27/03/2004

الليبرالية ليست خيارا

ثمة فوارق كثيرة بين الايديولوجيا الليبرالية ونظيرتها المحافظة او التقليدية ، في النظام السياسي الذي تدعو اليه كل منهما ، كما في الاقتصاد والفلسفة والمجتمع ..الخ . لكن الفارق الاساس – حسب ظني – هو في رؤية كل من المنهجين لموقع الفرد في الجماعة ، وعلاقته مع مكونات المجتمع الاخرى ، كالعائلة والسلطة والسوق والمدرسة وما الى ذلك.

هذا التصوير يقوم على فلسفة متعارضة تماما. في المنهج المحافظ تعتبر فكرة "الواجب" هي القاعدة الاساس التي يقوم عليها نظام القيم الاجتماعية. وترجع هذه الفكرة الى الفيلسوف اليوناني سقراط ، الذي قرر ان المدينة الفاضلة هي تلك التي "يقوم كل فرد من اعضائها بواجباته". وفي راي سقراط ان الحياة الاجتماعية هي منظومة واجبات متقابلة ، فاذا قام كل فرد بواجبه سارت حياة الجميع على اكمل وجه.

بينما يفترض المنهج الليبرالي ، ان الحياة الاجتماعية صنيعة مجموع ارادات الافراد الذين وجدوا مصلحتهم في العيش معا. وبالتالي فان منظومة القيم التي يقوم عليها السلوك الجمعي ، اي ما نصفه بالهوية الاجتماعية ، هي حصيلة اشتراك مجموع الافراد في تقرير ما هو اصلح لحياتهم.

قبل قيام النظام السياسي كان الناس يعيشون ما يصفه جون لوك بمجتمع الحالة الطبيعية ، حيث يحق للناس ان يفعلوا كل ما ارادوه ان لم يتعارض بشدة مع حقوق الغير.

النظام الاجتماعي اذن ليس بديلا عن مجتمع الحالة الطبيعية ، بل منظم للحرية الكاملة التي تسوده ، وبالتالي فان المجتمع الليبرالي ينظر الى الحريات الفردية كاصل في الحياة الاجتماعية ، كما ينظر الى الانظمة التي يسنها المجتمع كتقييدات على حرية الفرد.

يصنف المجتمع التقليدي الحقوق الفردية كاستثناء من القاعدة ، وعلى العكس من ذلك فان الحقوق والحريات في المجتمع الليبرالي هي الاصل بينما الواجبات هي الاستثناء . لكن لا ينبغي الظن بان المجتمع الاول عدو لحق الفرد ، او ان الثاني عدو للالتزام. في المجتمع التقليدي يحصل الفرد على حريته كمقابل لقيامه بالواجبات المفترضة ، اما في المجتمع الليبرالي فان اداء الواجبات يصنف في اطار المسؤولية التي تترتب على تمتع الفرد بحريته وحقوقه .

ينعكس هذا المعنى ايضا في الجدل بين الفرد والنظام الاجتماعي ، فالمجتمع الاول يميل الى فرض الزامات جديدة على الافراد ، الامر الذي يزيد تدخل السلطة في حياة الفرد ، ويتبع هذا تعدد الاجهزة الخاصة بالتوجية والرقابة والضبط وتضخم حجمها. بينما في المجتمع الثاني ينصب الجهد على تحجيم السلطة وكبح تدخلها في حياة الافراد. ومن هنا يزداد الميل الى تقليص الجهاز البيروقراطي وايكال امر التوجيه والرقابة للهيئات الاهلية التي لا تتمتع بسلطة الردع ، بينما تتخصص اجهزة الردع الرسمية في مكافحة الجريمة والعدوان.

ويبدو ان عالم اليوم يميل بمجمله الى الاخذ بالمنهج الليبرالي ، الذي اظهر – رغم المؤاخذات عليه – انه اقدر على توفير السلام الاجتماعي في المجتمعات المعقدة والكبيرة . يتباين هذا الميل العالمي من المستوى الاولي اي التخلي عن هيمنة الدولة على قطاعات الانتاج الصغيرة الى مستوى اوسع يتمثل في تخليها عن قطاع الخدمات العامة الكبير نسبيا – مثل التعليم والصحة والكهرباء والمواصلات- حتى يصل الى المستوى الاعلى ، اي التحول من فلسفة المجتمع العضوي الى المجتمع التعاقدي . والواضح ان اقطار الخليج العربية تتحرك بين المستويين المتوسط والاعلى ، والمؤمل ان تواصل تطورها في هذا الاتجاه .

يبدو ان التطور المشار اليه يتحقق بصورة طبيعية – وبطيئة الى حد ما - ، لكننا بحاجة في كل الاحوال الى وعي بحقيقة هذا التحول ومعرفة كافية بما يحتاجه وما يترتب عليه ، كي لا نفاجأ بانعكاسات التغيير قبل توقعها او الاستعداد لها. وفي ظني اننا بحاجة الى الكثير من المناقشات العامة لاستيضاح كيفية انعكاس التحول الجاري على ثقافتنا ونظامنا الاجتماعي ، ولا سيما على منظومات القيم والمؤسسات التي نريد الحفاظ عليها او تطويرها كي تناسب حياتنا الجديدة.

 

Okaz ( Saturday 27 March 2004 ) - ISSUE NO 1014 http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/3/27/Art_88261.XML



مقالات ذات علاقة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...