01/11/2009

حدود الديمقراطية الدينية - عرض كتاب

عرض كتاب
 حدود الديمقراطية الدينية: دراسة في تجربة إيران منذ ١٩٧٩
تأليف : توفيق السيف
عدد الصفحات: ٤٠٧
الطبعة: الأولى/ ٢٠٠٨
تشرين الثاني  2009
 شغلت إشكالية العلاقة بين الظاهرة الدينية والظاهرة السياسية أذهان المفكرين على مدار تطور الفكر  السياسي. ومن أهم تجليات هذه الإشكالية في العصر الحديث علاقة الدين أو الإسلام تحديدا بالديمقراطية، وما يرتبط بها أو يتفرع عنها من إشكاليات فرعية نظرية وتطبيقية، والتي لا يكاد الجدل يخمد بشأنها حتى يثور من جديد.
وفي العقود الأخيرة، ولاسيما بعد أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ ، احتدمت المناظرة حول مدى الانسجام والتنافر بين الإسلام والديمقراطية، وافترق المتناظرون إلى عدة تيارات. فهناك من يقطع بالتناقض المتأصل بين الإسلام والديمقراطية؛ كون الأول يمثل عقبة كؤودا أمام القيم والممارسة الديمقراطية. وثمة من يبشر  بديمقراطية الإسلام؛ على أساس أن جوهر الديمقراطية من صميم الشريعة الإسلامية، وأن ادعاء التنافي بينهما خطيئة. أما التيار الثالث، فيركز على البعد الإجرائي للديمقراطية ويعطيها الأولوية على باقي الأبعاد الفكرية، ويحاجج تبعا لذلك أن التقاليد السياسية الديمقراطية ليست غريبة عن التاريخ السياسي الإسلامي. وأخيرا، هناك من يجادل أن في الإسلام ديمقراطية خاصة؛ تخالف غيرها في نشأتها ومرجعيتها وغايتها ونطاقها...إلخ. 
ومن هنا تنبع أهمية الكتاب الذي بين أيدينا، والذي يبحث في إمكانية تطوير نموذج مختلف للعلاقة بين الدين والدولة الحديثة يعزز المشاركة السياسية، أو تصميم "نموذج ديمقراطي محلي" قادر على التفاعل مع الهوية والقيم الدينية للمجتمعات الإسلامية. ومن النظرية إلى التطبيق، يستقرئ مؤلفه الدكتور توفيق السيف- الباحث والكاتب المتخصص في العلوم السياسية والفقه الشيعي- تجربة إيران بعد الثورة، وبصفة خاصة التجربة الاصلاحية (1997-2004)، التي شهدت اشتغالا جزئيا أو كليا للدين في الحياة السياسية والاجتماعية، لاختبار فرضياته.
وليس ثمة أفضل من هذا التوقيت لمراجعة كتاب حول حدود الديمقراطية الدينية في إيران؛ فالانتخابات الرئاسية الإيرانية (يونيو ٢٠٠٩ ) على بعد أسابيع عدة، حيث يتصاعد التنافس والصراع بين المحافظين،    وعلى رأسهم الرئيس أحمدي نجاد، والإصلاحيين، ويمثلهم رئيس الوزراء الأسبق مير حسين موسوي، لكسب أصوات الناخبين، وينخرطون في نفس المناظرات المسطرة على صفحات هذا الكتاب. كما أن تجربة إيران توفر للقارئ فهما أفضل لإمكانات عملية التحول الديمقراطي في الدول الإسلامية وصعوباتها وحدودها، وفرصة فريدة لمراقبة تطبيقات الإسلام السياسي واختبارها.
وقبل الولوج في أغوار التجربة الإيرانية، يقدم د. السيف تحليلا لتطور إشكالية السلطة في الفكر السياسي الشيعي منذ القرن الثامن حتى المرحلة المعاصرة. ثم يناقش دور آية الله الخميني في تجسير الفجوة بين التشيع التاريخي والفكر السياسي المعاصر، وذلك بفضل التعديلات التي أدخلها على المعتقدات الشيعية الخاصة بالإمامة والسلطة، والصيغة التي قدمها للتوفيق بين مصدري الشرعية السياسية الديني والشعبي، والولاية العامة للفقيه في نظام جمهوري.
بعد ذلك، يدلف الكاتب إلى مناقشة التحولات في البنية الاجتماعية في إيران، وانعكاساتها على الخطاب الديني. ومن ثم، ينشغل بقراءة أبعاد التغير في الاقتصاد والعلاقات الاجتماعية في السنوات التي أعقبت قيام الجمهورية الإسلامية، وتأثيرها في الثقافة السياسية والتنظيم الاجتماعي والمفاهيم الناظمة للعلاقة بين الدولة والمجتمع.
وفي فصلين متتابعين، يُقدم د. السيف صورة مقارنة عن أيديولوجية التيار الديني المحافظ ونظيرتها الإصلاحية، ويعرض لأبعاد التباينات الحادة بينهما، ولاسيما فيما يتعلق بمفاهيم الجمهورية، ومصدر الشرعية السياسية، ودور الشعب، وسيادة القانون، وعلاقة الدين بالدولة، ونموذج التنمية الأفضل ، وغيرها. كما يناقش الأطر المرجعية التي يستند إليها كل من التيارين المحافظ والإصلاحي في أطروحاته، وكذلك التفسيرات الجديدة التي يعرضها الإصلاحيون للعلمانية. يتلو ذلك عرض للأحزاب الرئيسة الفاعلة في إيران؛ بغرض استقراء واقع القوى السياسية التي تدعم كلا من الخطاب المحافظ ونظيره الإصلاحي، ومدى فاعليتها في استمرار زخمه. ويختتم الكاتب مناقشته بتحليل ظاهرة المحافظين الجدد في السياسة الإيرانية، وتفسيرها تفسيرا بنيويا.
في محاولته تطوير نموذج ديمقراطي محلي أو إسلامي، أثبت د. السيف صحة الفرضية المتعلقة بقابلية القيم وقواعد العمل الدينية، ولاسيما المتعلقة منها بالشأن العام، للتكيف مع متطلبات الحياة المتغيرة. فضلا على ذلك، اتضح من دراسة خبرة المجتمع الشيعي أن انفتاح الفكر الديني على التطورات السياسية، أو انغلاقه دونها، ارتبط دائما بدرجة انخراط المجتمع في السياسة. لكن الأهم، يجادل السيف، هو أن انخراط الدين في العملية السياسية يمثل عاملا حاسما في تطور الفكر السياسي الديني؛ بمعنى أن هذا الانخراط من شأنه أن يجعل الفكر الديني أكثر تقبلا لضرورات الدولة الحديثة ومتطلباتها، الأمر الذي سيقود، بالضرورة، إلى تخليه  عن المفاهيم التي ظهرت أو تطورت في ظل الدولة ما قبل الحديثة، وبقيت جزءا من التراث الديني حتى اليوم. أما اتجاه هذا التطور (دعم الديمقراطية أو تسويغ الاستبداد)، فإنه يتحدد في ضوء عوامل أخرى، ولاسيما توازنات القوة في البيئة الاجتماعية، الثقافة السياسية السائدة، إضافة إلى الاتجاه العام في النظام الدولي بالنسبة لعملية التحول الديمقراطي.
في هذا الخصوص، أكدت الخبرة الإيرانية، كما يبرهن الكاتب، أن الدين يمكن أن يلعب دورا محوريا في تشكيل إجماع وطني على النظام السياسي، وتجسير الهوة التي تفصل المجتمع عن الدولة، وبالتالي تشجيع مشاركة المواطنين في الحياة العامة. ومن ثم، فإن العلمانية، برأي د. السيف، ليست جوابا مفيدا لمشكلة العلاقة بين الدين والديمقراطية، ولن تكون عاملا مساعدا على التحول الديمقراطي في إيران، بل قد تعوق ظهور ثقافة سياسية محلية جديدة قادرة على تسويغ المشاركة الشعبية.
يُقسم الكاتب مسار المصالحة بين الإسلام والديمقراطية في الخبرة الإيرانية إلى مرحلتين: المرحلة الأولى التي أعقبت انتصار الثورة، واستهدفت في المقام الأول إدماج الدين في مؤسسة الدولة، وإلغاء التباين بين الاثنين. وقد أثمر ذلك فتح الطريق أمام تعديل مواز في الأحكام وقواعد العمل الخاصة بكل من الدين والدولة؛ لجهة إزالة التعارضات وتسهيل استجابة كل من الطرفين لضرورات الآخر. واستهدفت المرحلة الثانية، أو مرحلة ما بعد الخميني، مصالحة الدين مع الديمقراطية، من خلال تعديلات واسعة في المفاهيم الدينية المتعلقة بدور الشعب وحاكمية القانون من جهة، وتعديل مفهوم الدولة المركزية من جهة ثانية.
يرى د. السيف أن صعود التيار الإصلاحي كان ثمرة فشل النموذج الثوري-التقليدي في التعامل مع التغيرات الجذرية التي شهدتها إيران والعالم، في تسعينيات القرن المنصرم؛ لدرجة أن هناك من وصف انتصار محمد خاتمي في انتخابات ١٩٩٧ الرئاسية بأنه ثورة ثانية. ومن خلال الفحص الموضوعي لتجربة الإصلاحيين في الحكم وأيديولوجيتهم، يلخص الكاتب خصائص الخطاب الإصلاحي بأنه خطاب يجمع بين الأساس الديني والمفاهيم الديمقراطية-الليبرالية واقتصاد السوق الحر، ويتبنى عددا من المعالجات النظرية التي تمثل اختراقات في جدل الدين-الحداثة، وتتعلق بمسائل جوهرية مثل الطبيعة الدينية للدولة، ومصدر السلطة والسيادة، ودور الشعب وغيرها. وقد عالج المفكرون الإصلاحيون هذه المسائل من منطلقات دينية أصيلة، لكن تفسيراتهم الجديدة مكنتهم من التوصل إلى صياغات قريبة جدا من تلك المعروفة في الأدبيات السياسية الحديثة.
يستنتج الكاتب أنه في حين فشل التيار الإصلاحي في إحداث تغيير كبير في بنية السلطة أو المحافظة على دوره السياسي، فقد نجح في تغيير البيئة السياسية في إيران، وإرساء حزمة مهمة من الإصلاحات في البنية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبصفة خاصة في علاقة الدولة بالمجتمع. ولا شك في أنها، ضمن هذه الحدود على الأقل، يزعم الكاتب، جعلت إيران أقرب إلى الديمقراطية مما كانت عليه قبل عشر سنوات.
بعبارة أخرى، تمثل تجربة الإصلاحيين الفكرية والسياسية نموذجا يثير الاهتمام في تجسير الفجوة بين الدين والديمقراطية، ويقدم مفكرو هذا التيار حلولا جديدة للكثير من المسائل التي ما زالت تثير الجدل في الشرق الأوسط حول إمكان التوصل إلى نموذج ديمقراطي محلي.
يستحق د. السيف الإشادة على تحليله لظاهرة المحافظين الجدد، وهم جيل جديد من المحافظين (تحالف التنمية "آباد كران")، يتمثل في الرئيس احمدي نجاد ومعاونيه؛ فهو موضوع لم ينل حقه من اهتمام الباحثين في المناظرة الدولية الراهنة حول الوضع الإيراني. وينطوي هذا التطور، في رأي الكاتب، على تحول هيكلي في النخبة السياسية الإيرانية، المحافظة بخاصة، يتجسد في انتقال السلطة الروحية، وتبعا السياسية، من كبار الروحانيين والجيل التقليدي بشكل عام، إلى جيل جديد ينتمي إلى الطبقة الوسطى الحديثة، ويتكون أساسا من الشباب والتكنوقراط. أما دلالات صعود المحافظين الجدد، فيشير الكاتب إلى تزايد الاتجاه نحو التشدد في إيران، وتمكن مرشد الجمهورية من استكمال سيطرته على خيوط السلطة (حيث يقف شخصيا وراء هذا التحول)، وتصاعد دور العسكريين في العملية السياسية.
ينحو خطاب النخبة المحافظة الجديدة، كما يشرح الكاتب، منحى تقليديا في الأمور المتعلقة بالدين والممارسة السياسية، ويتخذ في الوقت نفسه مسلكا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا يميل إلى تدخل الدولة في شؤون المجتمع، ويحبذ، بصفة خاصة، النموذج الصيني في التنمية من دون أن يكون جاهزا تماما للتعامل مع متطلباته وتحدياته، ويميل إلى تشديد الانقسام في الساحة الداخلية. وينظم التصور الخارجي للمحافظين الجدد مبدأ "أمة قوية تفرض احترامها"، لكنه في التطبيق العملي أفضى إلى وضع يقترب من العزلة الدولية.
ويخلص الكاتب إلى أن سياسات الرئيس نجاد أثمرت عددا من النتائج السلبية اقتصاديا وسياسيا، داخليا وخارجيا.
وبعد، فإن الكتاب يقدم مساهمة معتبرة إلى المناظرة الراهنة حول العلاقة بين الإسلام والديمقراطية في النظرية
 والتطبيق. في هذا المجال، يستخلص الكاتب أن تطور الفكر السياسي الشيعي في الخبرة الإيرانية بعد الثورة يشير إلى أن قيام نظام ديمقراطي على أرضية دينية هو احتمال واقعي وقابل للتحقيق. ويمكن لمثل هذا النموذج أن يوفر بديلا عمليا للمحاولات المتعثرة للتحول الديمقراطي في العديد من المجتمعات الإسلامية، ولاسيما تلك التي يرتبط تعثرها بالعجز عن ترسيخ الديمقراطية في الثقافة المحلية، واستنهاض المواطنين للمشاركة في التغيير.
كما يوفر هذا التحليل نافذة جديدة تطل بنا على الفكر السياسي الشيعي، والمسائل الكبرى التي انشغل بها مفكروه، مثل الإمامة أو الخلافة، والشورى، والسلطة، سواء من حيث مصدرها وطبيعتها ووظائفها، أو من حيث شرعيتها وحدودها، ومن ثم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
علاوة على ذلك، يتميز الكتاب بمصادره الغنية العديدة والمتنوعة بين مصادر أولية وأخرى ثانوية وبحوث ميدانية. وقد وظف الدكتور توفيق السيف إطارا نظريا ملائما، استقاه من عدة نظريات سوسيولوجية (ماكس فيبر، ألموند  ، كون ، وجون رولز) لتفسير العلاقة بين الدولة والمجتمع، وفهم مدى التغيير الممكن في الفكر الديني كنتيجة لانخراط الدين في السياسة. كما استفاد من نظريات الثقافة السياسية لتفسير الحراك الديمقراطي في إيران. وعلى الرغم من بعض الهنات هنا وهناك، وبصفة خاصة ما يبدو أنه بعض التحيز ضد المحافظين، فإننا بصدد تحليل متميز ومبتكر لعلاقة الدين بالسياسة، ولمفهوم الديمقراطية الدينية أو الثيوقراطية وحدوده، وللخبرة الإيرانية بعد الثورة، وهو يشكل إضافة للمكتبة العربية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...