بعض القراء الأعزاء عارض ما قال انه اتهام للدين الحنيف باغفال الدنيا. وهو يعني المقالات الثلاثة السابقة. كما جادل في صحة استخدام المعايير الدنيوية لاثبات او نفي الحقائق الدينية. وهو يعني بهذا دعوة الكاتب الى دراسة النتائح التي تمخضت عنها تطبيقات الأحكام الشرعية وآراء الفقهاء.
وقد وجدت هذا النقد متداولا بين كثير
من الناس ، حتى ان احد الخطباء الكرام قاله على المنبر. والحق ان ما قيل لا يخلو
من وجاهة ، حتى لو خالفته. ولذا أرى في مجادلته تعميقا للفكرة التي وددت بيانها في
تلك المقالات ، أي البعد الإنساني/الدنيوي في التفكير الديني ، ودور المسلمين
المعاصرين ، في انتاج تجربتهم الدينية ، من دون التزام بفكر الأسلاف واجتهاداتهم.
وأبدأ بقصة اهتمام الإسلام بالدنيا. فهذا أمر بديهي يعرفه جميع المسلمين. لكن القضية ليست في
الاهتمام ، بل في المباشرة والتفاعل. كمثال: افترض ان مدير الشركة التي نعمل فيها
، اخبرنا انه مهتم جدا بالعمل ، ولهذا نشر مقالات ، يطلب منا قراءتها. سوف نقول ان
هذا المدير مهتم ، لكنه لا يباشر العمل الإداري
، ولا يتفاعل مع يوميات الشركة. انه اقرب الى الاهتمام بالمراسلة ، حيث يتجلى الاهتمام
الشعوري وليس العملي.
ان اهتمام الإسلام بالدنيا ، ينبغي ان يتجلى أولا في تفاعل قيم الإسلام واحكامه مع تحولات الدنيا وتطوراتها. التفاعل ينطوي على تشارك في
الفعل بين الطرفين ، أي ان كلا منهما يؤثر
ويتأثر ، وهكذا يتطوران معا. اما ما نراه في واقع الامر ، فليس تفاعلا ، بل هو أقرب الى انفعال بتحولات
العالم ، يجري الرد عليه بأحكام أحادية
البعد ، لا تأخذ بعين الاعتبار حقيقة المشكلة وابعادها ، بل تعتمد على تصور ذهني
يحدد اطارها القيمي فقط.
لقد ضربت في الأسبوع الماضي مثالا بالمشروع الضخم المسمى "المصرفية
الإسلامية" التي لم تهتم أصلا
بدور المال في الدورة الاقتصادية ، ولا باحتمالات الاستغلال ، ولا بالتوازن بين
راس المال والعمل في توليد فائض القيمة ، ولا بالفارق بين الانفاق الاستثماري
والاستهلاكي ، بل كرست كل اهتمامها لشيء أسموه "الفائدة المشروطة"
واعتبروه وعاء الحكم.
ومن الأمثلة التي تذكر أيضا ، مسألة التبرع بالاعضاء باجر او بدون أجر ، من الميت
او من الحي ، ومثله تشريح الجسد الميت ، وتفريقهم بين جسد المسلم وغير المسلم. والاحكام
المعروفة في كل هذه الموضوعات راجعة الى روايات ، فسرها قدامى الفقهاء على نحو
معين ، ثم جاء فقهاء اليوم فأخذوا بهذه التفسيرات وطبقوها على موضوعات ، لم يعرفها
المسلمون أصلا قبل القرن العشرين. فكيف امكن لفقهاء عاشوا قبل قرون ان ينسبوا الأسماء المعروفة لموضوعات لم تكن قد
وجدت أصلا.
أعلم طبعا ان غالب الناس (وانا منهم
في بعض الأحيان) سيردون على هذا القول بالجواب الاعتذاري المعروف ، وفحواه ان ما
قيل لا يدل على قصور في الدين ، بل هو تقصير من اهله ، ولاسيما اهل العلم فيهم.
لكن هذا قول ضعيف في رايي.
القول الذي أدعو اليه هو ان الدين مثل
أي منظومة ثقافية/ايديولوجية ، لا يتطور الا اذا أنصت لصوت الزمن ، أي حاجات الانسان
في كل عصر ، أيا كان دينه وطريقة عيشه ، ودخل في تفاعل إيجابي مع ذلك الصوت ، وتقبل
احتمال التخلي عن بعض ما أنتهى دوره من قيم وأحكام ، وتبني قيم واحكام وطرائق عمل
جديدة ، اقدر على تلبية حاجات الانسان في هذا الزمان. اعتقد ان هذا هو جوهر البعد
الإنساني للدين في هذا العصر.
الأربعاء - 2 ذو القعدة 1443
هـ - 01 يونيو 2022 مـ رقم العدد [15891]
https://aawsat.com/node/3677131/
مقالات
ذات علاقة
دعوة لترك المفاصلة والانفصال
عن العالم