بعض القراء مطلع – بالتأكيد - على الجدل القديم ، حول كون الانسان مسيرا او مخيرا. وهو جدل أثاره سؤال بسيط: إذا كان الانسان يفعل ما يفعل بارادة الله وعلمه المسبق ، فانه ليس مسؤولا عن افعاله ، وبالتالي لايصح عقابه. فكيف يقدر الله شيئا ويريده ، ثم يعاقب عبده اذا فعل ما أراده؟.
أقول هذه مسألة معروفة في التاريخ الاسلامي. وقد
حسمت في القرون الأخيرة ، لصالح فهم موسع ، يربط الاثم بكون الفاعل قاصدا متعمدا ،
وكونه عارفا بحقيقة ما يفعل. وتوصل الناس الى هذا الفهم بعدما فصلوا بين مرحلتين:
القدرة على الفعل وارادة القيام بالفعل. فانت قادر على العيش في الغابة مثلا ،
وانت قادر على التبرع بكل أموالك ، لكن القليل من الناس سيفعل هذا. أما الأكثرية
الساحقة فهي "تريد" خيارات بديلة. هذا يعني انك تستطيع فعل أشياء ، لكنك
لا تريدها ، فلا تفعلها. وهذا بالضبط معنى ان تكون مختارا وصاحب إرادة. وبناء عليه
قيل ان الانسان مخير في الاعم الاغلب من افعاله.
يبدو هذا الكلام معقولا ولا غبار عليه. لكن تعالوا
نناقش القول السائر ، الذي فحواه أن انسان اليوم ، واقع – من حيث يشعر او لايشعر –
تحت سيطرة انظمة الاعلام والدعاية الهائلة القوة ، او انه خاضع لاعراف المجتمع
وقوانينه وثقافته ، التي تجعله يفعل ما تريده هي وليس ما يريده هو.
يقول اصحاب هذا الرأي ان انسان اليوم لم يعد صاحب
إرادة ، لأنه لا يختار ما يريد. اجهزة الدعاية والاعلام تتلبس عباءة العلم حينا
والسياسة حينا آخر ، والاقتصاد في طور ، وحتى الحرص على الصحة العامة في بعض
الأحيان. يقولون ايضا ان الذي يختار الرئيس الامريكي مثلا ، ليس الناخبين الافراد
الذين يأتون الى صناديق الاقتراع ، بل اجهزة
الدعاية التي تبارت في اقناع الناخبين بالشخص الذي اختارته ودعمته ، فجاؤوا
للصناديق وقد اقتنعوا بما اريد لهم ان يقتنعوا به.
كذلك الحال في السلوك الغذائي للافراد ، فهم لا
يأكلون الطعام الذي الفه آباؤهم ، والذي ربما يعبر عن حاجات البيئة المحلية ، بل يأكلون
ما روجته اجهزة الدعاية ، اي ما عرضته عليهم باعتباره رمزا للسعادة او العظمة
او الصحة. والشيء نفسه يقال عن نوع الملابس التي نرتديها ، والخيارات الثقافية التي
نميل اليها ، وانظمة العمل التي نتبعها في شركاتنا ، وغيرها. نحن نعيش – كما يقول
هؤلاء – مسيرين لا مخيرين. صحيح انه لم يضربنا احد على أيدينا ، وليس في طرقنا
حواجز مادية تمنعنا من مغادرة الطريق الذي سلكناه. لكننا مع ذلك لا نسير كما نختار
، بل نسير وفق هوى الدعاية او هوى المجتمع ، او تبعا للفضول الذي حفزه هذا او ذاك.
هذا نوع من التسيير غير المرئي الذي ينبع من داخل
الانسان ، فيدفعه لمسارات سلوكية محددة ، يظن انه يختارها بحرية ، لكنه - في واقع
الامر - لا يرى غير خيارات محددة سلفا. وبالتالي فان اختياره مرسوم ، وليس خيارا
حرا ، حتى لو توهم - في الوهلة الاولى - انه حر.
احتمل ان المفكر الفرنسي جان
جاك روسو هو اول من أثار هذه المفارقة ، في سياق حديثه عن تلاشي المجتمع
الطبيعي السابق للدولة ، وقيام المجتمع المدني المحكوم بالقانون ، اذ يقول ساخرا: "يا لغباء هذا
الانسان الذي مشى الى سجن القانون بقدميه ، وكان في وسعه ان يبقى حرا الى
الأبد"!.
اراد روسو كشف المفارقة ، بين حياة فيها حرية مطلقة
لكنها غير آمنة (في الغابة مثلا) وحياة بنصف حرية ، لكنها آمنة ومريحة (في ظل
القانون). قال هذا كي يوضح للقاريء لماذا اختار الانسان ان يتنازل عن حريته الأولى
، فهل وجد في الثانية ما يستحق التضحية؟.
الشرق الاوسط الخميس
- 10 صفَر 1446 هـ - 15 أغسطس 2024 م https://aawsat.com/node/5050790/
مقالات ذات صلة
الحرية ،
دراسة في المفهوم والاشكاليات
القبيلة والطائفة كجماعات متخيلة
مغامرات العقل
وتحرر الانسان - كلمة في تكريم الاستاذ ابراهيم البليهي