06/03/2004

عن الحرية والاغـتراب


كلنا نريد الحرية لانفسنا وكلنا نخافها . حرية الانسان هي القدرة على اختيار ما يريد . وعلى الضد من هذا فان العبودية هي العجز عن الاختيار اي تعليق الارادة الفردية على موافقة الغير ، السيد او المالك ، الخ ...
لو امكن تلخيص الخط العام لحياة البشرية منذ بواكيرها وحتى اليوم في جملة واحدة ، لكانت هذه الجملة هي "الكفاح لتوسيع دائرة الخيارات" اي التخلص من القيود والمعوقات التي تفرضها الطبيعة ، او يفرضها نظام العلاقات الاجتماعية على حركة الانسان الفرد. كانت الحرية ولا تزال هما شاغلا للفلاسفة والاجتماعيين مثلما شغلت الادباء والشعراء والفنانين فضلا عن عامة الناس .
مثل كل المفاهيم ، فان الصور الذهنية التي يولدها لفظ الحرية ، تختلف من مجتمع الى آخر ومن عصر الى آخر . وعلى نفس النسق فان تصور كل شخص لحريته الخاصة يختلف كثيرا عن تصوره لحرية الاخرين ، لا سيما اولئك الذين يخضعون واقعيا - او يمكن ان يخضعوا - لسلطته .
ونجد اقرب مثال على هذا التفاوت في العلاقة بين الاباء والابناء ، وبين العلماء ومريديهم ، وبين الزعماء واتباعهم.  في هذه الامثلة الثلاثة جميعها ، يؤمن الطرف الاقوى – الاب او العالم او الزعيم – بان حقه في حرية اوسع ، قائم على معرفة اوسع وعقلانية اكبر . اي بمعنى آخر ، قدرة افضل على ادارة الخيارات الاضافية التي تتيحها الحرية . هذا التفاوت المدعى هو المكون الرئيس لفكرة السلطة الاجتماعية ، ان شخصا يدعي لنفسه الحق في التحكم في الاخر لانه يرى في نفسه أهلية للتمتع بثمراتها تتجاوز أهلية الاخر . جوهر مشكلة الحرية اذن يكمن في القدرة على استثمارها على نحو مناسب ، اي الموازنة بين الحرية والمسؤولية .
المجتمعات المحافظة تخشى من الحرية ، لما تتصوره فيها من زوال او ضعف الضوابط الاجتماعية ، التي تحفظ القيم ومعايير السلوك الفردي . ولعل القراء لاحظوا ان كثيرا من كتابات الدعاة وخطبهم ، تتعمد المبالغة في التحذير من عواقب التحرر ، وتذكير القاريء والمستمع بان الحرية قد جرت على العالم الغربي مفاسد اجتماعية واخلاقية . بمعنى آخر ، ان الخوف من الحرية ومعارضتها كان – ولا يزال – يبرر على اساس الحاجة الى صيانة القيم الاخلاقية .
هذا الخوف ناشيء بطبيعة الحال عن حقيقة ان "الانضباط السلوكي" يمثل الهم الاكبر للمجتمع المحافظ .  ولو كان التقدم العلمي والاقتصادي ، اي الارتقاء الانساني والحضاري ، هو الهم الاكبر للمجتمع لكان الخوف من الحرية في المستوى الادنى ، او ربما كان منعدما .
ما ينبغي ان يقال في هذا الصدد هو ان حرمان المجتمع من الحرية ، لا يجعله فاضلا او نظيفا بل يزرع فيه بذور النفاق. وتدل تجارب التاريخ المعاصر على ان الناس قد نجحوا في توفير بدائل لما منعوا منه . الحريات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية تمارس في السر ، وهي تشكل اسلوب حياة متكامل لشريحة غير صغيرة في المجتمعات التي تطبق قوانين ضبط متشددة.
لكن قيام مجتمع سري ليس هو المشكلة الوحيدة التي تترتب على تحديد الحريات العامة . ان اخطر الاثار في ظني هو اغتراب الانسان.
يتخذ الاغتراب شكلين رئيسيين :  الاستسلام السلبي والتمرد . وبينما يتحول الفرد المتمرد الى آلة هدم للمكتسبات الاجتماعية – وربما للنظام الاجتماعي بمجمله - ، فان الاستسلام السلبي يولد في نفس الفرد عزوفا شديدا عن المساهمة في اي عمل اجتماعي مشترك حتى في المستويات الدنيا . تصور هذا المعنى مقولة (حارة كل من ايدو الو) التي اطلقها في صورة كاريكاتورية الفنان السوري  دريد لحام . في هذه الحارة ، كل فرد هو جزيرة مستقلة ، لا يشارك ولا يتحمل المسؤولية ، يعيش حياته بيولوجيا ، ويفكر في داخله لنفسه وحول نفسه ، انسان مغترب وغريب مثلما كل من حوله مغترب او غريب.

 

http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/3/6/Section_2.xml

Okaz ( Saturday 6 March 2004 ) - ISSUE NO 993


مقالات ذات علاقة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

اخلاقيات السياسة

  أكثر الناس يرون السياسة عالما بلا أخلاق. ثمة اشخاص يأخذون بالرأي المعاكس. انا واحد من هؤلاء ، وكذا العديد من الفلاسفة الاخلاقيين وعلماء ...