نحن بحاجة الى معالجة
مفهوم "الوطن" في المناهج الدراسية حتى يصبح جليا وواضحا مثل الشمس .
هذا المفهوم ليس راسخا في ثقافتنا العامة لانه جديد وقد استوردناه مع الكثير من
المفاهيم الاخرى التي صاحبت قيام الدولة الحديثة (التي تسمى أيضا الدولة القومية او دولة الامة). وقد تكرر مصطلح "الوطن" في التراث العربي القديم. لكن مضمونه اصغر كثيرا من الوطن الذي نتحدث عنه اليوم. فهو
يرمز الى مرابع الصبا واهلها ، اي بعبارة اخرى : القرية او القبيلة ، كما يقول ابن الرومي :
وحبب أوطان الرجال إليهم
مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم
عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا
اما مفهوم الوطن المعاصر
فيشير الى ما يعرف في علم السياسة بالدولة القومية ، اي مجموع السكان الذين يعيشون
في بلد له سيادة ضمن حدود اقليمية معترف بها دوليا . ضمن هذا التعريف فان سكان هذا
البلد يعتبرون امة بذاتها . وهم يتمايزون عن كل احد سواهم بانتمائهم الى هذا البلد
المحدد وبالجنسية التي يحملونها. كل حامل للجنسية يعتبر عضوا في هذه الامة ومواطنا
، بغض النظر عن دينه او مذهبه او جنسه او اصوله الاثنية او ميوله الثقافية
والسياسية . مفهوم المواطنة ضمن هذا التعريف يشير الى منظومة من الحقوق والواجبات
المتبادلة بين المواطن ووطنه . منظومة يتساوى فيها الكبير والصغير ، الغني والفقير
، الابيض والاسود ، الرجل والمرأة . كل فرد يحمل جنسية البلد يسمى مواطنا ، يتمتع
بنفس الحقوق التي يتمتع بها المواطن الاخر ، ويتحمل نفس الواجبات والمسؤوليات ،
بلا زيادة ولا نقصان.
في كل بلد توجد تقسيمات
اجتماعية طبيعية ، فهذا ينتمي الى قبيلة وذاك الى طائفة وثالث الى طبقة ، ورابع
الى مجموعة اثنية خاصة الخ ..ولكل من هذه الانتماءات حصة في تشكيل هوية الشخص.
ولذلك قد نجد فروقا بين ابناء القبائل او الطوائف او المناطق او المجموعات الاثنية
. لكن جميع هذه الانتماءات تعتبر ثانوية بالقياس الى الهوية الوطنية الاعلى .
الهوية الوطنية هي دائرة واسعة تسمح بالتنوع في داخلها ، مع بقائها جامعا لكل
ابناء الوطن مهما اختلفت انتماءاتهم واصولهم وهوياتهم الثقافية.
نحن بحاجة الى تنسيج هذا
المفهوم في ثقافتنا العامة وترسيخه كارضية للعلاقة بين ابناء وطننا . خلال السنوات
القليلة الماضية اكتشفنا مدى التجاهل والتباعد القائم بين ابناء وطننا . وظهر ذلك
في التجاذبات الطائفية والمناطقية والمذهبية والقبلية ، وفي الاسئلة الخاطئة التي
تنتشر في المنتديات مثل سؤال : "هل انت مسلم اولا ام سعودي اولا؟". كما
ظهر في القبول الواسع لفكرة التمايز بين المواطنين بناء على انتمائهم المذهبي او
اصولهم القبلية . بل ورأينا مثل هذا التمايز مقبولا حتى في اجهزة مهمتها اقرار
العدل ، مثل الحكم المشهور لاحد القضاة بالتفريق بين زوجين لان قبيلة الزوج ادنى
كعبا من قبيلة الزوجة . ومثل فتوى احد المشايخ لموظف استفتاه بنبذ زملائه الذين
ينتمون الى مذهب اخر ومقاطعتهم واحتقارهم والدعاء عليهم.
هذه الامثلة وغيرها دليل على
ان المواطنة المتساوية لم تترسخ بالقدر الكافي في نفوسنا وفي ثقافتنا ، وان
الهويات دون الوطنية ما زالت اكثر فاعلية في تشكيل مواقفنا وتصوراتنا حول وطننا
وابناء وطننا. نحن بحاجة اذن ان نبدأ من الاساس ، من مرحلة الطفولة والصبا ، حيث
يكون المواطن ثقافته الاولية ويصوغ شخصيته . اي من المدرسة التي تمثل المصدر الرئيس
للثقافة ومعرفة العالم في مرحلة الطفولة والصبا.
ترسيخ فكرة المواطنة
المتساوية يبدأ بالتعرف على الوطن الحقيقي ، الوطن الذي يتشكل من ابنائه جميعا ولا
يقتصر على التضاريس الجغرافية . المملكة لا تتكون من جبال وصحارى ووديان وواحات ،
بل تتكون اولا وقبل كل شيء من بشر يسكنون هذه التضاريس . يجب ان نعرف ابناءنا على
هؤلاء البشر ، نظرائه في وطنه ، كيف يعيشون ، كيف يفكرون ، ما هي اسماؤهم وقبائلهم
، ثقافتهم المحلية ، همومهم واهتماماتهم .. الخ .
المعرفة هي الطريق الطبيعي
للالفة والتآلف ، والمرء عدو ما جهل . ولذلك فان استئصال العداوة يبدأ بالمعرفة
والتعارف. يمكن للتعليم العام ان يساهم بفاعلية في ترسيخ فكرة المواطنة اذا جرى
توجيه الاهتمام الى المواطن ، واول خطوة هي تعريف كل مواطن الى نظيره ، وكشف حجاب
الجهل الذي طالما ادى الى الاستغراب واحيانا الخوف او العداوة .