كثير من الاصدقاء
ازعجه مقال الاسبوع الماضي لانه – بحسب تقديرهم – برأ الخطاب
الديني من توليد العنف السياسي او تبريره. والحق اني أرى مبالغة غير محمودة في
اعتبار هذا الخطاب ، مولدا وحيدا او رئيسيا للتطرف والعنف. ذلك اني اميز بين توليد
الفعل وبين تبريره. كما اني غير مقتنع بأن عامة الناس يعملون بتدبير مسبق على
تشكيل ثقافتهم ، اي الخلفية الذهنية التي تتحكم في الاعم الاغلب من افعال الفرد
وردود فعله. أقنعني البحث والتأمل في أحوال الناس بأن ذهنيتهم تتغير غالبا بعدما
يتغير موقفهم من تحولات الحياة الواقعية ، او حينما يتغير موقعهم في النظام
الاجتماعي.
المرحوم د. راشد المبارك |
بعبارة اخرى فان دور اللغة الدينية
يقتصر غالبا على توصيف او توجيه موقف اتخذه سلفا فرد او جماعة. هذا الموقف قد
لايكون منشؤه دينيا ، بمعنى ان موضوعه ليس من داخل الدين ، او بمعنى انه ليس
مستمدا من قيم دينية. بل استخدم الدين كعباءة لموقف شخصي او اجتماعي او سياسي او ايديولوجي.
لا نستطيع بطبيعة الحال الحكم
على من فعل هذا بانه كان حسن النية او سيء النية. بل اظن ان استخدام اللغة الدينية
او التبرير الديني منشؤه في الغالب سهولة تقديمه الى عامة الناس ، او ربما غياب
الفاصل بين الذات الفردية او الجمعية وبين الذات الدينية ، او اختلاط الهوية
الاجتماعية بالهوية الدينية ، على نحو يلغي المسافة بين ما هو ديني وما هو شخصي.
وهذه ظاهرة ملحوظة في الحياة العامة ، سيما في المجتمعات المحافظة. ومن ابرز
تمثيلاتها التي نراها كل يوم تقريبا ، ردود فعل الاشخاص على انتقاد مجتمع او جماعة
دينية. حين تقول ان مجتمعا ما مثلا احتقر انسانا او انتهك حقوق الانسان ، سوف تسمع
على الفور جوابا فحواه ان الاسلام ضمن حقوق الانسان او انه سبق الغرب في اقرار
حقوق الانسان. المعنى الضمني لهذا الجواب هو ان المجيب افترض ان نقد المجتمع
(الذات الجمعية) يعادل نقد الدين ، وان اقحام الدين في الجواب سوف يحوله من رأي
شخصي الى موقف جمعي. هذا النوع من رد الفعل ليس موقفا دينيا بل اجتماعي او سياسي
يستخدم لغة الدين.
الصراع ضد الحداثة هو احد نماذج
استعمال اللغة الدينية في صراعات اجتماعية/سياسية. خلال سبعينات القرن العشرين
عملت شخصيات وجماعات اسلامية على خلط الموقف السياسي من الدول الغربية ، بالموقف
من منتجات الحضارة الغربية والفكر الانساني بشكل عام ، في سياق عمل مخطط او عفوي
لبث الهمة في نفوس المسلمين. وكان السياق العام لهذا العمل هو اقناعهم بانهم
يتعرضون لعدوان غاشم ، وانهم قادرون على هزيمته اذا نهضوا. هذا نوع من التعبئة
الروحية استهدف الترويج لتيارات محددة ، ويبدو انه قد حقق نجاحا باهرا في الاقطار
التي تفتقر للتعدد الثقافي او الحياة السياسية المفتوحة. لكننا نعلم ان هزيمة
الغرب تتجاوز قدرة الداعين اليها. فكانت نتيجة التعبئة هي تحويل الشعور
بالظلم والرغبة في مقاومة العدوان ، الى ارتياب وكراهية للغرب وكل ما يرمز اليه.
يعتقد المرحوم د. راشد المبارك ان
الموقف من الغرب هو احد مولدات التشدد ومن ثم الكراهية (راجع المبارك: فلسفة
الكراهية). ويعتقد داريوش شايغان ان العجز عن الانتقال من الارتياب في الغرب الى
استخدامه او منافسته ومن ثم تجاوزه ، كان من اسباب التأزم الداخلي في المجتمعات
الاسلامية. وهو تأزم ادى الى تطبيع التصارع الداخلي الذي يشكل بيئة طبيعية للتشدد
والعنف (د. شايغان: النفس المبتورة).
لازلنا اذن نتحدث عن مواقف تصاغ بلغة
دينية. أوليس هذا تأكيد لمسؤولية التيار الديني والثقافة الدينية عن توليد
العنف او تبريره؟.
في رايي لا. علينا ان نفصل بين
المواقف المؤسسة على ارضية القيم الدينية ، وبين استخدام اللغة الدينية كوعاء لعرض
المواقف والاراء التي تمثل مصالح اجتماعية او سياسية. اعلم ان مثل هذا التمييز
عسير. لكنه ضروري كي نرى الاشياء كما هي في الواقع ، بدل ان نستكين للتفسيرات
المجردة ولو كانت مريحة.
الشرق الاوسط 19-8-2015
http://aawsat.com/node/432766
مقالات ذات علاقة