كلنا نريد الحرية لانفسنا
وكلنا نخافها . حرية الانسان هي القدرة على اختيار ما يريد . وعلى الضد من هذا فان
العبودية هي العجز عن الاختيار اي تعليق الارادة الفردية على موافقة الغير ، السيد
او المالك ، الخ ...
لو امكن تلخيص الخط العام
لحياة البشرية منذ بواكيرها وحتى اليوم في جملة واحدة ، لكانت هذه الجملة هي
"الكفاح لتوسيع دائرة الخيارات" اي التخلص من القيود والمعوقات التي
تفرضها الطبيعة ، او يفرضها نظام العلاقات الاجتماعية على حركة الانسان الفرد.
كانت الحرية ولا تزال هما شاغلا للفلاسفة والاجتماعيين مثلما شغلت الادباء
والشعراء والفنانين فضلا عن عامة الناس .
مثل كل المفاهيم ، فان الصور
الذهنية التي يولدها لفظ الحرية ، تختلف من مجتمع الى آخر ومن عصر الى آخر . وعلى
نفس النسق فان تصور كل شخص لحريته الخاصة يختلف كثيرا عن تصوره لحرية الاخرين ، لا
سيما اولئك الذين يخضعون واقعيا - او يمكن ان يخضعوا - لسلطته .
ونجد اقرب مثال
على هذا التفاوت في العلاقة بين الاباء والابناء ، وبين العلماء ومريديهم ، وبين
الزعماء واتباعهم. في هذه الامثلة الثلاثة
جميعها ، يؤمن الطرف الاقوى – الاب او العالم او الزعيم – بان حقه في حرية اوسع ،
قائم على معرفة اوسع وعقلانية اكبر . اي بمعنى آخر ، قدرة افضل على ادارة الخيارات
الاضافية التي تتيحها الحرية . هذا التفاوت المدعى هو المكون الرئيس لفكرة السلطة
الاجتماعية ، ان شخصا يدعي لنفسه الحق في التحكم في الاخر لانه يرى في نفسه أهلية
للتمتع بثمراتها تتجاوز أهلية الاخر . جوهر مشكلة الحرية اذن يكمن في القدرة على
استثمارها على نحو مناسب ، اي الموازنة بين الحرية والمسؤولية .
المجتمعات المحافظة تخشى من
الحرية ، لما تتصوره فيها من زوال او ضعف الضوابط الاجتماعية ، التي تحفظ القيم
ومعايير السلوك الفردي . ولعل القراء لاحظوا ان كثيرا من كتابات الدعاة وخطبهم ، تتعمد المبالغة في التحذير من عواقب التحرر ، وتذكير القاريء والمستمع بان الحرية
قد جرت على العالم الغربي مفاسد اجتماعية واخلاقية . بمعنى آخر ، ان الخوف من
الحرية ومعارضتها كان – ولا يزال – يبرر على اساس الحاجة الى صيانة القيم
الاخلاقية .
هذا الخوف ناشيء بطبيعة
الحال عن حقيقة ان "الانضباط السلوكي" يمثل الهم الاكبر للمجتمع المحافظ
. ولو كان التقدم العلمي والاقتصادي ، اي
الارتقاء الانساني والحضاري ، هو الهم الاكبر للمجتمع لكان الخوف من الحرية في
المستوى الادنى ، او ربما كان منعدما .
ما ينبغي ان يقال في هذا
الصدد هو ان حرمان المجتمع من الحرية ، لا يجعله فاضلا او نظيفا بل يزرع فيه بذور
النفاق. وتدل تجارب التاريخ المعاصر على ان الناس قد نجحوا في توفير بدائل لما
منعوا منه . الحريات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية تمارس في السر ، وهي تشكل
اسلوب حياة متكامل لشريحة غير صغيرة في المجتمعات التي تطبق قوانين ضبط متشددة.
لكن قيام مجتمع سري ليس هو
المشكلة الوحيدة التي تترتب على تحديد الحريات العامة . ان اخطر الاثار في ظني هو
اغتراب الانسان.
يتخذ الاغتراب شكلين رئيسيين :
الاستسلام السلبي والتمرد . وبينما يتحول الفرد المتمرد الى آلة هدم
للمكتسبات الاجتماعية – وربما للنظام الاجتماعي بمجمله - ، فان الاستسلام السلبي
يولد في نفس الفرد عزوفا شديدا عن المساهمة في اي عمل اجتماعي مشترك حتى في
المستويات الدنيا . تصور هذا المعنى مقولة (حارة كل من ايدو الو) التي اطلقها في
صورة كاريكاتورية الفنان السوري دريد لحام
. في هذه الحارة ، كل فرد هو جزيرة مستقلة ، لا يشارك ولا يتحمل المسؤولية ، يعيش
حياته بيولوجيا ، ويفكر في داخله لنفسه وحول نفسه ، انسان مغترب وغريب مثلما كل من
حوله مغترب او غريب.
http://www.okaz.com.sa/okaz/Data/2004/3/6/Section_2.xml
Okaz ( Saturday 6 March 2004 ) - ISSUE NO 993
مقالات ذات علاقة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق