا ولا غبار عليه. لكن تعالوا نناقش القول السائر ، الذي فحواه أن انسان اليوم ، واقع – من حيث يشعر او لايشعر – تحت سيطرة انظمة الاعلام والدعاية الهائلة القوة ، او انه خاضع لاعراف المجتمع وقوانينه وثقافته ، التي تجعله يفعل ما تريده هي وليس ما يريده هو.

يقول اصحاب هذا الرأي ان انسان اليوم لم يعد صاحب إرادة ، لأنه لا يختار ما يريد. اجهزة الدعاية والاعلام تتلبس عباءة العلم حينا والسياسة حينا آخر ، والاقتصاد في طور ، وحتى الحرص على الصحة العامة في بعض الأحيان. يقولون ايضا ان الذي يختار الرئيس الامريكي مثلا ، ليس الناخبين الافراد الذين يأتون الى صناديق الاقتراع ، بل اجهزة الدعاية التي تبارت في اقناع الناخبين بالشخص الذي اختارته ودعمته ، فجاؤوا للصناديق وقد اقتنعوا بما اريد لهم ان يقتنعوا به.

كذلك الحال في السلوك الغذائي للافراد ، فهم لا يأكلون الطعام الذي الفه آباؤهم ، والذي ربما يعبر عن حاجات البيئة المحلية ، بل يأكلون ما روجته اجهزة الدعاية ، اي ما عرضته عليهم باعتباره رمزا للسعادة او العظمة او الصحة. والشيء نفسه يقال عن نوع الملابس التي نرتديها ، والخيارات الثقافية التي نميل اليها ، وانظمة العمل التي نتبعها في شركاتنا ، وغيرها. نحن نعيش – كما يقول هؤلاء – مسيرين لا مخيرين. صحيح انه لم يضربنا احد على أيدينا ، وليس في طرقنا حواجز مادية تمنعنا من مغادرة الطريق الذي سلكناه. لكننا مع ذلك لا نسير كما نختار ، بل نسير وفق هوى الدعاية او هوى المجتمع ، او تبعا للفضول الذي حفزه هذا او ذاك.

هذا نوع من التسيير غير المرئي الذي ينبع من داخل الانسان ، فيدفعه لمسارات سلوكية محددة ، يظن انه يختارها بحرية ، لكنه - في واقع الامر - لا يرى غير خيارات محددة سلفا. وبالتالي فان اختياره مرسوم ، وليس خيارا حرا ، حتى لو توهم - في الوهلة الاولى - انه حر.

احتمل ان المفكر الفرنسي جان جاك روسو هو اول من أثار هذه المفارقة ، في سياق حديثه عن تلاشي المجتمع الطبيعي السابق للدولة ، وقيام المجتمع المدني المحكوم بالقانون ، اذ يقول ساخرا: "يا لغباء هذا الانسان الذي مشى الى سجن القانون بقدميه ، وكان في وسعه ان يبقى حرا الى الأبد"!.

اراد روسو كشف المفارقة ، بين حياة فيها حرية مطلقة لكنها غير آمنة (في الغابة مثلا) وحياة بنصف حرية ، لكنها آمنة ومريحة (في ظل القانون). قال هذا كي يوضح للقاريء لماذا اختار الانسان ان يتنازل عن حريته الأولى ، فهل وجد في الثانية ما يستحق التضحية؟.

الشرق الاوسط الخميس - 10 صفَر 1446 هـ - 15 أغسطس 2024 م     https://aawsat.com/node/5050790/

مقالات ذات صلة

بين العقل الجمعي وسلوك القطيع

بقية من ظلال الماضين

بماذا ننصح أينشتاين؟

التعصب كمنتج اجتماعي

حجاب الغفلة ، ليس حجاب الجهل

الحرية ، دراسة في المفهوم والاشكاليات

 القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة

كهف الجماعة

مغامرات العقل وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي

من العقل الجمعي الى الجهل الجمعي

08/12/2021

نموذج لشرعية سياسية وسيطة

 

كان في ذهني حين كتبت مقالة الاسبوع الماضي ، ثلاث دول عربية ، افترضت انها جاهزة لاعادة تعريف مصادر الشرعية السياسية ، بالرجوع الى النموذج العقلاني - القانوني. هذه الدول هي العراق وليبيا وتونس.

د. جاسر الحربش

لكن استاذنا الدكتور جاسر الحربش ، وهو طبيب وكاتب رأي معروف في المملكة ، لفت انتباهي الى ان الصين وروسيا ، لا تزالان في حال تردد بين دائرتي الشرعية العقلانية/القانونية ونظيرتها التقليدية/الايديولوجية. تتمتع هاتان الدولتان باستقرار سياسي ونمو اقتصادي منضبط ، وبالتالي فهما اكثر استعدادا لتبني نموذج الشرعية العقلانية – القانونية الصافية. هكذا يفترض علماء السياسة. لكن واقع الحال يخبرنا ان غالبية الصينيين والروس ، صوتوا لصالح الزعماء الحاليين ، الذين يمثلون امتدادا للحقب السابقة بمحمولها الايديولوجي وتقاليدها. ويبدو ان في العالم العديد من النماذج المماثلة ، حتى في دول متقدمة أو شبه صناعية.

قد يشير هذا الى ميل عميق في التكوين الثقافي - النفسي للجماعات ، لم يخضع بقدر كاف للبحث والتحليل. سوف أسميه بالشرعية الوسيطة ، وهي مركب يجمع طرفا من المصدر التقليدي للشرعية السياسية ، مع مستوى متوسط من الانجاز الاقتصادي-السياسي.

من المفهوم ان حكومة الرئيس "شي جين بينغ" في الصين ، تتكيء على جدار متين من الانجازات الاقتصادية ، فضلا عن الاستقرار السياسي والأمني والمكانة الدولية. ومثلها حكومة الرئيس "فلاديمير بوتين" في روسيا ، الذي نجح ، الى حد ما ، في استعادة المكانة الدولية التي تمتعت بها موسكو ، قبل تفكك الاتحاد السوفيتي في 1991.

هذا القدر من الانجاز ، يضاف الى عرف راسخ في الثقافات التقليدية ، يحبذ الاستمرارية والتواصل ويعرض عن التغيير ، ولاسيما التغيير الذي ينطوي على مغامرة او مفارقة صريحة للأعراف التاريخية. ان اهتمام الحكومتين بالتاريخ الوطني والرموز الثقافية ، يستهدف بشكل مباشر ومقصود ، تسليط الضوء على القيادة الحالية ، بوصفها وريثة امجاد الماضي المتخيلة ، القابضة أيضا على مكاسب العصر ومنجزاته.

 بعبارة أخرى فان النخبة السياسية في روسيا والصين ، تقدم مثالا ناجحا عن امكانية الجمع بين نموذج تقليدي محوره الاتصال بالماضي المجيد ، وانتقالي محوره الانجاز المادي الفعلي. أود أيضا اضافة المصدر القانوني الذي يتجلى في الدستور والانتخابات الدورية ، رغم ما يشوبهما من اشكالات.

اظن ان رؤية الدكتور جاسر صحيحة تماما ، في ان توليفا بين المصدرين: التقليدي والقانوني – العقلاني ، يمكن ان يشكل احتمالا مناسبا في الدول التي تمر بظرف انتقالي ، او تلك التي لا تملك ارثا ثقافيا يدعم النموذج الحديث للسلطة والسياسة.

وبالنسبة للدول العربية التي تعيش أزمات وجودية ، فان نموذجا مثل هذا او قريبا منه ، يمكن ان يشكل بديلا عن الفوضى الشاملة ، التي ربما يؤول اليها تحول ديمقراطي غير مؤسس على ثقافة عامة مساعدة ، كما هو الحال في ليبيا ،  كما انه بديل أسلم من بروز الاستبداد كمنقذ وحيد من الأزمات المستعصية والانسداد السياسي ، نظير ما نسمع عن العراق وتونس.

لقد اثبت النموذج الديمقراطي – الليبرالي نجاحا منقطع النظير ، بالقياس الى كافة التجارب التي عرفها تاريخ البشرية. لكننا نعلم ان هذا النموذج لم يهبط من المريخ ، بل كان ثمرة لبنية ثقافية تطورت بالتدريج. ولذا فقد يكون من الاجدى بالنسبة للبلدان التي تعيش أزمات ، او تلك التي خرجت للتو من أزمات ، ان تتبع النموذج الوسيط الذي طبقته روسيا والصين ، حتى تتبلور البنية الثقافية والاقتصادية الداعمة للتحول الى الحداثة السياسية الكاملة ، وعندئذ سيكون الانتقال سلسا وشبه اوتوماتيكي ، كما أظن.

الشرق الاوسط الأربعاء - 4 جمادى الأولى 1443 هـ - 08 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [15716]

https://aawsat.com/home/article/3347061/

مقالات ذات صلة

الاسئلة الخطأ

تفارق الافهام بين المجتمع والدولة العربية

حاكم ملتح وحاكم يستحي

حدود الديمقراطية الدينية - عرض كتاب

الديمقراطية والديمقراطية الدينية : المباديء الاساسية

الشرعية السياسية في حكومة دينية حديثة

01/12/2021

تفارق الافهام بين المجتمع والدولة العربية

 

أشعر ان غالبية الدول العربية ، سيما التي تعيش ظروفا متأزمة ، في حاجة لمراجعة الارضية التي تقوم عليها شرعية الحكم. مفهوم الشرعية السياسية ينطوي في جواب السؤال التالي: ما هو المبرر الذي يعطي شخصا ما او هيئة ما ، الحق في الأمر والنهي والتصرف في أموال الناس وأنفسهم ، وما هو المبرر الذي يحمل الناس على طاعة تلك الأوامر.

من الضروري مراجعة وتجديد مصادر الشرعية ، في ظرف الاسترخاء السياسي على وجه الخصوص. لكنه يبدو اليوم ضروريا ايضا ، بسبب ما يظهر في الميدان السياسي ، من تفارق في فهم هذا الموضوع بالذات ، بين الجمهور والنخبة السياسية.

قانون الندرة: الجميع يتنافسون على موارد محدودة

بيان ذلك: تحاول النخب السياسية العربية تبرير سلطانها بالرجوع الى القانون. فهي تقول انها تحكم في اطار قانون معلن ، وان  أوامرها ونواهيها صادرة وفق هذا القانون). أما الجمهور فما زال يعتبر صاحب السلطة مسؤولا – بصفة شخصية – عن الوفاء بما قطعته الحكومة من وعود ، وما توقعه الجمهور من تحسن لأوضاع المعيشة والامن الخ.

   لفتت هذه المسألة انظار المفكرين منذ القدم. لكن جان جاك روسو ، الفيلسوف الفرنسي ، هو الذي وضع مفهوم الشرعية في صيغة محددة ، وربطها بالتفاهم الضمني بين الجمهور والنخبة. أوضح روسو مفهوم الشرعية في مقولته الشهيرة " "الاقوى ليس قويا تماما ، حتى يقتنع الناس بان ولايته عليهم حق له ، وان طاعتهم لأمره واجب عليهم". "الشرعية السياسية" من ابرز مباحث علم السياسة المعاصر. ويبدأ بحثها عادة بشروحات ماكس فيبر ، مؤسس علم الاجتماع الحديث ، الذي عالج المفهوم كما هو في الواقع ، وبغض النظر عن تفضيلاته الخاصة.

تحدث فيبر عن نموذجين للشرعية السياسية: تقليدي وعقلاني. اما التقليدي فيدور غالبا حول شخص الزعيم ، الذي يراه الجمهور صاحب حق في السلطان ، بغض النظر عن ممارسته السياسية الفعلية. مع مرور الوقت وبروز اجيال جديدة ، يبدأ الناس بالتفكير في "انجازات" الزعيم ، بوصفها عاملا شريكا في استمرار شرعيته.

لكن "الانجاز" مفهوم قصير الأمد ، بسبب المسافة الواسعة بين توقعات الناس وقدرة الدولة على تحقيق تلك التوقعات. يخضع عمل الدولة ل "قانون الندرة" ، الذي هو في الوقت ذاته السر وراء صعوبة ارضاء الجمهور (رضا الناس غاية لا تدرك ، كما نقل عن لقمان الحكيم).

يطالب الناس بأكثر مما تستطيع الحكومة انجازه ، فتضطر الحكومة لتذكيرهم بالقانون ، وهو الاطار الحديث/العقلاني للشرعية السياسية. اي انها تتحول من التأكيد على الانجاز كمصدر لشرعية سلطانها ، الى التأكيد على القانون كاطار ناظم لهذه الشرعية ومبرر لاستمرارها.

من الناحية الواقعية بلغ العالم العربي مرحلة الشرعية العقلانية. لكنه - على المستوى الثقافي – ما زال في مرحلة الشرعية التقليدية ، التي تتراوح بين الكاريزما والحق الشخصي. وقد ذكرت آنفا ان مطالبات الجمهور تتجه للاشخاص الذين تتألف منهم النخبة السياسية ، ولاسيما شخص الزعيم.

في اعتقادي ان تركيز الجمهور على الاشخاص مرهق لهم وللدولة معا ، فضلا عن كونه غير عقلاني وغير مفيد. ان الصورة المثلى للادارة العامة تتجلى في الفهم المشترك بين الجمهور والنخبة لقدرات كل طرف وحدوده ، والاطار الناظم للعلاقة بين الطرفين ، كي لا تتحول ادارة البلد الى نوع من التجاذب وترامي المسؤولية ، بدل التعاون على حمل الاعباء المشتركة. هذا يعني بالتحديد تحويل مفهوم القانون والشرعية المستندة اليه ، الى جزء نشط في الثقافة العامة ، والتأكيد على خضوع الجميع ، حكاما ومحكومين لمقولاته ، سيما في البلدان التي تعيش ظروف أزمة.

الشرق الاوسط  الأربعاء - 26 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 01 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [15709]

https://aawsat.com/node/3334541/

17/11/2011

العقد الاجتماعي: دراسة في المفهوم والتطور النظري

 الفصل الرابع من كتاب "رجل السياسة"

يناقش هذا الفصل مبدأ العقد الاجتماعي، وهو القاعدة التي تقوم عليها الدولة الحديثة. ويعرض اولا معنى العقد واهميته. ثم يستعرض التطورات النظرية التي قادت الى ظهور هذا المبدأ وتحوله الى معيار اساسي للحكم الرشيد. ويبدأ بعرض نظرية التفويض الالهي المسيحية كمثال على النظريات السابقة لظهور فكرة العقد. ثم يشير الى التحولات الكبرى التي شهدها عصر النهضة الاوربية سيما دور الدين في الحياة العامة. كما يعرض ببعض التفصيل فكرة "الحالة الطبيعية" التي مهدت لتقرير جديد عن مفهوم العدالة وحق المجتمع. ويناقش بعد ذلك ابرز التصورات الفلسفية حول العقد الاجتماعي من خلال اراء توماس هوبز، جون لوك، وجان جاك روسو. ويعرض في الختام امثلة عن الاراء التي عارضت هذه النظرية. العقد الاجتماعي هو قاعدة الاجماع الوطني ومن دونه سوف تكون الحكومة منفصلة عن المجتمع.

مجتمع المدينة

المجتمع المدني او مجتمع المدينة مفهوم مركب يصف نمط ونظام الحياة لجماعة تعيش في بقعة محددة. تتمايز المدينة عن الغابة بالنظام الذي يحكم حياة الافراد ويضبط العلاقة بينهم. قد يكون هذا النظام عادلا وقد لا يكون، لكنه على اي حال نظام يتبعه الناس ويخضعون له راضين او راغمين. جميع بحوث الفلسفة السياسية وعلم السياسة تدور حول مجتمع المدينة. فهو الظرف الوحيد الذي يوفر الفرصة لاختبار النظريات والافكار وهو الوحيد التي يمكن تطبيق تلك الافكار فيه. اما في الغابة فليس ثمة مجتمع، حتى لو وجدت جماعة. نسمي المدينة مجتمعا لوجود ذلك النظام – سواء كان دستورا مكتوبا او عرفا راسخا -.

المجتمع مثل الفرد، منظومة حية، تتطور بمرور الزمن والتجارب والتفاعل مع المؤثرات. في هذا العصر يتحدث الناس عن المجتمع المدني، الصورة الاحدث لمجتمع المدينة ، الذي يمثل نظام علاقات قائم على عقد ضمني بين اعضائه، يضمن المساواة بينهم في الحقوق والواجبات ويشتركون على ارضيته في المنافع والموارد العامة والمسؤوليات.

فكرة العقد الاجتماعي هي جواب على سؤال يبدو بديهيا : 1- ما هي القاعدة النظرية التي تقوم عليه العلاقة بين بين الناس في مجتمع معين؟، و 2- ما هو مصدر الولاية التي تسمح للحاكم بالامر والنهي والتصرف في امور الناس وفي الموارد العامة؟.

العقد الاجتماعي كقاعدة للسلطة السياسية

ثمة اتجاهان اساسيان في هذا الاطار، اقدمهما يقول بان الحاكم يستمد سلطته من مصدر خارج المجتمع، قد يكون هذا المصدر هو السماء كما في بعض النظريات الدينية، وقد يكون في السلالة او الدم كما في الانظمة الوراثية، وقد يكون في القوة القاهرة التي تشير اليه  نظرية حكم المتغلب التي راجت بين المسلمين في القرن العاشر الميلادي. اما في العصور الحديثة، فقد اتفق اغلبية البشر على ان مصدر السلطة هو المجتمع نفسه، حيث اعتبر رضا عامة الناس المصدر الاول والاساس لسلطة الحكومة، وهو جوهر نظرية العقد الاجتماعي التي نتحدث عنها. بكلمة موجزة فان العقد الاجتماعي هو القاعدة الفلسفية لسلطة سياسية منبعثة من داخل المجتمع ومعبرة عنه وليست مفروضة عليه من خارجه كما هو الحال في معظم النظريات القديمة.

يشير مفهوم العقد الاجتماعي الى توافق وتعاقد بين اعضاء المجتمع، غرضه تنظيم العلاقة التي تربط بينهم، وتنظيم علاقتهم كمجموع بالحكومة التي تدير امورهم. ويفترض العقد ان المتعاقدين، أي مجموع افراد المجتمع لهم حقوق وعليهم واجبات تنظمها توافقات واعراف وقوانين. هذه التوافقات والاعراف هي بمثابة نظام شامل يكفل انتظام وسيرورة العلاقة بين الافراد والتوزيع العادل للموارد المشتركة، وحل التعارضات التي قد تنشب بينهم. وبمقتضاه ايضا قامت الحكومة كممثل لمجموع الافراد ونائب عنهم في تنفيذ مفاد تلك الاعراف والقوانين وادارة المصالح المشتركة. من هنا اعتبرت الحكومة هيئة تابعة للمجتمع وخاضعة لارادته، كما ان رجالها يصلون الى مناصبهم ويمارسون عملهم بناء على تفويض من جانب موكليهم اي اعضاء المجتمع.

العقد الاجتماعي ليس حدثا تاريخيا، بل هو مفهوم فلسفي وفرضية اخلاقية او معيارية. ولذلك لا يهتم الفلاسفة وعلماء السياسة بما اذا كان التاريخ قد سجل حصول هذا العقد في مكان معين او زمن معين قدر ما يهتمون بمفهوم العقد ومبرراته[1]. يرجع مفهوم العقد الاجتماعي الى زمن قديم جدا قدم الفلسفة السياسية نفسها، فثمة اشارات اليه في مجادلات سقراط وافلاطون[2] وفي التراث القانوني للمشرعين الرومان. لكن صيغته الحديثة ترجع فقط الى القرن السابع عشر. وقد طرحها توماس هوبز المفكر الانكليزي كرد على نظرية التفويض الالهي التي تبناها ملوك اوربا حينذاك. وبعد هوبز تطورت الفكرة على يد جون لوك وجان جاك روسو الذي أوصلها الى صورتها التي نعرفها اليوم.

نظريات التفويض الالهي للسلطة

 كون رضى الناس شرطا لمشروعية السلطة السياسية ليست فكرة جديدة او غريبة، فقد كانت متداولة منذ اقدم الازمنة. وتعرفنا عليها في كتابات الفلاسفة اليونان وفي ممارسات الدولة الرومانية والساسانية كما في التراث الديني الاسلامي. العنصر الجديد في المسألة هو كون الحكومة ممثلا للشعب ووكيلا عنه، لا سيدا له. بعبارة اخرى فاننا امام وضعيتين متمايزتين: الاولى حاكم اختاره الشعب وفقا لعقد محدد، فهو يستمد سلطته من ذلك العقد، ويمارسها في حدوده كوكيل عن المتعاقدين (الشعب) وممثل لهم. اما الثانية فهي حاكم مفروض على الشعب، فهو يستمد سلطته من المصدر الذي وضعه في هذا المنصب، لكن الشعب راض عنه لسبب او لآخر. الصيغة الاخيرة هي التي كانت جارية حتى زمن قريب. لكن الفكر السياسي الحديث يرفضها، ويدعو لحكومة منبثقة من الشعب وخاضعة لارادته.

كانت معظم الحكومات التي قامت في العالم حتى القرن الثامن عشر من النوع الثاني، اي المفروض على الشعب، وبعضها كان مرضيا وبعضها الاخر غير مرضي. لكنها لم تكن فاقدة للشرعية تماما، ذلك انها سعت الى تسويغ سلطانها بالرجوع الى نظريات دينية احيانا او بادعاء التفوق العرقي او غيره او لكونها ببساطة تملك من قوة الجبر ما يلزم الجميع بالخضوع لسلطانها. وقد عرفت المجتمعات المسلمة والمسيحية في تاريخها حكاما يستندون الى نظرية التفويض الالهي التي تعتبر الملك خليفة لله في ارضه وان سلطته مستمدة من كونه وكيلا للخالق، وان طاعته مفروضة على الناس بمقتضى الايمان[3].

طبقا لنظرية التفويض الالهي المسيحية فان الدولة مؤسسة دينية تستمد سلطتها من الله. وان الخضوع لها واجب ديني، كما انه ضرورة سياسية، بالنظر لان الدولة هي ضامن العدل، ومن هنا فقد كان للحكومة نوع من القداسة. ويرجع الفضل في تطوير هذه النظرية الى احد آباء الكنيسة المسيحية البارزين، القديس اغسطين (354-430) الذي استفاد من اراء افلاطون، الفيلسوف اليوناني، ومن تجربة السلطة في ظل الامبراطورية الرومانية، لا سيما اراء سيسرو، القانوني الروماني، اضافة الى تعاليم حواريي السيد المسيح، ووضع كتابه الشهير "مدينة الله" كاول تصوير متكامل للنظرية السياسية الكاثوليكية. اعتبرت هذه النظرية الانسان كائنا اجتماعيا، لكنه مذنب بطبعه، اعتمادا على ما وصفه اغسطين بالاثم الاصلي الذي انزل ابانا ادم الى الارض، فلا بد من سلطة قادرة على منع الاثمين من الاستغراق في خطاياهم. واعتبر ان نظام الكون يقضي بوجود طائفة من الناس حاكمة والاخرى محكومة، لانه ضرورة للعدالة من جهة ولانه علاج للاثم الاصلي من جهة اخرى. وعليه فان السلطة الجبرية ضرورية. كما قال ان العدل غير قابل للتحقق الا في دولة دينية، تقيمها الكنيسة او تخضع لتوجيه الكنيسة [4].

روبرت فيلمر

شهد القرن السابع عشر ظهور اتجاه اخر يقترب شيئا ما من نظرية التفويض الالهي، لكنه لا يرجع السلطة الى الكنيسة. ولعل اشهر الصيغ التي عبرت عنه هي نظرية "السلطة الابوية" التي شرحها روبرت فيلمر في كتابه Patriarcha. طبقا لفيلمر (1588-1653) فان سلطة الملك هي امتدادا للسلطة الطبيعية للاب على عائلته وخدمه. وهي مرحلة متاخرة من السلطة التي منحها الله لابينا ادم عندما خلقه وفوضه سلطة كاملة على ذريته. انتقلت سلطة آدم الابوية الى كل الاباء على عوائلهم، اما السلطة على جميع العائلات فقد فوضها الله للملوك. ولأن سلطة الملك ممنوحة من الله فهي مطلقة وغير قابلة للتحديد او المحاسبة او النقاش. طاعة الملك هي امتداد لطاعة الخالق، فهي بالتالي واجب ديني وتعبير عن تدين الانسان وايمانه[5].

وتستند هذه النظرية في بعض جوانبها وتبريراتها الى تراث الفلسفة اليونانية القديمة، ولا سيما في اعتبار السلطة السياسية تطورا طبيعيا لسلطة الاب في العائلة. وتنكر امتلاك الفرد لهوية متمايزة عن الهوية الاجتماعية الاوسع. كما ترى ان المحافظة على القيم والفضائل مسؤلية الملك وان السياسة حرفة خاصة بالنخبة التي تتمتع بالمعرفة والفضل وليست شغلا لعامة الناس. وتقوم نظرية التفويض هذه على قاعدة مختلفة عن تلك التي انطلق منها فلاسفة اليونان، الا انها استفادت من فرضياتهم في جعل بنيتها العامة اكثر الفة ومقبولية.

مجادلات عصر النهضة

طرح فيلمر نظريته الابوية في غمرة ازمة سياسية طاحنة عصفت بالمجتمع الانكليزي في العقد الرابع من القرن السابع عشر، وكان هدفها المحدد هو اقناع المثقفين والعامة بمشروعية السلطة المطلقة للملك بالنظر الى ارضيتها الدينية، فضلا عن ضرورتها الحياتية. لكن – على عكس ما توقع فيلمر – فقد اخفقت نظريته في اقناع الجمهور. بل وتسببت في المزيد من الجدل والمعارضة، لاسباب عديدة، اولها: انها لا تقول شيئا جديدا، بل تبرر الواقع القائم وتؤكد على سلامته من الناحية الاخلاقية والقيمية، وعلى ضرورة استمراره. وثانيها هو تاكيدها على المضمون الديني للسلطة، في الوقت الذي تشهد البلاد نزاعات دينية وتمردا على سلطة الكنيسة، بل وانقساما في داخل الكنيسة نفسها بين الطبقة العليا من الكهنة التي تؤيد الملك وعدد من القساوسة الذين انضموا الى دعاة الاصلاح الدستوري. السبب الثالث لفشلها هو تأكيدها على حق الامراء والنبلاء والاقطاعيين القساة في التحكم في رقاب الناس وارزاقهم، دون ان تحدد في مقابل هذا أي مسؤولية او التزامات عليهم تجاه رعاياهم ومن تحت ايديهم من ضعفاء الناس. واخيرا فانها تنكر أي حق او دور لعامة الناس والمثقفين وذوي الرأي ممن لم يرتبط بالبلاط الملكي او ينضم  الى واحدة من حلقات النخبة العليا الدينية او العسكرية او كبار الملاك.

ماتت نظرية فيلمر حول "النظام الابوي" في مهدها، فقد طرحت في وقت غير مناسب على الاطلاق. فعلى المستوى السياسي كانت الاضطرابات قد اضعفت الاساس القيمي الذي يسند السلطة القائمة. كما ان فشل الحكومة في المحافظة على الامن والنظام العام قد اضعف هيبتها وقيمتها كقوة فوق الجميع قادرة على فرض اوامرها. من ناحية ثانية فان النهضة العلمية، ولا سيما تراجع مقولات العلم القديم (ومن بينها مقولات الفلسفة الدينية واليونانية) لصالح العلم الحديث، قد قلل جديا من مقبولية "النظام الابوي" كاطار للعلاقة بين المجتمع والدولة. ومن المعروف بالتجربة ان الازمات السياسية الكبرى ولا سيما تلك التي يشارك فيها قطاع كبير من الجمهور تقود غالبا الى اعادة توزيع الثقل النسبي للاطراف الفاعلة في المجتمع السياسي على نحو يعطي للشعب دورا مؤثرا في الحياة العامة وفي التحولات السياسية. ولهذا فان تجاهل دور الجمهور وشراكته السياسية لم يكن منطقيا في تلك الظروف لانه دور متحقق بالفعل وليس مجرد طلب او دعوة او افتراض. كما ان الحديث عن مضمون ديني للسلطة او اعتبار طاعة الملك تجسيدا للايمان لم يكن هو الاخر معقولا في ظل تمرد عام على الكنيسة وارتياب في مصداقية دعاواها. واظن ان تاكيد النخبة الحاكمة وقادة الكنيسة على مفهوم "النظام الابوي" كان من بين الاسباب المهمة لتصاعد الدعوة الى الفصل التام بين الدين والسياسة وابعاد الكنيسة عن الشان العام وحرمانها من سلطة الالزام التي كانت تتمتع بها على سائر الناس.

من المفيد هنا الاشارة الى تحول مهم في الثقافة العامة شهدته تلك الحقبة ويتناول مفهوم الدين والتدين، والعلاقة بين الدين والقيم الحياتية مثل قيمة العقل والعدل والعلم..الخ. ففي القرون الوسطى كان الدين مصدرا اعلى لجميع القيم الفاضلة ومعيارا وحيدا للتمييز بين الفضائل والاثام. وكان يقال ان سلامة الفكر وصحة عمل العقل رهن بالتزامه بالتعاليم الدينية حسبما تعرضها الكنيسة. لكن مع ظهور العلم الحديث فقد حدث تحول انقلابي في الموازنة بين الدين والعقل والعلم. واصبح ينظر الى العلم والعقل كمصدر للقيم مواز او حتى بديل عن الدين. ينظر العلم الحديث الى العقل الانساني باعتباره المصدر الاول للمعرفة والى العقل باعتباره مستقلا وقادرا بمفرده على اكتشاف الحق والباطل. تبعا لهذا اصبح الانسان هو القيمة العليا في الحياة الدنيا ومحور جميع القيم، بل ومصدرها ايضا. انطلاقا من هذه النقطة فان النقاشات لم تعد تبدأ كما في السابق بسؤال: "ما هو – مثلا – مفهوم العدل الذي يقبل به الدين؟". بل "ما هو الدين الذي يجسد قيمة العدل ويضمن الحكم العادل؟". ولا يخفى على القاريء الفارق البعيد بين خلفية السؤالين، فالاول ينطلق من اعتبار الدين قيمة معيارية مسلمة ويتعامل مع العدل كقيمة فرعية، اما الثاني فهو على العكس تماما، اذ ينظر الى العدل كقيمة عليا معيارية ويريد دينا منسجما معها، ويتمثل في الاول نوع من التسليم بالدين بينما يجسد الثاني نوعا من التحكم في الدين. وشتان بين المفهومين.

تحول مفهوم الدين في الثقافة العامة كان ردا على استغلال المشاعر الدينية والتعاليم الدينية من جانب زعماء الكنيسة ودعاتها، ولا سيما دعمهم غير المشروط للنظام القائم بكل ما ينطوي عليه من عيوب وتجاوزات. وهو الامر الذي ولد في نفوس ضعفاء الناس شعورا عميقا بان الكنيسة لا تقف معهم بل مع الاقوياء والمتسلطين. نضيف الى ذلك ان الموقف السلبي للكنيسة من المثقفين والفلاسفة، ولا سيما من ذوي الدعوات الاصلاحية الجديدة، قد حمل هؤلاء على توجيه جانب كبير من اهتمامهم الى نقد الفكر الديني ونظام الكنيسة المغلق، وكشف عوار مفهوم العلم الذي تنادي به.

 تصاعد الدعوة للعلمانية، أي استقلال العلم عن الدين واستقلال السلطة السياسية عن الكنيسة، هي اذن رد المثقفين والفلاسفة على تشدد الكنيسة وعجزها عن مواكبة التغيرات الثقافية والاجتماعية التي شهدها مجتمع اوربا في القرن السابع عشر وما بعده. وليس من شك ان الدعوات المماثلة التي نشهدها اليوم  في بلاد المسلمين قائمة على نفس المبررات والاسباب، فالمؤسسة الدينية مطالبة بمواكبة التحولات الثقافية والحضارية، والتطور على نحو يتناغم مع التغيير في حياة المؤمنين وحاجاتهم وتطلعاتهم، فاذا لم تفعل فهي تحكم على نفسها بالانفصال عن عصرها وعن حياة اتباعها.

اشرنا سلفا الى ان فكرة المجتمع السياسي الحديث، قد طرحت في غمار ازمة سياسية اشعلها تمرد اعضاء في البرلمان الانكليزي على سلطة الملك المطلقة واصرارهم على استقلال البرلمان باعتباره ممثلا للشعب. وظهرت على حاشية هذا الصراع نظريات تؤكد على حق هذا الطرف او ذاك. بطبيعة الحال فقد اكد مؤيدو الملك على حقه في السلطة المطلقة وعدم المسؤولية امام نواب الشعب.  في المقابل طرح مؤيدو البرلمان نظرية بديلة تنفي الحق الالهي في السلطة، وتعيد تاسيسها على قاعدة العقد الاجتماعي. ابرز من تصدوا لهذه المهمة يومذاك توماس هوبز الذي قدم نظرية توفيقية، تعترف بسلطة الملك المطلقة لكنها تنكر ارتباطها بالدين. تقوم نظرية هوبز على تاملات فلسفية حول مجتمع ما قبل الدولة، او ما يصفه بمجتمع الحالة الطبيعية، وكيفية تحوله الى مجتمع مدني ينطوي على علاقات تعاقدية.

الفرد بين الحالة الطبيعية والمجتمع المدني

يرجع اهتمام فلاسفة القرن السابع عشر بالمجتمع الفطري، او مجتمع الحالة الطبيعية  state of nature الى اعتقادهم بان تعريف الانسان في طبعه الاولي وقبل ان يتلون بما في المجتمع من مؤثرات واوصاف ومعادلات، سوف يسهم في اكتشاف قانون الطبيعة، اي القانون الفطري الذي اودعه الله في عقل الانسان، فهو سابق على اي قانون وضعه البشر. وثمة احتمال بانهم اهتموا بالقانون الطبيعي كمحاولة لتقديم تفسير مختلف عن ذلك الذي تتبناه الكنيسة. او لعلها محاولة لاستحداث سياق للنقاش السياسي منفصل عن دائرة الفرضيات الخاصة بالكنيسة. اشرنا سابقا الى اعتماد القديس اغسطين في نظريته عن التفويض الالهي على اراء المشرع الروماني سيسرو. ونزيد هنا بان سيسرو كان قد ركز كثيرا على اهمية الفطرة الاولية للانسان باعتبارها قاعدة للسلوك المنسجم مع النظام الكوني، وحاول ان يضع لوائح قانونية تنسجم مع ما اعتقد انه قانون الطبيعة الذي يدركه الانسان بعقله الفطري[6]. لكن اوغسطين اعاد صياغة هذا المفهوم ليجعل قانون الطبيعة مطابقا لمتبنيات الكنيسة، او بعبارة اخرى اعتبر قانون الكنيسة تجسيدا كاملا لفطرة الانسان او قانون الطبيعة، لان كليهما راجع الى مصدر واحد هو الالهام الالهي. كما ان تلامذة مارتن لوثر، مؤسس الكنيسة البروتستنتية، اهتموا كثيرا بالقانون الطبيعي وحاولوا المطابقة بينه وبين ارائهم الدينية[7]. ولعل هذا هو السبب في وصف بعض الفلاسفة اللاحقين مثل جون لوك للقانون الطبيعي بـ "قانون الله". على اي حال فقد كان فلاسفة القرن السابع عشر مهتمين بتفنيد راي الكنيسة القائل بان العلم الديني، اي متبنياتها الخاصة، هو القانون الاعلى والمصدر الوحيد لشرعية السلطة والتنظيم الاجتماعي. رأى المفكرون المعارضون للكنيسة ان القانون الالهي موجود في الطبيعة وفي فطرة الانسان، وان العلم الديني الذي تتبناه الكنيسة ليس سوى راي رجال الكنيسة انفسهم وليس الهيا بالمعنى الدقيق للكلمة. وسواء كان الامر دينيا او غير ديني، فان الخلق الاولي للطبيعة والعالم ينطوي على القانون الاكثر انسجاما وتناغما مع حقائق الكون وضروراته. ومن هنا فان اكتشاف هذا القانون سوف يقود الى حياة فردية واجتماعية متناغمة مع نظام الكون، كما انه في الوقت نفسه سيكشف عن مصدر للشرعية السياسية خارج الكنيسة.

اشرنا سابقا الى نظرية النظام التي طورها ارسطو، ونزيد هنا ان معظم الفلسفات الدينية تشير اليها او تعتمدها بصورة مباشرة او ضمنية، سيما في اشارتها الى العقل الكلي (او الاله) الذي يقف وراء النظام الكوني. ولذا يمكن اعتبار البحث عن القانون الطبيعي احد ابرز التاثيرات الدينية في الفلسفة السياسية الحديثة، سيما في فترتها المبكرة. على اي حال فقد مال معظم المفكرين السياسيين في القرن السابع عشر الى الاعتقاد بان تعريف طبيعة الانسان واكتشاف صفاته العامة والثابتة سوف يسهم في تحديد الصيغة الامثل للحكومة اي الحكم الاكثر فعالية ومشروعية. من ناحية اخرى يرجع اهتمام الفلاسفة بالجدل حول الحالة الطبيعية الى خلافهم حول هوية الفرد، هل هي مستقلة، وهل الفرد قائم بذاته ام ان هويته امتداد لهوية المجتمع، وهل تخضع قيمة الانسان، وبالتالي منظومة حقوقه وواجباته، لتعريف المجتمع وما هو سائد فيه.

نظرية هوبز :

اذا لم يكن توماس هوبز (1588-1679)  ابرز صناع الفكر السياسي المعاصر ، فلا شك انه من اكثرهم تاثيرا على مختلف المذاهب السياسية، والى حد كبير على الاتجاهات الفلسفية الجارية في عالم اليوم. ولد هوبز وعاش في انكلتر كما اقام فترة في فرنسا ، في عهد شهد تناميا مضطردا للفلسفة والعلوم وتفجر الصراع في المجتمع الانكليزي حول الدين والسلطة ودور الشعب . عاصر هوبز اثنين من اشهر الفلاسفة هما الانكليزي فرانسيس بيكون والفرنسي رينيه ديكارت ، وكتب العديد من الكتب والمقالات في الفلسفة ، الا ان اكثرها شهرة هو "لفياثان" الذي نشر في آخر سنوات الحرب الاهلية (1642-1651) وكان بصورة او باخرى رد فعل على تلك الحرب ودوافعها وما ادت اليه . ويلخص اسم الكتاب جوهر فلسفة هوبز السياسية ، ولا سيما نظريته في قيام الدولة.

توماس هوبز

ورد مصطلح لفياثان Leviathan  في التوراة كوصف لحيوان بحري خيالي هائل القوة قادر على ابتلاع الناس والمراكب. وورد في نصوص اخرى كرمز للامبراطورية البابلية في العراق القديم التي كانت يومها اعظم الدول على وجه الارض. اظن ان قرب المصطلحات العربية الى هذا المعنى هو "الغول" وهو ايضا رمز لكائن خيالي ذي هيمنة لا تقاوم ، لكنه – مثل اللفياثان – غير موجود في الحقيقة ، بل هو رمز يصنعه الانسان لوصف القوى التي يتصور وجودها بشكل او باخر ، لكنه لا يعرف حقيقتها ولا يستطيع مقاومتها. انه من هذه الزاوية مثل الجن الذين يرمزون لخوف الانسان اللاواعي من المجهولات. انها اذن كائنات اعتبارية ، وجودها الموضوعي مشروط باعتبار الناس وليس مستقلا بذاته . وتلخص هذه الفكرة تصور هوبز للدولة القوية والقادرة على القهر ، فهو يرى وجودها ضرورة للحياة الاجتماعية التي لا تستقيم من دون مصدر للخوف، اي عامل ردع للافراط في استعمال الحقوق الطبيعية من جانب بعض الناس. لكنها مخلوق انساني ووجودها ليس منفصلا عن اعتبار الناس لها وقبولهم بسلطتها . الناس ارادوها غولا لانهم بحاجة الى غول حقيقي او وهمي يفرض السلام بينهم ويحول دون انشقاق بعضهم او بغيه على البقية.

تنطلق نظرية توماس هوبز السياسية من فرضية ان مجتمع ما قبل الدولة لا يسمح بحياة مدنية سليمة. ذلك ان الانسان عاش فيه منفردا بنفسه، من دون رابطة تشده الى الاخرين. مجتمع الحالة الطبيعية هو اقرب الى احتشاد لافراد غرباء في مكان واحد منه الى صورة المجتمع التي نعرفها اليوم. وبالنظر الى افتقار ذلك التجمع الى سلطة موحدة وقانون مطاع، فقد كان كل فرد مهددا على الدوام من قبل الغير، ومضطرا بالتالي الى حماية نفسه بنفسه. في ظرف كهذا تتجلى الطبيعة الحيوانية الاصلية عند الانسان. فالانسان - كما رأى هوبز - خاضع بطبعه لغرائزه ومهموم بالمحافظة على حياته ومستعد للقتل من اجل ان يبقى. بالنظر الى هذه الظروف فلم يكن ممكنا التفكير في حياة تتجلى فيها معاني الانسانية الحقة او التعاون او السمو الاخلاقي.

تأثر هوبز بالعلم الجديد الذي انهى هيمنة الرؤية الارسطية للعالم كما تتجلى في نظرية النظام المشار اليها اعلاه. واحتذى المفهوم الجديد الذي روجه في تلك الحقبة فرانسيس بيكون، والذي ينظر الى الكون كمنظومة من العناصر في حالة حركة دائمة يقودها تفاعل ميكانيكي بين اسباب ونتائج، قابلة للكشف والتنبؤ[8]. وعلى ضوء هذه الرؤية سعى هوبز الى وضع تحليل عن طبيعة الانسان تربط بين فعله وبين دوافع هذا الفعل وما ينتج عنه. ومن هنا فقد اتسمت نظريته بسمة ميكانيكية واضحة. نظر هوبز الى الفعل العفوي للانسان، (او ما يسميه بالحركة الحيوانية ) كانعكاس لتاثيرات خارجية على حواس الانسان، تؤدي الى انفعال داخلي ايجابي (استمتاع ) او سلبي (الم)، ويتجسد من ثم في فعل له انعكاسات خارجية. يعمل هذا النظام طبقا لمبدأ فحواه ان حياة الانسان هي حركة متواصلة تنتهي بالموت اي توقف الحركة. في هذا الاطار اعتقد هوبز ان الدافع الاكبر وراء الفعل الانساني هو المحافظة على الحياة. وهو دافع يتفوق على اي رغبة اخرى منافسة مثل الرغبة في تعزيز منفعة الغير. كما رأى ان المصلحة الذاتية هي المحرك الرئيس لانفعال الانسان وبالتالي فعله وحركته.  رغم ان الناس يفعلون احيانا ما هو خير لغيرهم الا ان الدافع الاعظم هو خيرهم الخاص. وهم ربما يسعون لارضاء الغير كوسيلة لنيل غايتهم الخاصة. ربما يظن البعض بناء على هذا ان فاعلي الخير هم في نهاية المطاف اشخاص كاذبون يعطون كي يأخذوا. لكن هذا ليس المقصود، المقصود انه حتى فاعل الخير يعتقد في نفسه ان فعل الخير هذا ينطوي على مصلحة ذاتية من نوع ما، سواء كانت تحقيق السعادة او تحقيق الربح او رضا الله. جدير بالذكر ان قدماء الفلاسفة كانوا قد اعتبروا التطلع للسعادة محركا اساسيا لافعال الانسان. ولم ينكر هوبز هذه الفرضية، لكنه صرف السعادة الى التملك، فالانسان يحقق سعادته او شيئا منها حين يتملك ما يرغب فيه.

انتماء الانسان لمصلحته الخاصة من جهة، وخوفه على حياته من جهة اخرى يمثلان عند هوبز طرفي تجاذب في المعادلة الكبرى التي تسود حياة الانسان. السعي للمصالح الشخصية يحرك عنده دوافع الرغبة في التملك ويطبعه بصفات الجشع، كما ان الخوف من الفناء يدفعه للتعقل والتامل في عواقب افعاله قبل الاقدام عليها. لم يؤمن هوبز بان الدين او تقوى الله تشكل رادعا فعالا، بل رأى في الخوف على الحياة او الممتلكات عاملا وحيدا يدفع الانسان لطاعة قوة اخرى. وهو يقول في تاكيد هذه الدعوى ان الطاعة الطبيعية المنبعثة من رادع داخلي لا تظهر الا في مرحلة الطفولة التي يجد الانسان فيها نفسه محتاجا – او مضطرا - للخضوع لأمه، لان حياته متوقفة على هذا النوع من العلاقة. لكن بالنسبة للبالغين، فان انضباطهم السلوكي ومراعاتهم لنظام مشترك مع الاخرين يتوقف على وجود قوة خارجية قادرة على ردعهم عن البغي والتجاوز على بعضهم.

لو تصورنا عددا من الناس يعيشون سوية، ويحمل كل منهم تلك النفسية الجشعة والمدفوعة بالرغبة في التملك، والمفتقرة في الوقت نفسه لاي وسيلة ضبط ذاتي تمنع الفرد من تجاوز الحدود والعدوان على الغير، فالبديهي ان تكون العلاقة بين اولئك الناس حربا دائمة، يحركها تعارض المصالح ويؤجج اوارها الطمع فيما عند الغير او الخوف من تهديده. وصف هوبز هذه الحالة بالمجتمع الفطري او مجتمع الحالة الطبيعية، اي الظرف الذي تنعدم فيه اي قوة قوة قادرة على فرض النظام العام ومنع العدوان وبغي الاقوياء على الضعفاء [9].

تخيل هوبز ان هذا هو الظرف السابق لقيام الدولة. لكن لان جميع اقطار العالم المعروفة محكومة بحكومات، فقد وضع احتمالا بان هذا الوصف ربما يصدق على المجتمعات البدائية فقط. ودعا قراءه الى مقارنة ظروف الحياة المتخيلة في مجتمع ما قبل الدولة بالحالة التي كانت تشهدها انكلترا في زمنه. حيث ادى تفاقم النزاع على السلطة والموارد والانشقاقات المحلية الى حرب اهلية استمرت عدة سنين. كانت تلك الحرب ثمرة لانعدام سلطة مركزية قوية وانقسام البلاد الى اقطاعيات ودوائر نفوذ. في ظل الحرب سقطت كل نظم الضبط الاجتماعي والمثل الاخلاقية التي تحمي حياة المجتمع، وسادت الريبة بين الناس والتنافس على المغانم، وعمت الفوضى والاضطراب وانعدم الامان في ابسط صوره. وهذه في رايه صورة نموذجية عن مجتمع ما قبل الدولة. ومن هذه الزاوية فان كتابة هوبز لم تكن تنظيرا مجردا، بل محاولة لتصوير ظرف قائم ودعوة الناس الى حل. والحل في نظره لم يكن سوى اعتبار "النظام العام" قيمة عليا في الحياة الاجتماعية، تتجاوز من حيث الضرورة والاهمية اي قيمة اخرى بما فيها الحرية والعدل. ولا يكون النظام العام الا بوجود دولة قوية تفرض سلطانها وطاعتها على الجميع.

من هنا قال هوبز بان عقلانية البشر، اي خوفهم على انفسهم من الفناء وعلى املاكهم من التدمير، دعتهم الى اقامة الدولة كي تكون نائبا عنهم في حماية انفسهم واملاكهم من النزعات الشريرة التي قد تتولد في نفوس بعضهم وتقودهم الى العدوان على الاخرين. الدولة اذن هي ثمرة لعقلانية الانسان ورغبته في كبح غرائزه ونزواته. وبسبب قيامها  على رغبة الجميع، فهي هيئة محايدة وممثل للعقل الجمعي. وقد ترتب على اقامة الدولة تنازل كل فرد عن جانب من حقوقه (مثل حقه في قتل جاره اذا اعتدى على املاكه)، من اجل ما هو اعلى قيمة منها مثل الامن الحيوي الشامل وسلامة الجميع. ويظهر في هذا التنظير اثر فلسفة ارسطو، الذي راى انه "لا ينبغي منح الحرية المطلقة لاي رجل لانه لن يكون حينئذ لجام للشيطان الكامن داخل كل فرد"[10].

في تأسيسه لهذه النظرية ركز هوبز كثيرا على عقلانية الانسان، اي قدرته على حساب الارباح والخسائر التي يمكن ان تترتب على افعاله، وميله للتصرف بموجب هذا الحساب. كما ركز على كفاءته الروحية والذهنية التي تؤهله لتشخيص مصالحه بصورة سليمة ومن دون حاجة الى راع او ولي او مرشد كما تقول الفكرة الموروثة عن الفلاسفة اليونانيين والمتعارفة في العلم الكنسي. ويعتبر بعض الباحثين اراء هوبز هذه حجر الزاوية في التنظير الفلسفي لمبدأ الفردانية والعقلانية في تلك الحقبة المبكرة، وهي لا زالت موردا للنقاش الفلسفي حتى اليوم.

على اي حال فان ضرورة الدولة، واستحالة الاجتماع السليم في غيابها هو المحور الرئيس لفلسفة هوبز كما عرضها في كتابيه الشهيرين "لفياثان" و"دي سيف". الدولة التي تصورها هوبز هي القوة الوحيدة في المجتمع التي يحق لها امتلاك وسائل الردع واستعمالها. لكن هذه الدولة لم تقم من تلقاء ذاتها بل هي مؤسسة اقامها المجتمع لكي تمثله وتدير التعارض بين مصالح اعضائه على نحو يوفر الحد الاعلى الممكن من الفوائد لجميع الناس. ومن هذه الزاوية فان شرعية السلطة وحق الملك في الامر والنهي ليس مستمدا من وراثته للعرش كما تجادل الاسر المالكة، وليس مستمدا من ارادة الله كما تقول الكنيسة، ولا من كونه اغنى الناس في البلاد كما يقول الاقطاعيون، ولا من كونه اعلمهم كما يقول الفلاسفة. شرعية السلطة مستمدة من ارادة مجموع المجتمع الذي اقامها لتحمي مصالحه وتدير شؤونه المشتركة نيابة عن كل واحد من افراده. وهذا هو الاصل الاول لنظرية العقد الاجتماعي.

الحالة الطبيعية عند لوك

عاصر الفيلسوف الانجليزي جون لوك (1632-1704) ظروفا شبيهة لتلك التي شهدها سلفه توماس هوبز بدءا من الحرب الاهلية وسقوط الملك شارلز الاول ثم اعدامه في 1649 وقيام جمهورية كرومويل . ثم الحرب الاهلية التي اشعلها النزاع بين انصار الملكية ومعهم الكنيسة الانجليكانية وبعض الكاثوليك ، وبين البيوريتانيين ، وهم طائفة من البروتستانت تتبع المنهج الاصلاحي لجون كالفين استقلت عن الكنيسة الانجليكانية الرسمية وايدت حق البرلمان في السيادة.

جون لوك

ابرز ما كتبه لوك في الفلسفة السياسية هو "رسالتان في الحكومة" . استهدفت الرسالة الاولى تفنيد نظرية روبرت فيلمر التي تؤكد على ان سلطة الملك مطلقة وقائمة على حق الهي. كما استهدفت تفنيد نظرية توماس هوبز التي تدافع عن سلطة الملك المطلقة كضرورة لحفظ النظام الاجتماعي. في الرسالة الثانية حاول لوك تطوير نظرية جديدة تؤكد على امكانية قيام نظام يضمن بصورة متوازية تمتع المواطنين بحرياتهم المدنية ومتانة النظام العام . تقوم فلسفة لوك السياسية على ثلاثة اركان : أ) ان العمل هو مصدر واساس الملكية . ب) ان التعاقد والتراضي هو اساس الحكومة ومعيار سلامة عملها . ج) جميع الناس متساوون واحرار بالولادة وهم مستقلون واكفاء كما هو الحال في الحالة الطبيعية .

عارض جون لوك وصف المجتمع الفطري كظرف انتفاء للقيم الاخلاقية او سيادة اخلاق الغاب. كما رفض مقولة ان التقاتل او حرب الجميع على الجميع هي العلاقة الوحيدة الممكنة في تلك الحالة. ورفض ايضا قصر دوافع الفعل الانساني على المصلحة الشخصية او الخوف من الفناء. يصف لوك الحالة الطبيعية كظرف للمساواة التامة بين الناس حيث لا سلطة لاحد على احد ولا اعتماد من احد على احد. لكن الجماعة الانسانية فيها ليست حشدا من البشر لا يربطه قانون، بل هي محكومة بقانون الطبيعة (او قانون الله) المودع في عقل الانسان والملزم – فطريا - لكل انسان. على اساس هذا القانون فان عقل الانسان يمنعه من العدوان على جاره، كما يرشده الى الدفاع عن نفسه حين يعتدي عليه جاره او يتجاوز على املاكه. ان العدوان والتقاتل هو ثمرة للتمايز، لكن التمايز غير موجود في المجتمع الفطري.

من ناحية اخرى فقد عتب جون لوك على توماس هوبز عدم تمييزه بين حالة الطبيعة وحالة الحرب. الحرب ظرف عداوة وتدمير متبادل وعنف، اما في الحالة الطبيعية فان فطرة الانسان تدعوه لتاسيس حياته وعلاقاته مع الغير على اساس التسالم وحسن النوايا والتعاون المتبادل. يختلف لوك اذن عن هوبز في تحديده للسبب المباشر لقيام الحكومة، فبينما يراها الاخير نتيجة لتعب الافراد من التقاتل، فان لوك يعتبرها علاجا وقائيا توصل اليه الافراد كي يحولوا دون تطور التعارض بين مصالحهم الى تنازع واقتتال. وفي هذا التمييز يكمن فارق اساسي بين نظرة الرجلين الى الطبيعة الانسانية والمعايير الناظمة لها. فقد رأى هوبز ان الجشع والخوف على الحياة هو ما يحرك الانسان، اما لوك فقد رأى ان الفعل الانساني هو انعكاس لما يمليه العقل والضمير المنضبطين بقانون الفطرة.

يتضمن قانون الفطرة ما يجب على الانسان – ومن ثم جميع الناس - فعله او الامتناع عنه. والتزام الانسان به هو الضمان الاكبر لمصلحته الشخصية واملاكه الخاصة، ومن دونه يستحيل على اي انسان ان يكون سيدا لما يملك او قادرا على ضمان مصالحه. جدير بالذكر ان هذه النقطة شكلت موردا ثابتا للجدل بين الفلاسفة. ذهب لوك الى ان المصلحة الشخصية ليست الدافع الوحيد لفعل الانسان، ولو كانت كذلك، اي لو سعى كل فرد وراء مصلحته الخاصة لانتهينا الى الفوضى والفساد والعنف والكراهية، ذلك ان ما يربحه شخص هو خسارة لشخص آخر كما قال الفيلسوف الانجليزي ديفيد هيوم. وهذا ايضا هو مذهب ارسطو، خلافا للرؤية السائدة في المذهب الليبرالي الكلاسيكي الذي يقرر ان سعي الافراد وراء مصالحهم الخاصة هو العامل الرئيس وراء تعاظم المصلحة العامة. افعال الفرد اذن لا تنطلق دائما من اساس منفعي شخصي، بل تقوم اولا وقبل كل شيء على اساس اخلاقي، وهو التزام يؤدي بالضرورة الى صيانة الحياة والمنافع.

اذا كان الامر على هذا النحو، فلماذا يحتاج الناس الى اقامة مجتمع سياسي وحكومة ؟. ولماذا يتنازل الناس عن حريتهم المطلقة وما يتمتعون به من مساواة كاملة في ظرف الحالة الطبيعية ؟.

يجيب لوك بان السر يكمن في ان تلك الحالة مليئة بعدم اليقين وان الانسان معرض للعدوان. صحيح ان قانون الفطرة هو مرجع السلوك العام والجمعي في الحالة الطبيعية، الا ان هذا القانون بذاته ليس محددا على وجه دقيق وليس مدعوما بقوة تنفيذ. انه اشبه بالعرف او الضمير العام الذي يستمد نفوذه من اجماع الناس عليه من دون ان يتمتع بقوة تنفيذ قاهرة ومانعة لخرقه او العبث به. حين تكون الموارد متوفرة للجميع من دون تزاحم، فان احدا لن يصارع الاخر على قطعة ارض او حيوان او مورد ماء او طريق. لكن المشكلة تكمن في ندرة الموارد، اي حين يزيد عدد الناس عن الموارد المتاحة للجميع. عندئذ فقد يبغي الاقوياء على الضعفاء للاستئثار دونهم بما يرونه حقا، الامر الذي يفتح بابا للتصارع والنزاع. هذا الاحتمال يستدعي وجود هيئة محايدة تقوم بالتحقق من حصول المخالفة وردعها، وهذا يتطلب بطبيعة الحال وجود لوائح قانونية مكتوبة ومعلنة تصف ما هو ممنوع وتحدد ما يترتب عليه من عقوبة، كما يتطلب وجود قوة قادرة على الالزام والردع، يدعمها اتفاق من قبل مجموع المجتمع على تمتعها بهذه السلطة. حين لا يكون ثمة منظومة قانونية عامة ولا حاكم محايد فان فوائد المساوة والحرية الكاملة ستكون مرجوحة بالقلق من العدوان ولا سيما بالنسبة للضعفاء او المجموعات الصغيرة. لهذا السبب يميل الافراد الى تاسيس ما يصفه لوك بالمجتمع المدني، حيث يمتنع كل فرد عن استعمال القوة لحماية نفسه ويفوض هذا الحق الى شخص او اشخاص متفق عليهم يمثلون المجتمع ككل في وضع وتنفيذ القوانين اللازمة للسلام الاجتماعي. 

الحكومة ضرورية اذن لفض التنازع بين الافراد. وهي ايضا ضرورية لتخليص الفرد من العبء الذي يتحمله في حماية نفسه واملاكه. مع التحاق الفرد بالمجتمع المدني فانه يفوض الحق في حماية نفسه الى القانون العام كما يتخلى عن حقه الشخصي في معاقبة المعتدين عليه. الحالة الطبيعية اذن ليست خالية من مصادر الازعاج والتهديد. ومع انها محتملة على اي حال، الا ان العاقلين يفضلون الانتماء الى الجماعة لانها الاطار الوحيد القادر على تقسيم العمل، ولا سيما تحمل مسؤولية الدفاع عن كل فرد وعن المجموع، وبالتالي ايجاد وسيلة مشتركة لحفظ الامن والاستقرار والسلام للجميع. توافق الافراد على تنظيم علاقاتهم على نحو خاص، هو ما يصفه لوك بالعقد الاجتماعي. وفي هذا الاطار فان المجتمع المدني عنده هو المجتمع الذي يحكمة قانون قائم على ارضية تعاقد بين افراد المجتمع. بعبارة اخرى فان المجتمع المدني هو خلاصة لعاملين : حاكمية القانون، والتوافق بين اعضاء الجماعة[11].

الحالة الطبيعية عند روسو

فكرة الدولة الحديثة ، هي من غير شك ثمرة المعالجة الرائدة للمفكر الفرنسي جان جاك روسو (1712-1778) الذي اشتهر بعمله الابرز "العقد الاجتماعي". عرف روسو كمفكر بعدما كتب "رسالة في العلوم والاداب" التي ركز فيها على التاثير السلبي للتقدم العلمي على الفضائل والاخلاقيات. وازداد شهرة بعد كتابه الثاني "رسالة في اصل عدم المساواة" والتي جادل فيها بان الانسان صالح بالفطرة لكن الفساد يعرض له بسبب المشكلات والعقد التي ينطوي عليها النظام الاجتماعي والتي نتجت عن تجربة تاريخية مليئة بالمشكلات. ويعتبر كتابه "في العقد الاجتماعي" بين اهم ما كتب في الفلسفة السياسية في تلك المرحلة ، ونشر في 1762. وقد منع الكتاب في فرنسا واضطر روسو للهجرة الى سويسرا . عاش روسو حياة مريرة غير مستقرة ، توفيت امه فور ولادته بينما كان ابوه منفيا . وتعرض هو نفسه للاضهاد بسبب افكاره ، من جانب السلطة التي رأت فيه ثوريا يهددها ، ومن جانب اترابه المفكرين الذين وجدوه فوضويا غير محتمل .

مثل هوبز، انكر روسو في رسالته (اصل التمايز) المقولة القديمة بان الانسان كائن اجتماعي بالطبع. وقرر ان المجتمع هو نظام ابتكره الانسان ولم يكن موجودا قبل ان يجري الاتفاق على اقامته. لكنه عارض وصف هوبز للحالة الطبيعية، واعتبره قاصرا عن رسم صورة واقعية للانسان في حالة الطبيعة الحقيقية. رأى روسو ان تصوير توماس هوبز هو واقع معكوس، اي ان هوبز قد اخذ الانسان المتحضر والغى القانون والحكومة والعلم، ثم تصور وضع الانسان من دونها. وقرر روسو انه لا يمكن تصور الحرب ما لم يكن ثمة نزاع على الملكية والمصالح. الارتباط بالمصلحة والملك والاستعداد للحرب من اجلها يتطلب مستوى ثقافيا، يعتقد روسو انه لم يتوفر للانسان في عصوره الاولى. قرار الحرب مع الاخرين يتطلب عملية فكرية معقدة تتضمن فهما محددا للملكية الخاصة واحتساب المستقبل واستيعاب البشر الاخرين بوصفهم تهديدا محتملا، اضافة الى حد ادنى ربما من القدرات اللغوية. اعتقد روسو ان هذه القدرات لم تتوفر للبشر البدائيين لانها ليست ملكات غريزية بل هي مؤهلات مكتسبة تتطور مع مرور الزمن والتجارب. ولهذا، خلافا لهوبز، يصف روسو انسان الحالة الطبيعية كفرد منعزل، منكمش، مسالم، صموت، مفتقر الى التطلعات التي ربما تثير القلق ازاء ما سياتي به المستقبل. وخلافا لهوبز الذي اعتبر غريزة البقاء (ومن ثم المصلحة الشخصية) القيمة الاصلية والاولى في حياة الانسان الطبيعي، فان روسو اعتبرها واحدة من اثنتين، اما الثانية فهي التعاطف مع اخيه الانسان والالم لرؤيته يعاني ويتالم، كما اشار الى قدرة الانسان الغريزية على التعلم وبالتالي تطوير ملكاته الذهنية. لو كانت الاولى هي الغريزة الوحيدة في الانسان لما اختلف عن الحيوانات المتوحشة. وفي الصفة الثانية (التعاطف) يتساوى الانسان مع الحيوان، لكنه يتمايز عنه بانه كائن حر وعاقل رغم ان ملكاته الذهنية لم تتطور بعد. ذلك التعاطف، وهذه الملكات الذهنية الاولية، مكنت انسان الحالة الطبيعية من الانتقال التدريجي الى حالة المجتمع المتحضر. ويدلل على هذا بالقول بانه لو تم اختبار اي من الكائنات الاخرى على مدى الف عام فسوف نجد انها لم تتطور بشكل ملموس. اما الانسان فهو قادر على التطور عندما تتوفر الظروف التي تستثير عقله وتوجب عليه استعماله[12].

راى روسو انسان الحالة الطبيعية محايدا من حيث الاخلاق amoral فهو ليس فاسدا ولا فاضلا. انما تكتسب الفضائل اوالاثام بعدما ينتقل من الحالة الطبيعية الى المجتمع المدني. ينسب روسو اذن انحدار اخلاقيات الانسان الى تاثره بمشكلات المجتمع المتحضر. وخلافا لفكرة مجتمع الشقاق التي تبناها هوبز كوصف لمرحلة ما قبل الدولة، فقد قرر روسو ان المجتمع الانساني في تلك المرحلة الافتراضية كان قادرا على العيش مع الدولة او بدونها، وفي كلا الحالتين فانه اميل الى التوافق والسلام واقامة علاقات مصالح بناءة. ان عقلانية البشر هي التي تدفعهم الى التسالم والتوافق والعمل المشترك. ومن هنا قال بان ممارسة الدولة للقمع ضد المجتمع ككل او ضد جزء منه، هو نقض صريح لفلسفة وجودها. 

جان جاك روسو

شرح روسو في الجزء الثاني من كتابه "اصل التمايز" كيف تطور الانسان من حالة الفردانية المطلقة والانعزال الى حالة المجتمع المدني. في اول الامر كان ثمة شكل من العمل الجمعي التعاوني في صيد حيوان او ما يشبهه من الاعمال المحدودة وقصيرة الامد، وربما تضمنت ايضا تطوير شكل اولي من لغة التخاطب تتكون اساسا من الاشارات. ومع الزمن تطور هذا التعاون الى علاقات اكثر ثباتا مثل العائلة التقليدية، التي في ظلها ظهر شكل العلاقة الزوجية والحب الابوي. في هذه المرحلة ايضا ظهر مفهوم الملكية والشعور بالاعتزاز والتنافس. لكن هذه المشاعر لم تتطور الى الحد الذي يوجب الالم والتمايز كما هو في مجتمع اليوم. ولو بقي الناس على تلك الحال لكانوا سعداء في الغالب. جاءت المرحلة التالية من تطور الانسان حين اكتشف الزراعة وتشكيل المعادن، فهذه الاعمال تتطلب تقسيما للعمل ومن ثم التخصص والتعاون. بعض الناس اكثر اهلية لاعمال معينة بدنية، بعضهم افضل لصناعة الادوات واخرون اكثر قدرة على الادارة وتنظيم العاملين. وبسبب هذا ظهرت تمايزات طبقية ومفهوم محدد للملكية، الامر الذي اثار تعارضات ومن ثم صراعات مصالح.

قال روسو ان تبلور التمايز ومفهوم الملكية كشف لاعضاء الجماعة عن الحاجة الى نوع من العلاقات التعاقدية، التي على ضوئها يعرف كل فرد حقوقه والتزاماته. ويعتقد روسو ان الذين سعوا الى هذا العقد هم الطبقة العليا، فقد كان لديهم ما يخشون خسارته، وكان لديهم مصلحة في توافق الجميع على مشروعية وضعهم الاجتماعي وحماية مصالحهم واملاكهم. ومن هذه الزاوية فهو يظن ان الصورة الاولى من العقد الاجتماعي كانت تنطوي على شيء من المخادعة، لان الدخول في عقد اجتماعي ينطوي على قبول بتقييد للحرية وتفويض للسلطة الى الغير. ويذهب روسو الى القول بان الجميع اختاروا القيود ظنا انها ستضمن حريتهم. ويرجع السبب في هذا الخيار الى قلة خبرتهم بالمخاطر المستقبلية التي ينطوي عليها قيام السلطة، رغم ان لديهم اسبابا كافية للشعور بفوائد المؤسسة السياسية وضرورتها لحياتهم[13].

الحالة الطبيعية والعقد الاجتماعي

رؤية هوبز

استنتج هوبز من تحليله الافتراضي لطبيعة الانسان وظرف الحالة الطبيعية ان توافق الافراد على الخضوع لقانون عام وسلطة مركزية هو ثمرة لعقلانيتهم. هذا التوافق هو بمثابة تعاقد من جزئين: تعاقد بين افراد المجتمع على التعايش الجمعي ضمن نظام واحد، يبدأ بتنازل كل منهم عن بعض الحقوق التي تمتع بها في الحالة الطبيعية (مثل حقه في عقاب المعتدين على املاكه). اما الجزء الثاني فهو تعاقد على تفويض شخص او مجمع من الاشخاص السلطة والحق في تطبيق الجزء الاول من العقد.

هذا العقد اقام مجتمعا منظما وفق قواعد قانونية توافق عليها اعضاؤه. دخل اعضاء الجماعة في هذا العقد كافراد مستقلين عاقلين يتمتعون بحقوق متكافئة في كل شيء. وحين قرروا اقامة هذا النظام فانهم لم يتخلوا عن ذواتهم او هوياتهم الخاصة ولا عن جميع حرياتهم، بل عن جزء منها اعتبر ضروريا للتعايش الجمعي ضمن النظام.

طرح هوبز في تحليله للحالة الطبيعية عددا من المفاهيم الهامة التي اصبحت فيما بعد من اسس التفكير السياسي. ومن بينها مفهوم نسبية القيم والمصالح. اشرنا سابقا الى رأي افلاطون وارسطو القائل بان القيم والمصالح العامة هي امور موضوعية ثابتة وليست موضوعا لحكم الافراد. ونعلم ايضا ان الكنيسة كانت ترى ان كل قيمة او مصلحة لها تعريف ديني يتوجب على المؤمنين اتباعه. اما هوبز فقد رأى ان تعبير الناس عن القيم والمصالح وفهمهم لها هو بالضرورة شخصي ومرتبط بمراداتهم الخاصة، فما ينسبه الملك او القسيس او المواطن العادي الى القيم العليا او المصالح العامة ليس في حقيقة الامر سوى الجزء الذي يهمه ويرتبط بمصالحه الخاصة منها. من ناحية اخرى فان تأكيد هوبز على عقلانية الفرد وكفاءته واستقلاله بنفسه متعارض مع الراي القديم القائل بحاجة الافراد الى رعاية السلطة او الكنيسة كي يعيشوا بسلام وسعادة ولا ينحرفوا عن الطريق المستقيم. اضافة الى هذا فقد تحدث هوبز عن قانون الفطرة الذي اعتبره سابقا لاي قانون آخر وهو منصرف اولا واخيرا الى الحفاظ على حياة الانسان. هذه الفكرة التي طورها الفلاسفة اللاحقون، شكلت اساسا لما يعرف اليوم بالحقوق الطبيعية، اي تلك المنظومة من الحريات والحقوق الفردية التي لا يمكن لاي سلطة او قانون تجريد الانسان منها، وهي تعتبر جزءا لا يتجزا من انسانية الانسان.

خلاصة القول ان العقد الاجتماعي عند هوبز هو مجرد تبرير لقيام قوة ردع موحدة تمنع النزاعات الاهلية، وتستمد شرعيتها من حاجة المجتمع الى الاستقرار، وليس من التفويض الالهي او الحق التاريخي. سلطة الملك تنبعث في رأيه من توافق المجتمع على وجود جهة تحتكر السلطة والقوة.

العقد الاجتماعي عند لوك:

مع جون لوك انتقل النقاش حول العقد الاجتماعي كفلسفة للدولة الى مستويات اعلى من تلك التي شهدناها مع توماس هوبز. طور لوك عددا من المفاهيم المحورية في فهم الدولة والعلاقات الاجتماعية والقانون. وينسب اليه الفضل خصوصا في تطوير مفهوم "الملكية المشتركة للموارد العامة=commonwealth" كجزء من مفهوم الدولة واساس للعلاقة بين افراد المجتمع وبين المجتمع والدولة. ولعله اول من استعمل تعبير "المصلحة العامة" في مفهومها السياسي الذي نعرفه اليوم. وساعد هذا المفهوم الجديد في احداث نقلة هامة في تصور العلاقة بين المجتمع والدولة. فيما مضى كانت الموارد العامة والاملاك غير الشخصية تعتبر جزءا من مختصات الملك يتصرف فيها كيف شاء. لكن لوك قرر ان الناس شركاء في الموارد الطبيعية، وان انتقال اي جزء منها الى ملكية شخص بعينه مشروط بعمله فيها. ينصرف مفهوم الملكية عند لوك الى معنيين :

الاول: ان الانسان يملك نفسه، ولا يمكن تحويل هذه الملكية او التصرف فيها او الغاؤها، ولذا فهو لا يجيز الرق.

الثاني : ان  جميع الموارد في الحالة الطبيعية ملك مشاع لجميع الناس، فاذا عمل الانسان فيها اصبح مالكا لها. اذا حرث الارض ملكها، واذا قطف الثمر او اصطاد حيوانا ملكه، وحسب تعبيره فان الفرد يحصل على ملكية الشيء اذا خلطه بعمله. ويوفر هذا المفهوم اساسا قويا لمفهوم الملكية الخاصة، سواء على ارضية المفهوم النفعي، اي كون الملكية ضرورية لتكوين الثروة العامة، او على الارضية الاخلاقية، اي حق الانسان في ان يحصل على مقابل لجهده. ان انتقال شيء من الاملاك العامة المشاعة الى ملكية فرد معين لا يحتاج في راي لوك الى موافقة المجتمع. لان كل فرد له اصلا حصة في هذه الملكية العامة، وبهذا المعنى فان انتقالها الى ملكيته الخاصة هو مجرد اختصاص بجزء مما يستحقه اصلا في الملكية المشتركة. ومن هذه الزاوية ايضا فقد عارض الاحتكار لانه ينطوي على اختصاص الفرد بما يتجاوز حصته الاعتيادية في الموارد المشتركة، وقد يتضمن تجاوزا على حقوق الاخرين. كما عارض من ناحية اخرى تقييد الحكومة للهجرة الى الاراضي الشاسعة غير المستغلة باعتباره يحول بين خلط العمل بالموارد وقيام الملكية الخاصة. في الحقيقة فقد شجع لوك الهجرة الحرة كعامل لزيادة ثروة الامة من خلال ما يترتب عليها من توسع السوق والتجارة.

 راى لوك ان التوافق هو الاساس الوحيد السليم للنظام السياسي الصالح. قيام الحكومة ينطوي على تنازل من جانب الافراد عن بعض حقوقهم الاصلية، وهو امر لا يمكن ان يحدث من دون رضاهم. الناس في الحالة الطبيعية كانوا متساوين تماما، وكل منهم يملك سلطة بقدر ما. ولهذا يمكن لنا الاستنتاج بانهم وافقوا على وضع حاكم عليهم كي يدير الوظائف التي لا يمكن لكل منهم ان يقوم بها منفردا.  ضمن هذه الرؤية تصور لوك حكومة صغيرة الحجم ذات وظائف محدودة، لا تتدخل في حياة الافراد الشخصية ولا سيما في معتقداتهم. وهي ضرورية لتلافي الفوضى الكاملة التي ربما تقوم في ظرف الحالة الطبيعية الكاملة، لان كثرة المشكلات فيها سوف تجعل الحياة اكثر عرضة للتهديد مما لوكانت تحت حماية دولة الحد الادنى اي ذات الصلاحيات المحدودة. وابرز وظائف الحكومة هو ضمان حياة واملاك المواطنين.

عارض لوك رؤية ارسطو حول مصدر السلطة وميز بينها وبين سلطة الاب او الزوج او رئيس العمل، فهو يرى دورها محصورا في وضع القوانين وتنفيذ العقوبات وحفظ الاملاك واستخدام قوة المجتمع لحماية البلاد من العدوان الخارجي. وخلافا لدور الاب او الزوج الذي يمكن له ان يعتمد على رايه الشخصي في توجيه او استخدام موارد عائلته لاغراض خاصة به او بهم، فان صاحب السلطة السياسية لا يملك الحق في فرض ارائه الشخصية وادارة البلاد بناء عليها، او استخدام موارد الحكومة وقوتها لخدمة مصالحه الخاصة. ان عمل الحكومة يعتبر صحيحا طالما استهدف تحقيق الخير العام للمجتمع، وعبر عن ارادة الجمهور.

في كتاباته السياسية المبكرة، احتذى جون لوك طريق هوبز فاكد على تمتع الملك بسلطة فوق الجميع وشبه مطلقة، مستمدة من رضى الشعب وليس تفويض السماء. واعتبر الملك الحكم الوحيد في موارد النزاع. واوجب على الناس الطاعة، لان الملك ينظر الى المصلحة العامة بينما ينظر كل فرد من الناس الى مصالحه الخاصة. ويرمز الحاكم الى قمة السلطة الطبيعية في العالم. وهو لا يقدم رايا محددا فيما اذا كان بعض الناس ولدوا كي يحكموا مثلما راى ارسطو، او ان الناس جميعا ولدوا متساوين كما قرر روسو لاحقا. لكنه أصر على وجوب طاعة الناس للملك، حتى لو تجاوز حدود القانون، لان الله اراد ان يكون ثمة نظام عام يحفظ حياة الناس واملاكهم، وهذا يستلزم وجود سلطة عليا مطاعة. والواضح ان تشديد لوك على وجوب الطاعة يقوم على وجوب الالتزام بالقانون العام. وهو يحاول حل الاشكال بين الفوضى والانتظام بمنح الملك سلطة ملزمة للمواطنين حتى لو كانت سياسته خاطئة في نظرهم. لكنه في المقابل قرر ان للفرد الحق في الاحتفاظ بحكمه الخاص المنطلق من حرية ضميره، وان حكم الملك الخاطي لا يقلب الخطا الى صواب وان وجبت طاعته. ولهذا يرى ان الملك الذي يحكم بغير الحق او يسعى لمنع اتباع حكم الضمير مرتكب للاثم وان وجبت طاعته.

الى ذلك قرر لوك ان قانون الفطرة جار في كل الاحوال. رغم ان هذا القانون ليس كافيا لاستيعاب شؤون الحياة المختلفة في مجتمع مدني، الا انه يمثل ارضية قيمية لكل قانون آخر. ولذا لا يجوز وضع قانون او سياسة تعارض مقتضياته. كمثل على ذلك فان سعي الانسان للحفاظ على حياته هو عمل اخلاقي تماما. ولذا اجاز له الهرب من قبضة الدولة اذا ارادت اعدامه، حتى لو صدر عليه حكم من قاض عادل (لقتله رجلا اخر مثلا). كما قرر ان حرية الانسان حق لا ينقض، فلا يجوز له التخلي عن حريته الخاصة. كما لا يجوز له استعباد احد. وهو يرجع الى ان الاصل هو الحرية كما في الحالة الطبيعية وقانون الطبيعة، وهذا الاصل حاكم على كل ما يأتي من بعده. بمعنى آخر فقد اعتبر لوك الحرية والمساواة التي تمتع بها الانسان في الحالة الطبيعية شرطا جوهريا لانسانيته، ووصفها بالحقوق الطبيعية بمعنى ان الانسان يتمتع بها لكونه انسانا، وهي بهذا سابقة على اي علاقة اجتماعية او تعاقد، بل ان العقد الاجتماعي قائم على اساسها ومن اجل ضمانها وتعزيزها، فلا يصح ان تؤدي العلاقة الاجتماعية وما يقوم في ظلها من تعاقدات او قوانين الى حرمان الفرد من حقوقه الاصلية. وتعتبر هذه الفكرة من المباديء الكبرى التي قامت عليها منظومة حقوق الانسان التي نعرفها اليوم.

الى ذلك فقد مال لوك الى تفضيل حكم النخبة على حكم العامة. وليس في هذا ما يثير الاستغراب، فعدا عن انتسابه عائليا الى نخبة البلاد، فقد عمل دائما في هذا الاطار. من ناحية اخرى قرر ان على الملك ان يتناسى مصالحة الشخصية حين يتخذ القرارات، وان يتبع في سياساته الاعراف المعاصرة وتوقعات الجمهور، لكنه اعطاه حق الاختيار بين الاراء المختلفة، نظرا لكونه في الموقع الانسب لتقرير السياسات الافضل على ضوء الزامات زمنه. كما اكد على ضرورة اخضاع الحكومة واعمالها للمحاسبة والتدقيق للحيلولة دون انزلاقها الى الاستبداد او اغفال الاغراض التي قامت لاجلها.

يظهر في كتابات لوك الاخيرة قلق متزايد من استبداد الدولة، وهو يعرف الاستبداد كممارسة للسلطة تتجاوز الحق الاعتيادي الممنوح لها على اساس قانون الطبيعة او التوافق الاجتماعي وراي الجمهور. وفي كتاباته المبكرة عارض التمرد على الحاكم حتى لو خرج عن نطاق العدالة. لكنه في الكتابات المتاخرة مال الى القبول بالمعارضة اذا استخدم الملك القوة على نحو يتجاوز مقتضيات العدالة. وتمثل مسألة الطاعة احدى نقاط الاشكال الرئيسية في فلسفة لوك. فهو من جهة لا يرى للحكومة سلطة فيما يتجاوز وظائفها، كما يرى عملها قبيحا اذا تجاوز مقتضيات العدالة. لكنه من ناحية اخرى يخشى من انفراط النظام لو ابى الجمهور طاعة الدولة. وقد حاول تقديم ما يمكن وصفه بقواعد اخلاقية لحل الاشكال، لكن حلوله ابعد ما تكون عن الواقعية. في هذا الاطار فقد رأى ان افضل السياسات هي تلك التي تطاع من دون خوف العقاب ومن دون تانيب ضمير، ولهذا يطالب الحاكم بالامتناع عن الامر بما يتعارض مع نداء الضمير الانساني او يستلزم القسر. في الفصل التاسع من الرسالة الثانية يقرر لوك ان البرلمان يتمتع بسلطة عليا فوق الجميع، لكنها ليست مطلقة او تحكمية. ما تملكه الدولة من السلطة هو ما كان يملكه الانسان في مجتمع الحالة الطبيعية، وهي محدودة في خدمة الخير العام. ولا تملك الدولة او غيرها سلطة التدمير او الاستعباد او افقار رعيتها قصدا. وذهب الى ان استعمال السلطة المطلقة او التحكمية وافتقار الدولة الى قانون مستقر ومتفق عليه يخلق وضعا اسوأ من الحالة الطبيعية.

العقد الاجتماعي عند روسو

ينسب مفهوم العقد الاجتماعي في صورته التي نعرفها اليوم الى المفكر الفرنسي جان جاك روسو. وهو وان لم يبتكر هذا المفهوم، الا ان اضافاته وتفسيراته والمفاهيم الجديدة التي طورها في اطاره، حولته الى فلسفة  متكاملة للحكم وعلاقة المجتمع بالدولة. تصدى روسو لعدد من الاشكالات التي اثارها تطور السجال حول حقوق الفرد وحرياته في ظل نظام اجتماعي توافقي. في الحقيقة فان الاشكالية العامة التي حاول روسو معالجتها في معظم كتاباته هي : أ) كيف يحتفظ المجتمع بالسيادة بينما يفوض ممارستها الى الحكومة ؟، ب) كيف يحافظ الافراد على حرياتهم واملاكهم في ظل نظام اجتماعي يؤدي بالضرورة الى تفاوت في القوة والنفوذ والمكانة ؟. الفرد يتخلى عن الحريات الطبيعية التي تمتع بها قبل المجتمع المدني من اجل حريات  مماثلة او ربما اكبر في ظل المجتمع المدني. فكيف يتحقق ذلك مع وجود حكومة قوية وتباين في القدرات بين الطبقات الاجتماعية المختلفة؟.

تتمايز نظريات روسو عن هوبز ولوك في الاغراض التي استهدفت معالجتها. فبينما انصب اهتمام توماس هوبز على النظام العام وصيانته من خلال شرعية سياسية توافقية، وكان هم جون لوك هو التاكيد على مرجعية القانون الطبيعي او قانون الله في المجتمع المدني، فان الهم المحرك لروسو هو التاكيد على الاساس التوافقي للمجتمع المدني، وفوقيته على الدولة، والمساواة بين اعضائه، وضمان حرياتهم في مختلف الظروف.

في هذا السياق طور روسو واحدا من ابرز المباديء التي تقوم عليها الدولة المعاصرة، وهو مبدأ "الارادة العامة" لاعضاء المجتمع ككل. الارادة العامة في رايه هي القاعدة الاولى للقانون.  

استهدف كتاب روسو " في العقد الاجتماعي" بيان كيف يمكن ان تقوم حكومة ويفرض قانون عام من دون التضحية بالمساواة بين المواطنين او تهديد امنهم الشخصي. وحسب تعبيره فان :

المسألة هي كيف نقيم رابطة اجتماعية تستثمر القوة المشتركة للجميع في حماية كل عضو من اعضائها، حماية شخصه واملاكه. وكيف ننظم هذه الرابطة على نحو يجعل كل فرد متحدا مع الاخرين، في الوقت الذي يحتفظ بنفس الحرية التي تمتع بها قبلئذ. هذه هي المسألة الجوهرية التي يستهدف العقد الاجتماعي حلها.[14]

في الحقيقة فان روسو كان يسعى للانتقال من المفهوم الاولي للعقد الاجتماعي الذي وصفه بالمخادع الى مفهوم اكثر تمدنا يصفه بالعقد الاجتماعي المشروع. كان هوبز قد قرر ان العقد الاجتماعي ضروري لتبرير السلطة لكنه ليس قيدا عليها ولا مبررا لتحديدها. ولهذا لم يجز للافراد التمرد على الدولة اذا خالفت مضمون العقد، بينما رأى كل من روسو وجون لوك ان للمواطنين الحق في التمرد لان العقد ليس فقط مصدرا لمشروعية الدولة بل هو ايضا قيد على سلطاتها. فاذا تجاوز الحاكم مضمون العقد في معاملته للمواطنين، فقد شرعية سلطانه. قرر روسو ايضا ان الجماعة، او عامة المواطنين، هي المكون الاساس للاجتماع السياسي وان الدولة فرع من هذا الاجتماع وان انتظام الاجتماع السياسي رهن بتحقق قدر عال من الحريات العامة والمساواة بين اعضاء الجماعة.

يرجع روسو التمايز في مجتمع الحالة الطبيعية الى عوامل طبيعية مثل العمر والقوة البدنية والعدد. اما في المجتمع المدني، القائم على اساس تعاقد والمنظم وفقا للقانون، فان طبيعة الحياة تخلق تمايزات مؤسسية او اصطناعية مثل التمايز في النفوذ والمكانة والسلطة الخ. ومع ان قوانين المجتمع المدني لا تقضي على اي من هذه التمايزات، الا انها في الوقت نفسه لا تتخذها اساسا للتمييز بين الافراد في الحقوق العامة. تلك القوانين هي المرجعية التي تقوم في اطارها ووفقا لمعاييرها مساواة شرعية وقانونية بين الجميع، مساواة يقر بها الجميع للجميع، حتى لو تفاوتوا في المواهب والامكانات المادية او في المكانة او النفوذ[15].

اهتم روسو ايضا باعادة تعريف مفهوم الحرية الفردية. فهو يرى ان الحرية التي يتمتع بها الانسان في المجتمع الطبيعي محدودة بقدراته البدنية والفكرية. بطبيعة الحال فان الفرد لا يستطيع فعل كل شيء، ولهذا فان حريته محدودة وضيقة حتى لو لم يكن هنالك من يزاحمه. اما في المجتمع المدني فان بوسع الفرد الاستفادة من نظام تقسيم العمل الذي يوفر فرصا وخيارات جديدة اوسع كثيرا مما يستطيع الفرد توفيره لو كان منفردا. ويشير هذا المعنى الى واحد من ابرز التعريفات المعاصرة للحرية، اي ذلك الذي يقرنها بتعدد الخيارات والفرص المتاحة للفرد. بعبارة اخرى فان الانتقال الى المجتمع المدني يمثل – في راي روسو – ضرورة للتمتع بحريات ممكنة لكنها غير متاحة في مجتمع الحالة الطبيعية بسبب الحدود الضيقة لقدرات الفرد.

يضمن الفرد حقوقه وحرياته في المجتمع المدني لان هذا المجتمع قائم على اعتراف متبادل من جانب اعضائه بتلك الحقوق والحريات. وعليه فان حياة الفرد واملاكه التي كان مضطرا لحمايتها في الماضي بساعديه، اصبحت الان مضمونة بتوافق اجتماعي على كونها حقا له، والتزام جميع اعضاء المجتمع بالامتناع عن التعدي عليها. هذا الاقرار الجمعي موثق في قوانين المجتمع المدني، وهو توافق تؤكد فاعليته سلطة الردع التي تملكها الحكومة التي اقامها المجتمع لهذه الغاية. من هنا فان الفرد ليس منشغل الذهن بالحفاظ على حياته واملاكه وليس مضطرا للسهر عليها لان المجتمع ككل يقوم بهذه المهمة من خلال اقرار اختصاص الفرد بها باعتبارها حقا مدنيا متفقا عليه. لقد خسر الفرد اذن حرياته الطبيعية لكنها استعادها في اطار الحريات والحقوق المدنية[16].

الاراء الناقدة لنظرية العقد الاجتماعي

رغم ان العقد الاجتماعي، ولا سيما في الصيغة التي طورها لوك وروسو يمثل ارضية قيمية لمعظم النظم السياسية القائمة في عالم اليوم، الا ان الجدل حول سلامة التاسيس الفلسفي لنظرية العقد الاجتماعي لم يتوقف حتى اليوم[17]. انطلق بعض هذه المجادلات من نفس الفكرة التي عرضناها في الصفحات السابقة، وخلاصتها ان الميزات التي نتمتع بها في اطار المجتمع المدني، مثل الحرية وتقسيم العمل والمساواة والضمان القانوني للحقوق الفردية، هي ثمرة للنظام السياسي "المفروض علينا". فنحن لم نختر الوجود ضمن مجتمع سياسي. المجتمع السياسي قائم كعقد شراكة ازلي ابدي يشترك فيه – حسب تعبير ادموند بيرك – الاموات والاحياء والذين لم يولدوا، ومن هنا فان جعل العقد او الخروج عنه خيارا مفتوحا للافراد مناقض بالضرورة لاغراض النظام الاجتماعي الذي قام العقد اساسا من اجل توطيده[18].

من نفس المنطلق ايضا يجادل الفيلسوف المعروف هيجل مشككا في تعريف الارادة الفردية التي يفترض انها كانت طرفا في العقد الاجتماعي عند انشائه. رأى هيجل ان الفرد الذي يفترض انه شارك في انشاء العقد هو مواطن ضمن نظام سياسي قبل ان يعي الحاجة الى ذلك العقد. النظام السياسي ضرورة منطقية وضرورة واقعية، والضرورات ليست من الامور التي تقيمها قرارات الافراد. ومن ناحية اخرى فان موضوع هذه الارادة محدد بالملك الشخصي وهو صغير بالضرورة، اما موضوع العقد، اي انشاء الدولة فهو واسع جدا ومتعدد الابعاد ولهذا فمن المستبعد ان يدخل الموضوع الثاني ضمن اطار الاول[19].

عارض كارل ماركس نظرية العقد الاجتماعي ضمن معارضته الاصلية لليبرالية واقتصاد السوق وهو يركز على التمييز بين الحريات السياسية والتحرر الانساني ويربط الاخير بمكانة الفرد في النظام الاقتصادي. فهو ينتقد المقاربة الفردانية المعتمدة عند منظري المجتمع التعاقدي قائلا ان الفرد الذي يفترض هؤلاء المنظرين دخوله الى المجتمع كمتعاقد هو مجرد فرضية عن طبيعة الانسان انتجها نظام اجتماعي يعتمد "اقتصاد السوق"، وهي تهدف الى تبرير هذا النظام وخدمة اغراضه. ومن هذه الزاوية فهي دعوى ايديولوجية يستهدف اصحابها عولمة منظورهم الخاص للطبيعة الانسانية، وتقديمه كحقيقة موضوعية غير تاريخية.  النظام الاجتماعي الليبرالي الذي قام على اساس العقد لم يضمن – حسب ماركس- حرية حقيقية للمواطنين الذين لا يملكون سوى قوة عملهم. نظام السوق الحرة قائم على استغلال من يملكون المال لمن لا يملكون سوى قوة العمل. الحرية الحقيقية مشروطة بالقدرة على الانتفاع الكامل بالقيمة التي يضيفها الجهد الشخصي، لكن نظام السوق الحرة يعطي الافضلية في الانتفاع بالقيمة المضافة لاصحاب الرساميل لا المنتجين، وعليه فان القانون الذي يبيح هذا التمايز هو بالضرورة قيد على حرية العامل لانه يلزمه بالعمل خلافا لمصلحته ويضطره للتنازل عما هو حق له. اخيرا فان ماركس ينعى على منظري العقد الاجتماعي ربطهم للحرية بالتملك ولا سيما في نظرية جون لوك. وهو يميز بين الحريات السياسية والتحرر الانساني الذي لا يمكن تحقيقه في ظل الراسمالية وتجسيدها الرئيسي اي اقتصاد السوق الليبرالي. اقتصاد السوق – عند ماركس – ميدان يلعب فيه راس المال ويقوم بالضرورة على استغلال المنتجين، اي اكثرية المواطنين. يمكن لهؤلاء المنتجين التمتع – ظاهريا على الاقل – بالحرية الفردية والسياسية المقررة وفق القانون، لكنهم مع ذلك محرومون من حريتهم الحقيقة كبشر يستحقون التمتع بجهدهم. وما لم يعالج المجتمع مشكلته الكبرى اي اولوية راس المال وتحكمه في حركة الاقتصاد والسوق، فان هذا النظام سيكون مجالا لحرب الجميع على الجميع، وان الاقوى سيستثمر الاضعف وسيبقى المنتجون عبيدا لمن يملك المال ولو تمتعوا نظريا بحريات سياسية وفردية[20]

راي لاريجاني

بين الاسلاميين المعاصرين نشير الى اراء محمد جواد لاريجاني، المفكر الايراني المحافظ، الذي يرفض الاساس التعاقدي للنظام السياسي اعتمادا على مبررات دينية وفلسفية. ويقرر ان العقلانية الجمعية المرتبطة بالحاجات المشتركة هي اساس الرابطة الاجتماعية، ولهذا فهو يعرف المجتمع السياسي كمنظومة عمل غرضها ومبررها هو العمل المشترك لانجاز المصالح العامة، التي تتحدد بدورها على ضوء العقلانية المشتركة [21].  ويؤكد لاريجاني على اراء ارسطو والفلاسفة المحافظين القائلة بان الفرد لم يشارك في خلق الرابطة الاجتماعية او الهوية المستمدة منها بل وجد نفسه ضمنها او انضم اليها مدفوعا بحاجاته الحيوية التي لا يمكن انجازها خارج الجماعة. بهذا المعنى فان الفرد قرر مع معرفته المسبقة واختياره قبول العقلانية او العقيدة المشتركة للجماعة وما يترتب عليها من التزامات[22]. يشير هذا المفهوم ضمنيا الى ان حقوق الافراد ليست طبيعية، اي مستحقة بالولادة، كما رآى هوبز، بل هي نتاج لتكييف اجتماعي وبالتالي فهي مشروطة ومحددة وفقا للشروط الخاصة بالعقيدة الاجتماعية : "تكتسب افعال الانسان معناها بعدما  يعرف الفاعل نفسه وعلاقته مع العالم المحيط [..]. ان اكبر اخطاء الليبرالية يكمن في اغفال ارتباط الانسان بعالمه".انطلاقا من هذه الفكرة ينكر لاريجاني تمتع الفرد بهوية مستقلة عن الهوية الاجتماعية العامة، كما يؤكد على ان المصالح الفردية ليست موضوعا لعمل النظام السياسي والدولة. الدولة لا تمثل مصالح المواطنين الافراد كما هو السائد عند الليبراليين، بل المصلحة الجمعية للمجتمع باعتبارها كلا غير قابلا للتقسيم[23].  

محمد تقي مصباح يزدي

في السياق نفسه يعارض مصباح يزدي، وهو فقيه واستاذ للفلسفة في الجامعة الدينية بمدينة قم الايرانية، المقاربة الفردانية المعتمدة في نظرية العقد الاجتماعي، ولا سيما تركيزها على كفاءة الفرد واستقلاله وعقلانيته. فهو يرى ان هناك شريحة من المتطلبات الحيوية يستوجب ادراكها قدرات تتجاوز الامكانات الفكرية والسيكولوجية الاعتيادية للافراد. غرائز الفرد تدفعه نحو حاجاته المادية الملحة، فينسى او يغفل حاجاته المعنوية  والوجودية، رغم انها اكثر اهمية من الاولى. ولهذا السبب احتاج الانسان الى موجه ومرشد من قبل السماء [24].  وتشبه هذه المقاربة راي الفيلسوف الامريكي المعاصر مايكل ساندل الذي انكر على الفردانية الليبرالية غضها من  قيمة الخير حين فوضت تشخيص مصاديقه للافراد الذين يتاثر تفكيرهم في الاشياء بمصالحهم الشخصية. بينما يمكن لجميع الافراد ان يشتركوا في انجاز مهمات ترتبط بالخير العام الذي قيمته معنوية في الاساس[25]. قصور الانسان عن ادراك جميع حقائق الحياة (او مصاديق الخير العام كما عند ساندل) يعني – حسب لاريجاني - امكانية ارتكاب البشر لاخطاء في قراراتهم، بما فيها التوافقات الجمعية وحتى العقد الاجتماعي. حين يتفق الناس على الخطأ فانه لا يمكن وصف هذا الاتفاق بالعقلاني[26]. ويتضح ان مفهوم لاريجاني للعقلاني واللاعقلاني يرتبط بالفعل ذاته وليس بالفاعل كما هو عند الفلاسفة الاوربيين الذين عرضنا اراءهم سابقا. والظاهر ان هذا التمييز عائد الى ايمانه بموضوعية الحسن والقبح في افعال الانسان، وهذا هو الاتجاه العام في الفلسفة اليونانية والدينية، فضلا عن الفلاسفة القائلين بالقانون الطبيعي، خلافا للاتجاه الليبرالي الذي يعتبر التقبيح والتحسين احكاما شخصية.

نشير اخيرا الى رأي محدد طرحه فقيه آخر هو محمد مهدي الاصفي، الذي قرر ان نظرية العقد الاجتماعي تتعارض مع التعاليم الاسلامية في جوانب اساسية فهي تعتبر الانسان سيد نفسه ومالكها، وان له الحق في تقرير مصيره من دول تدخل أحد، كما انها تعطيه حقا مطلقا في تحويل الحقوق السابقة الى من شاء. ويرى الاصفي ان جميع هذه العناصر تخالف الشريعة الاسلامية، التي تقرر لله سبحانه السيادة المطلقة على كل مخلوقاته، وانه هو الذي يقرر مصيرهم، كما انه انزل نظاما محددا كي يديروا وفق بنوده انفسهم ومجتمعهم [27].

خلاصة

 تفترض نظرية العقد الاجتماعي توافقا طوعيا بين افراد متكافئين، يقيمون حكومة تستمد ولايتها من رضاهم بها. في هذا المجتمع يخضع الجميع للقانون الذي يلخص اجماع اهله على نظام محدد لادارة حياتهم المشتركة. كانت السلطة قبل ظهور هذا المبدأ تحظى بنوع من القداسة وتستمد من مصادر خارج المجتمع، مثل التفويض الالهي او نبل السلالة او القوة القاهرة.

تطور مبدأ العقد الاجتماعي في سياق النهضة التي شهدتها اوربا خلال القرن السابع عشر، والذي ادى ايضا الى تغيير اساس الموازنة بين الدين والعقل والعلم ومكانة الانسان ومفهوم السلطة. في العلم الجديد اصبح العقل الانساني المصدر الاول للمعرفة واصبحت احكامه اساسا لتقرير المصالح والمفاسد. واصبح الانسان قيمة عليا في الحياة الدنيا ومحورا ومصدرا لجميع القيم.

قامت فكرة المجتمع التعاقدي على تاملات فلسفية قدمها توماس هوبز الذي افترض ان الناس توصلوا الى ضرورة المجتمع التعاقدي بعدما اكتشفوا ان الحياة في مجتمع الحالة الطبيعية السابق لقيام الدولة مكلف وغير لائق بالانسانية. عقلانية الانسان اي قدرته على حساب الارباح والخسائر هو الذي قاده الى هذا الاستنتاج.

اهتم فلاسفة القرن السابع عشر بالحالة الطبيعية او المجتمع الفطري في سياق نقدهم للعلم القديم القائم على نظرية ارسطو الكونية. واعتقدوا ان تعريف الانسان في طبعه الاولي سوف يسهم في اكتشاف قانون الفطرة الذي اودعه الله في عقل الانسان، وبالتالي الصيغة الامثل للحكومة. تعرضت نظرية هوبز لنقد موسع من جانب جون لوك وجان جاك روسو وبرزت في  اطار هذه المناقشات مفاهيم سياسية جديدة مثل مفهوم الملكية الفردية والارادة العامة وحقوق الافراد.

مع جان جاك روسو تحول مفهوم العقد الاجتماعي الى فلسفة  متكاملة للحكم وعلاقة المجتمع بالدولة. الاشكالية العامة التي حاول روسو معالجتها هي : أ) كيف يحتفظ المجتمع بالسيادة بينما يفوض ممارستها الى الحكومة ؟، ب) كيف يحافظ الافراد على حرياتهم واملاكهم في ظل نظام اجتماعي يؤدي بالضرورة الى تفاوت في القوة والنفوذ والمكانة ؟. ركزت ابحاث روسو على اولوية المجتمع وسيادته، والمساواة بين اعضائه، كما عالج مبدأ سيادة القانون من خلال نقاش موسع لمفهوم الارادة العامة. بينما انصب اهتمام توماس هوبز على النظام العام وصيانته من خلال شرعية سياسية توافقية. وكان هم جون لوك هو التاكيد على مرجعية القانون الفطري.

رغم ان "العقد الاجتماعي" اصبح ارضية فلسفية للحكم في جميع الدول الحديثة، الا انه لم ينج من اعتراضات في الماضي والحاضر. فقد عارض الفيلسوف هيجل تعريف العقد كتوافق بين الارادات الفردية لاعضاء المجتمع، وقال ان النظام السياسي ضرورة منطقية وواقعية، وليس من الامور التي تقيمها قرارات الافراد. كما عارض كارل ماركس المقاربة الفردانية التي اعتمدها منظرو المجتمع التعاقدي قائلا ان الفرد الذي يفترض هؤلاء المنظرين دخوله الى المجتمع كمتعاقد هو مجرد فرضية عن طبيعة الانسان انتجها نظام اجتماعي يعتمد "اقتصاد السوق". وعارضه اسلاميون بناء على ان اعتبار الانسان محور القيم ومصدرها يتعارض مع روح الدين وكون التعاليم الربانية معيارا نهائيا للحق والباطل اعلى من كل قيمة يتوصل اليها البشر.

في الفصل التالي سوف نحاول استكشاف امكانية بناء مفهوم العقد الاجتماعي على ارضية التعاليم الدينية، طمعا في تطوير منظور جديد للسلطة والتنظيم الاجتماعي في مجتمع المسلمين المعاصر.

مقالات ذات علاقة

 "شراكة التراب" كتطبيق لمبدأ العدالة الاجتماعية

 الاساس النظري لدور الامة في الدولة

اعادة بناء الاجماع الوطني

انهيار الاجماع القديم

الايديولوجيا السياسية للتيار المحافظ في ايران

 ايزايا برلين : المساواة: اشكالات المفهوم واحتمالاته

التفكير الامني في قضايا الوحدة الوطنية

الحرية ، دراسة في المفهوم والاشكاليات

حول الحاجة الى فقه سياسي جديد

الخلاص من الطائفية السياسيةإعادة بناء الهوية الوطنية

دولة الاكثرية وهوية الاقلية

ديفيد ميلر: المساواة والعدالة 

الديمقراطية في بلد مسلم (كتاب)

سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي (كتاب)

السلطة باعتبارها وكالة عن المجتمع
شراكة التراب وجدل المذاهب

شراكة التراب وعدالة النظام الاجتماعي

الشراكة في الوطن كارضية لحقوق المواطن

فكرة المساواة . للفيلسوف المعاصر برنارد وليامز

محسن كديور:  مراجعة لحقوق النساء في الاسلام: من العدالة النسبية الى الانصاف

مفهوم الحق ومصادره

مكانة العامة في التفكير السياسي الديني: نقد الرؤية الفقهية التقليدية للسلطة والاجتماع السياسي

 من التوحيد القسري الى التنوع في اطار الوحدة

من دولة الغلبة الى مجتمع المواطنة: مقاربة دينية لمبدأ العقد الاجتماعي

نظرية السلطة في الفقه الشيعي: ما بعد ولاية الفقيه (كتاب)

الوطن ، الهوية الوطنية ، والمواطنة: تفصيح للاشكاليات

وطن الكتب القديمة

الوطن شراكة في المغانم والمغارم



[1] Jules Steinberg: Locke, Rousseau, and the Idea of Consent: An Inquiry into the Liberal-Democratic Theory of Political Obligation, (Greenwood Press, 1978), p. 26.

[2]  ف. نرسيسيان : الفكر السياسي في اليونان القديمة، ص  101

[3] لبعض الامثلة حول  هذا الادعاء في المجال الاسلامي ومصادره ومبرراته، لاسيما في العصر العباسي، انظر محمد عابد الجابري: العقل السياسي العربي ، مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت   ) ص 350

[4] Raymond G Gettell,  History of Political Thought,  (New York, 1924) Century, p. 88-90

[5] Robert Filmer, Patriarcha or the Natural Power of Kings, (1680), ch. 3:1.  www.constitution.org/eng/patriarcha.htm.

[6] Gettell, op cit., P. 75

[7] Gettell, ibid., P. 151

[8]  لعل اول من جادل دون النظرية الميكانيكية هو نيقولا كوبرنيكوس (1473-1543) ، لكنها ظلت مغمورة حتى تبناها كل من جاليليو وكبلر ثم فرانسيس بيكون في اوائل القرن السابع عشر ، حيث اصبحت من بعدهم عماد الرؤية الكونية في الغرب. حول تطور هذه النظرية ، راجع

John Barrow & Frank Tipler: The Anthropic Cosmological Principle, p. 50

[9] Thomas Hobbes, De Cive, (1651), edited by S. Lamprecht, Appleton-Century-Crofts, (New York, 1949), Ch. 1, p. 29, 

[10] Aristotle, Politics, Bk. VI, Ch. 4

[11] John Locke , The Second Treatise of Civil Government and a Letter Concerning Toleration, edited by J. Gough (Oxford,1946) Basil Blackwell, ch.8, p. 48.

[12] Jean-Jacques Rousseau, Discourse on the Origin of Inequality, Oxford University Press, 1999, p. 33

[13] Rousseau, ibid., p. 69

[14] Jean-Jacques Rousseau: The Social Contract and Discourses, translated by G. Cole,(New York, 1950), Dutton, p. 13.

[15] D. Boucher & P. Kelly (eds),  The Social Contract from Hobbes to Rawls, (New York, 1994), Routledge, p. 7.  

[16] Jeremy Jennings: "Rousseau, Social Contract and the Modern Leviathan" In D. Boucher & P. Kelly ibid., p.119.

[17]  نشير الى ان بعض معارضي نظرية الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي يرون في فكرة "الحالة الطبيعية" مجرد خيال سخيف. انظر :

  Peter J. Stanlis,  Edmund Burke and the Natural Law, University of Michigan Press, 1958,  P. 18

[18] Edmund Burke, Reflections on the Revolution in France, edited by Thomas H. D. Mahoney , (Oxford, 1993) Oxford University Press, p. 110

[19] Bruce Haddock, "Hegel's Critique of the Theory of Social Contract"  in Boucher & Kelly, pp. 150-1

[20] Lawrence Wilde,  "Marx Against the Social Contract" in Boucher & Kelly, ibid., pp. 164-8

[21]  محمد جواد لاريجاني : نقد دينداري ومدرنيسم ، ص 192

[22] لاريجاني ، محمد جواد : "اسلام : دولت قديم وجديد" ، حكومت اسلامي ، (صيف 2000) عدد 16. ن. إ.:     www.nezam.org/persian/magazine/016/03.htm  

[23]   لاريجاني : نقد .. ، صص 141-2

[24]  مصباح يزدي : نظريه سياسي اسلام (قم 2001) ص 150

[25] Cited in Daryl Glaser, ‘Normative Theory’, in Marsh and Stoker (ed.), Theory and Methods in Political Science (London 1995) p. 27.

[26]  لاريجاني : نقد .. ، ص 150

[27]  مجله علوم حديث ، مقابلة . ن. إ.www.hadith.net/persian/products/magazine/olum-f/07/002.htm

لماذا ينبغي ان نطمئن الى تطور الذكاء الصناعي؟

  اطلعت هذه الأيام على مقالة للاديبة العراقية المعروفة لطفية الدليمي ، تقترح خطا مختلفا للنقاش الدائر حول الذكاء الصناعي ، وما ينطوي عليه ...